شعار قسم ميدان

دجلة والفرات في خطر.. مخلفات الحرب تبتلع رافديّ التاريخ

midan - tigris1
مقدمة المترجم
تعج منطقتنا العربية اليوم بالحروب والأزمات، ولعل بغداد كانت أول فرس يسقط في المضمار، وهو البلد الذي ارتبط مصيره بمصير نهريه الشهيرين، دجلة والفرات، على مدى التاريخ. لقد امتزجت مياه النهرين مؤخرا، بدماء ضحايا مذبحة الجوية العراقية، وبترول آبار القيارة، في وقت انخفض فيه منسوبهما بدرجة خطيرة. في هذا التقرير، نقرأ سردا للأزمات والكوارث، التي عانى منها النهران مؤخرا، ووضعهما الحالي، وأزمات المزارعين التي لم يسبق لها مثيل، إضافة إلى المخاطر الحيوية المستقبلية، سواءً داخل الحدود، على يد تنظيم الدولة، أو خارجها، على يد إيران وتركيا.

 

نص المادة
منذ تلك اللحظة، في أوائل 2014، حين هجم مقاتلو تنظيم الدولة على الفلوجة، وسيطروا على سدة المدينة، امتلأ قلب محمد أمين بالخوف مما هو أسوأ. فلكونه مزارعا، يعتمد بشدة على شبكة قديمة من القنوات المائية، تتفرع من نهر الفرات، وتجري شرقا، أدرك أمين كم سيكون إفساد الجهاديين لمحاصيله سهلا، متى أرادوا ذلك. لذا، حينما أغلق التنظيم سدة الفلوجة في (أغسطس/آب) الماضي، ليُغرق جزءا كبيرا من حزام بغداد الأخضر، ويوقف تقدم الجيش العراقي، كان أمين مستعدا أكثر من أي وقت مضى. وعن ذلك يقول: "احتفظت ببذوري، وأسمدتي، وكل شيء، في مكان مرتفع. كنت أشعر بما سيحدث".

نهرا العراق العظيمان اللذان يعانيان بالفعل من سلسلة من المشكلات، قد لوَّثتهما جثث الموتى، ومخلفات الحرب، وأهدرتهما بنية تحتية متهالكة؛ خلال السنوات الثلاثة الماضية.
نهرا العراق العظيمان اللذان يعانيان بالفعل من سلسلة من المشكلات، قد لوَّثتهما جثث الموتى، ومخلفات الحرب، وأهدرتهما بنية تحتية متهالكة؛ خلال السنوات الثلاثة الماضية.
 

لكن ما لم يكن ينتظره أمين، لا هو ولا جيرانه، ولا جميع الفلاحين العاملين في الأرض المجاورة للسجن الأميركي المغلق سيء السمعة، هو الدمار البيئي طويل الأمد الذي قد يحدثه تنظيم الدولة في هذه المساحة، حتى عند هزيمته. فبعد اضطرارهم إلى الانسحاب من الفلوجة في (مايو/أيار) 2016، فجَّر الجهاديون ستًّا من بوابات السدة العشر، مما أرغم المسؤولين على قطع المياه عن القنوات. واليوم، بعد تسعة أشهر من الانقطاع المستمر، يسيطر الجفاف المهلك على هذه المنطقة من شرق محافظة الأنبار. "مياه قذرة، ومياه قليلة، وقنوات سيئة: كنا نظن أننا رأينا كل شيء"، يقول أمين، وهو ينظر إلى ما وراء أرضه العطشى. "لكن الوضع الآن أسوأ. لم تعد هناك أي مياه بعد رحيل هذه الحيوانات".

 

تركز كثير من التقارير الخاصة بتنظيم الدولة، على الخسائر البشرية التي يتسبب فيها. لكن نهري العراق العظيمين قد أصابهما ضرر كبير، ومن الراجح أن عواقب ذلك ستستمر إلى ما بعد نهاية التنظيم المحتومة. فالنهرين اللذين يعانيان بالفعل من سلسلة من المشكلات، قد لوثَّتهما جثث الموتى، ومخلفات الحرب، وأهدرتهما بنية تحتية متهالكة، خلال السنوات الثلاث الماضية. وبالنسبة لبلد يعتمد على مياه هذين النهرين الشهيرين، لريّ أكثر من 80% من أرضه الزراعية، تدفع هذه المشاكل الإضافية بالمزارعين العراقيين إلى حافة الهاوية. "لقد نجا البشر، لكن بدون مياه، ومع كل هذه الأضرار، فإنهم ما يزالون يعانون"، يقول حسن الجنابي، وزير الموارد المائية العراقي. "لقد استخدمت المياه كسلاح، بأبشع صورة ممكنة".

