الحرب النووية الباردة.. الأمن العالمي في مرمى الهيمنة الروسية
بينما تخفض بعض الدول العظمى إنتاجها من الطاقة النووية، تتجه بلاد أقل ثراء إلى الاستثمار فيها، فكيف تستثمر روسيا ذلك؟ وما أثره على الأمن العالمي؟ وما موقف الولايات المتحدة من ذلك؟ والخيارات المتاحة أمامها بعد فترة طويلة من الهيمنة الروسية؟ تعرف في هذه المقالة على موجز لتطورات السوق النووية الأخيرة، ومستقبلها المرتقب.
إن بحثنا عن دلائل على الطفرة الجيوسياسية الروسية، فسنجد في المجر كفايتنا. لقد مرت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمجر عام 2015 بكل هدوء. في ذلك الوقت، كان بوتين يتعرض لضغوط دولية مكثفة بعد استيلائه على القرم؛ ليصبح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أول زعيم أوروبي يستضيفه بعد الغزو. وفي محاولة لتعميق التعاون في مجال الطاقة، وافقت موسكو على منح المجر قرضًا بقيمة عشرة مليارات يورو لتمويل توسيع شركة روساتوم الروسية الحكومية لمحطة "باكس" للطاقة النووية بوسط المجر، وهي المحطة التي تمد الدولة بأربعين في المئة من احتياجها من الكهرباء.
أما عن زيارة بوتين الثانية إلى المجر في فبراير الماضي، فقد تمخض عنها مزيد من التوافق والتعاون الروسي-المجري؛ حيث تحدث أوربان عن عالم "تجري إعادة تنظيمه بصورة جوهرية"، وهو يقف إلى جانب الرئيس الروسي. وقبل نهاية هذه الزيارة، وافق بوتين على تمويل مشروع باكس النووي بالكامل.
لم يكن العرض الذي قدمته موسكو لبودابست حصريًا؛ بل كان ترجمة عملية للدبلوماسية النووية الروسية الجديدة؛ فمن الواضح أن الكرملين يستخدم قوته الهائلة في السوق النووية للضغط على الدول حول العالم وتركيعها خدمة لأهدافه ذات النزعة الوحدوية والانتقامية. إن لم تستعد الولايات المتحدة زعامة الاقتصاد النووي العالمي، فسيتكرر ذلك المشهد مرارًا وتكرارًا لعقود.
إن الاندفاع المتجدد نحو الطاقة النووية خبر جيد؛ ففي ظل التوقعات الحالية، يجب أن تتضاعف القدرة النووية العالمية بحلول عام 2050 للحد من الاحتباس الحراري العالمي باستخدام الطرق الآمنة، بمقدار درجتين مئويتين. وبينما تزيد الدول من طموح خططها المناخية كل خمس سنوات، كما ينص اتفاق باريس، يتوقع أن تضمن الطاقة النووية في الخطط المناخية لمزيد من الدول.
علاوة على ذلك، سيفتح الاستثمار المستمر في الجيل الجديد من المفاعلات أسواقًا جديدة للطاقة النووية؛ فكثير من الاقتصادات الناشئة تعجز حاليًا عن تحمل نفقات الطاقة النووية بسبب ما تتطلبه التكنولوجيات المتاحة من تدابير وقائية باهظة التكلفة وشديدة التعقيد. إلا أن هناك تصميما متوسط الأجل، يمكنه مساعدة البرامج النووية السلمية على الازدهار عالميًا، وهو مفاعل الوحدات الصغيرة (SMR). تزيل هذه المفاعلات الجديدة -المدمجة والمصنعة آليًا- كثيرًا من العوائق التي تمنع البلدان الأقل نموًا من تبني الطاقة النووية اليوم. وتتطلب مفاعلات الوحدات الصغيرة قدرًا أقل من الاستثمارات الرأسمالية الأولية، كما تتمتع بدرجة عالية من القابلية للتوسع والمرونة في المتطلبات البيئية، ويمكن نقلها باستخدام الشاحنات أو السكك الحديدية. ببساطة، يمكن لمفاعلات الوحدات الصغيرة أن تساعد البلدان على تجاوز الحواجز المالية والجغرافية التي تمنعها من تبني الطاقة الذرية.
في نهاية الأمر، قد تنجح مفاعلات الوحدات الصغيرة في إضفاء الصبغة التجارية على نماذج جديدة ومبتكرة تعرف باسم مفاعلات الجيل الرابع. فرغم عدم جاهزية هذه المفاعلات للإنتاج التجاري بعد؛ فإنها تمثل التصميمات الأكثر كفاءة والأرخص تكلفة، إضافة إلى استهلاكها للنفايات النووية بدلًا من إنتاجها. في الواقع، يمكن لكل من مفاعلات الوحدات الصغيرة ومفاعلات الجيل الرابع أن تزدهر في ظل مستقبل تهيمن عليه مصادر الطاقة المتجددة، فلقد صممت مع أخذ القابلية للتوسع في عين الاعتبار، على عكس التصميمات المعاصرة. إن الطاقة المتجددة متقطعة، لذا يزداد خطر العجز في الطاقة أو زيادة الحمولة، كلما ازداد الاعتماد عليها في الشبكة. في المقابل، يجب أن تزداد مرونة التوليد المستمر لطاقة الحمل الأساسي اللازمة لتلبية الحد الأدنى من الاستهلاك، مع إمكانية تشغيله وإيقافه سريعًا لتجنب انقطاع التيار الكهربائي وبيع الكهرباء بقيمة سالبة [لا يمكن إغلاق أغلب محطات توليد الكهرباء في البلاد التي تعتمد بشكل رئيس على الطاقة المتجددة، مثل ألمانيا، لذا قد يتلقى السكان مالًا لتشجيعهم على استهلاك المزيد من الطاقة؛ حينما تفيض الطاقة المولدة عن حاجة السوق].
يمكن تفسير هيمنة روساتوم، جزئيًا، من خلال نموذج الأعمال الذي تتبعه. تعمل الشركة بمخطط "شيد، امتلك، تولّ الإدارة" بمعنى أن روساتوم تشيد المفاعل، وتحتفظ بملكيته، وتقدم مجموعة كاملة من الخدمات؛ بدءًا من التمويل الأولي إلى التخلص من الوقود. تقدم روساتوم تمويلا رخيصا، وتبيع المفاعلات بسعر أقل كثيرًا من منافسيها العالميين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التمويل السخي الذي توفره الدولة. ففي عام 2010، على سبيل المثال، كانت تكلفة إنشاء وتطوير محطة نووية في روسيا أقل بنسبة تتراوح بين 20 إلى 50 بالمئة من نظرائها الغربيين. وفي الوقت نفسه، تسير روسيا قدمًا في مخططها لتفعيل استخدام أول مفاعلين من الجيل الرابع في العالم محليًا بحلول عام 2025. ومع غياب المنافسة الجادة، ستستمر الميزة التنافسية الروسية لعقود من الزمن، بفضل ذلك الخليط من التمويل الملائم والتكنولوجيا المتقدمة.
لكن الأمن العالمي يخسر الكثير بسبب الهيمنة الروسية؛ بما أنها أكبر مورد نووي في العالم، يصبح اهتمام روسيا بمعالجة التهديدات المرتبطة بنمو الطاقة الذرية أمرًا غير محتمل، وتشمل هذه التهديدات انتشار المواد النووية في المناطق الأقل أمنًا. تراخي المعايير الروسية أمر معروف، ومن غير المتوقع أن تضع موسكو شروطًا أمنية حازمة أمام الدول التي تشكل عملاء محتملين. هناك بالفعل كميات كبيرة من المواد الانشطارية غير الآمنة. وجدير بالذكر أن المخزون العالمي من اليورانيوم عالي التخصيب الخاص بالمفاعلات النووية السلمية يكفي بالفعل لصنع 5000 قنبلة نووية. وهو عدد في ازدياد متواصل.
قد تخرج الولايات المتحدة من كل ذلك تجر أذيال الخيبة. فإذا حاولت الدولة بناء نظام محدث لمنع انتشار الأسلحة النووية، يمكن إهماله بكل سهولة من قبل روسيا والدول التي تستفيد من خدماتها. كما أن الدول التي تستقبل الصادرات الروسية، والتي تستفيد من المعايير الأقل صرامة، قد تتجاهل الاجتماعات المتعددة الأطراف القادمة بناء على طلب روسيا. أما عن المستقبل القريب، فقد يتزايد عدد حلفاء روسيا، ويقل عدد حلفاء الولايات المتحدة.
لتحقيق ذلك، يتوجب على البيت الأبيض إصلاح متاهة البيروقراطية الفيدرالية التي تشرف على التجارة النووية؛ حيث يتولى ذلك عدد لا يحصى من المكاتب والوكالات، مثل وزارة الخارجية والتجارة والمالية والطاقة، فضلًا عن مجلس الأمن القومي والإدارة الوطنية للأمن النووي. إن مجرد التفاوض على اتفاقية للتعاون النووي مع الولايات المتحدة قد يستغرق عدة سنوات. لتبسيط الأمور، يتوجب على الإدارة الأمريكية استحداث منصب مساعد الممثل التجاري الأمريكي لشؤون الطاقة النووية. على أن يتولى المكتب التفاوض بشأن اتفاقيات التعاون النووي، واستخراج التراخيص. كذلك يمكن للولايات المتحدة السعي إلى تفعيل اتفاقية 123 للتعاون النووي، مع البلدان الراغبة في امتلاك الطاقة النووية؛ حيث توصف هذه الاتفاقية بأنها أداة قوية لتعزيز منع انتشار الأسلحة النووية. ومع ذلك، لن يكون لهذه المعايير الصارمة أي معنى، إذا زهدت معظم البلدان في التكنولوجيا الأمريكية.
وهناك حل آخر يتمثل في خفض تكاليف الاقتراض؛ إذ يتوجب على بنك التصدير والاستيراد الأمريكي، الذي أسس لتحمل ما لا يسع القطاع الخاص تحمله من مخاطر، أن يقدم قروضًا مناسبة بهدف إفساح المجال أمام الشركات الأمريكية التي تتنافس مع الشركات الممولة من قبل حكومة أجنبية. ولتحقيق ذلك، يتوجب على مؤسسة الاستثمار الخاص فيما وراء البحار (OPIC)، التي تساعد الشركات الأمريكية العاملة في الأسواق الناشئة، أن تعدل عن قرارها باستبعاد تمويل مشاريع الطاقة النووية بموجب قواعد المسئولية البيئية الخاصة بها، خاصة مع اعتبار الطاقة النووية إحدى صور الطاقة النظيفة. كذلك يمكن لوزارة الطاقة تمديد برنامج ضمان القروض للمشاريع النووية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة. إن ذلك التوجه المتزايد نحو التمويل المواتي سيدعم القدرة التنافسية للولايات المتحدة بدرجة كبيرة. ففي حالة قرض قيمته 7 مليارات دولار، وهو مبلغ طبيعي بالنسبة لمشروع نووي، نجد أن مجرد خفض سعر الفائدة بنسبة 1 بالمئة سيوفر 45 مليون دولار سنويًا.
وأخيرًا، وهي النقطة الأهم، يتوجب على الولايات المتحدة الاستثمار في الابتكار النووي، لضمان مكانتها في السوق خلال العقود القادمة. وجدير بالذكر أن وزارة الطاقة تستثمر بالفعل من أجل التعجيل بإيصال تكنولوجيا مفاعلات الوحدات الصغيرة ومفاعلات الجيل الرابع إلى المرحلة التسويقية؛ لكن يظل الانتشار الجاد لهذه التقنيات موضع شك، مع غياب السوق المحلية. وعلى المدى القريب، يمكن للبنتاغون توفير سوق مبدئية عن طريق نشر المفاعلات التي ثبتت فعاليتها، كمصدر احتياطي للطاقة في القواعد العسكرية المحلية، والبنية التحتية الحيوية. ذلك سيتيح الفرصة لعرض التكنولوجيات الجديدة، إضافة إلى تخفيف الحاجة إلى تحقيق عوائد مالية فورية. وعلى ذلك المنوال، يمكن للجنة التنظيمية النووية التعجيل بإصدار شهادات التصميم الخاصة بها، لدعم التقدم التكنولوجي. فيمكن لهذا الجهد، إلى جانب استثمارات وزارة الطاقة، أن يعطي الدفعة التي يحتاجها القطاع الخاص الأمريكي للشروع في عملية نشر واسعة النطاق للجيل القادم من التكنولوجيا النووية خارج البلاد.
إن التوسع في الطاقة النووية عالميًا، أمر مفروغ منه؛ لكن الولايات المتحدة الأمريكية تملك الفرصة لتوجيه ذلك النمو في الاتجاه الآمن. تستطيع واشنطن -عن طريق سلوك نهج جديد- أن توقف تآكل نفوذها الجيوسياسي، وأن تستفيد اقتصاديًا، وأن تظل المدافع العالمي عن معايير الأمن النووي. ولن يؤدي التقاعس أو التردد إلا إلى الهيمنة الروسية على القرن الحادي والعشرين.
_______________________________________________
المقال مترجم عن: الرابط التالي