 

بدأ الخراب مع سيطرة تنظيم الدولة على مساحات من وديان النهر، في صيف 2014. وباستغلال منشآت الريّ التي يسيطر عليها التنظيم في الفلوجة، والرمادي، وسوريا بالأعلى، قام المتخصصون في صفوفه بإغراق أراض زراعية، في مناطق تبعد عن نطاق سيطرة التنظيم بنحو 250 ميل، ثم قطع المياه عنها. وفي الفلوجة، يزعم مسلح، كان يعمل مهندس ري بالسودان من قبل، أنه العقل المدبر لهذه العملية، التي أغرقت 200 كيلومتر مربع من الحقول، في المنطقة الواقعة بين الفرات وبغداد وحدها. وفي الأوقات التي لا ينشغل فيها مقاتلو التنظيم بإهلاك محاصيل تساوي مئات الملايين من الدولارات، يستخدمون دجلة كمقبرة جماعية. ففي هذا النهر، تم إلقاء مئة – على الأقل – من طلاب الجوية العراقية الألف وسبعمئة، الذين ذبحوا بمعسكر سبايكر، في يونيو/حزيران 2014. وخلال الأشهر التالية، فوجئ صيادون، في شمال مدينة سامراء، بجثث الطلبة في شباكهم.

 

عناصر من قوات الرد السريع العراقية في موقع قريب من الضفة الغربية لنهر دجلة في الموصل  (رويترز)
عناصر من قوات الرد السريع العراقية في موقع قريب من الضفة الغربية لنهر دجلة في الموصل  (رويترز)

بمرور الوقت، لم يزدد الخراب إلا سوءا. فمع تقهقر تنظيم الدولة، وانسحابه من قرية تلو أخرى، اتبعت قواته استراتيجية الأرض المحروقة. فجر المقاتلون المتقهقرون "الكباري"، وسدّوا القنوات، وزرعوا الألغام بين أنقاض محطات رفع المياه. كذلك فجروا ثقوبا كبيرة، في قناة الريّ التي تصل مدينة "دبس" بمدينة "تازة خورماتو"، وهو ما أسهم في انخفاض إنتاج محافظة كركوك من القمح، بنسبة 80%، منذ 2014. أما عن آخر المستجدات، فمع تضييق قوات التحالف الخناق على آخر معاقل التنظيم في الموصل، أشعل الجهاديون النار في عشرات من آبار بترول القيارة، الواقعة في جنوب المدينة. ترجح لقطات القمر الصناعي، أن محتويات بعض هذه الآبار، قد وجدت طريقها إلى أحد روافد نهر دجلة.

 

مستقبل مظلم
لو كان الدمار الناتج عن الحرب، هو المحنة الوحيدة التي يعاني منها ماء العراق، لربما كان الوضع قابلاً للإنقاذ، حسب قول المسؤولين العراقيين. لكن ظهور تنظيم الدولة، لسوء الحظ، جاء في وقت تراكمت فيه مجموعة من المشكلات السابقة. شيَّدت تركيا وإيران عددا من السدود في أحواض نهري دجلة والفرات، خلال العقود القليلة الماضية. ومع الوضع المتردي لبغداد المحتلة، يظهر أنهما قد شرعا في حجز مزيد من المياه، بداية من 2014. لا تسمح أنقرة إلا بمرور ربع الحصة المعتادة من مياه الفرات، حسب تقرير العاملين في "طبيعة العراق"، وهي منظمة بيئية محلية غير حكومية.

 

كما تحجز إيران مياه نهر "كارون" بأكملها تقريبا، الذي كان يصب من قبل خمسة مليارات متر مكعب من المياه سنويا في نهر شطّ العرب، الناتج عن التقاء دجلة بالفرات في جنوب العراق. ومع هذا التدفق الضعيف في الأجزاء الجنوبية من النهرين، فإن مياه خليج العرب تفيض إلى قرابة السبعين ميلا في اتجاه المنبع بانتظام. يقول حسن الجنابي: "كانت جميع مياه النهر تصل إلى العراق، حتى أواخر السبعينيات. لكن الأمور تغيرت، وستكون إعادة كل شيء إلى وضعه السابق شديدة الصعوبة". مع ذلك، تم خفض ميزانية وزارة الموارد المائية من 1.7 مليار دولار عام 2013، إلى 90 مليون دولار في العام الماضي. وهو ما يمنع الوزارة، حسب قول الجنابي، من الوفاء بعديد من التزاماتها المتعلقة بصيانة البنية التحتية.

 

هروب عدد من المدنيين عبر نهر دجلة من القتال الدائر بين القوات العراقية وتنظيم الدولة في الشطر الغربي من الموصل (رويترز)
هروب عدد من المدنيين عبر نهر دجلة من القتال الدائر بين القوات العراقية وتنظيم الدولة في الشطر الغربي من الموصل (رويترز)

لكن رغم المخاطر التي تهدد مستقبل النهرين، يزداد اعتماد العراق عليهما، كل عام أكثر مما قبله. فعدم انتظام هطول الأمطار المتزايد في نينوى وكردستان، وهي المناطق العراقية الوحيدة التي كانت تعتمد في الزراعة على مياه الأمطار بالكامل، دفع كثير من الفلاحين هناك إلى إنشاء شبكات ري محلية، مما زاد العبء على النهرين. في الوقت الحالي، يقول وزير زراعة إقليم كردستان، إن أقل من 60% فقط من فلاحي شمال العراق، هم من يحصلون على مياه كافية. كما يرى أن هذا الرقم سيزداد لا محالة، مع دخول التغير المناخي في المعادلة.

 

على مدى جزء كبير من تاريخ العراق، كان مصير هذا البلد شديد التشابك مع مصير نهري دجلة والفرات. والآن، مع الكوارث المتتالية التي يواجهها العراق، يبدو من اللائق مأساويا، أن يكون النهران شريكيه في هذا الكفاح.

حاول بعض الفلاحين التكيف مع الأوضاع العصيبة، عبر تغطية قنوات الري المجاورة بالقماش المشمع، لتقليل التبخر، أو عبر حفر آبارهم (غير القانونية) الخاصة، رغم أن مخزون العراق من المياه الجوفية تم استغلاله إلى حد كبير. لكن بالنسبة لمعظمهم، هؤلاء الذين تعتمد حياتهم على النهرين، فقد ألقت بهم هذه الكمية والنوعية المؤسفة من المياه إلى دركات أخرى من الفقر.

 

وفي أهوار جنوب العراق، حيث انخفضت مستويات المياه إلى نحو نصف متوسط مستوياتها التاريخية، انخفضت الأجور بدرجة حادة. هناك يكافح مربو الجاموس لتغطية نفقاتهم، مع ملوحة المياه التي تقلص إنتاج حيواناتهم من الحليب، أما الصيادون فقد شهدوا بالفعل انخفاض صيدهم، لأكثر من 60%، في الفترة بين 1981 و2001 (آخر البيانات المسجلة). بالنسبة لكثير من السكان، الذين أجبر جميعهم على المغادرة، حين قام الرئيس العراقي صدام حسين بتجفيف الأهوار، في التسعينيات، قبل عودتهم في 2003، فيرون أن سوء حال المجاري المائية قد جعل الحياة مستحيلة. "في هذه الأيام، ليست هناك سوى مياه سيئة أو مياه سيئة جدا. ولا توجد أي مفاجأة في اختيار الكثيرين الرحيل ثانية"، قالها إسماعيل داوود، مالك ماشية بوسط الأهوار.

 

حاول المسؤولون في بغداد مساعدة الفلاحين، بعدد قليل من الطرق البسيطة. حيث قدموا إعانات نقدية، لمساعدة رعاة الأغنام والماشية، في أقصى جنوب العراق، على بناء أحواض صلبة تقدم مياه عذبة لحيواناتهم. لكن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، والتخفيف من آثار تغير المناخ، سيتكلف مليارات الدولارات، وهي ما لا تملكها السلطات المعتمدة على النفط. قد يأتي المتبرعون للمساعدة في نهاية الأمر، حينما يتوقف القتال. لكن منظمات الإعانة الدولية تكافح بالفعل، لتوفير تمويل يكفي لدعم ملايين النازحين العراقيين. في هذه الأثناء، توشك تركيا على الانتهاء من تشييد سد "إليسو"، الذي يهدد بحجز جزء هائل من مياه نهر دجلة، إلى حين امتلاء خزَّانه. ورغم الضغوط المحمومة التي تمارسها بغداد، فإنه من المقرر البدء في تشغيله في وقت لاحق من هذا العام.

 

على مدى جزء كبير من تاريخ العراق، كان مصير هذا البلد شديد التشابك مع مصير نهري دجلة والفرات. فلقد استطاع السومريون القدماء تشييد واحدة من الحضارات المبكرة، عبر الإدارة الحكيمة لهما. والآن، مع الكوارث المتتالية التي يواجهها العراق، يبدو من اللائق مأساويا، أن يكون النهران شريكيه في هذا الكفاح.
——————————————————

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة