شعار قسم ميدان

وحدة كيدون.. ذراع الموساد الخارجية لتصفية "أعداء إسرائيل"

midan - كيدون
اضغط للاستماع
      
في بداية السبعينيات أصبحت المقاومة الفلسطينية محاصرة تمامًا، مع انتقال تل أبيب لملاحقة الفدائيين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة، وبالأخص في جنوب لبنان، ومع توسع نطاق عمليات اليد الطولى لجهاز استخبارات رئاسة الوزراء الإسرائيلية "الموساد"، يد لم تعد تهتم بشيء سوى تحقيق أهداف تل أبيب بأي ثمن كان. جاءت حينها حادثة اغتيال الأديب والسياسي الفلسطيني "غسان كنفاني"، عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منتصف عام 1972، لتثير غضبًا واسعًا، وبدا آنذاك أن القضية الفلسطينية صارت بحاجة إلى عمل كبير يلفت أنظار العالم.

 

كان الفلسطينيون قد قرروا للتو قبل سنوات قليلة محاكاة طريقة إسرائيل المعتادة في العمل عبر الحدود. في هذه اللحظة، بدأت جماعة فلسطينية أطلق عليها "أيلول الأسود" بالتخطيط لاختطاف مجموعة من الرهائن الإسرائيليين رفيعي المستوى، ووقع الاختيار على أعضاء الوفد الرياضي الإسرائيلي المشارك في الألعاب الأولمبية بميونيخ، للمساومة عليهم لتحرير أكثر من مائتي شخص من الأسرى العرب والفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. نجحت المجموعة بالفعل في تأمين جوازات أردنية مزورة للفدائيين، ووصلوا بالفعل إلى مقر إقامة البعثة الإسرائيلية في القرية الأوليمبية في ميونخ، وقاموا باحتجاز 11 رهينة منهم. ولكن تل أبيب، بقيادة رئيسة وزرائها وقتها "غولدا مائير"، لم يكن لديها أي استعداد للدخول في جولة تفاوضية تضطر فيها إلى تقديم تنازلات، لذا أعطت الضوء الأخضر للسلطات الألمانية للتدخل حتى لو كان الثمن هو موت جميع الرهائن(1)، وهو ما وقع بالفعل حيث قام الفدائيون بإعدام الرهائن بمجرد أن بدأت المعركة في مطار "فونشفليد" العسكري، حيث تم إعداد الكمين للفدائيين بعد أن طلبوا من السلطات توفير طائرات تقلهم مع الرهائن إلى القاهرة.

 

  صور حقيقية لأحداث ميونخ 1972

 

ما حدث بعد ذلك هو أكثر تعقيدًا وتفصيلًا من أن يتم احتواؤه في سطور: ببساطة شديدة، لا تحمل أدنى قدر من المبالغة، وبأوامر من رئيسة الوزراء بشكل شخصي، حوّل "الموساد" العالم بأكمله إلى ساحة حرب، غير عابئ بالحدود أو الحواجز أو الأعراف الدبلوماسية، من قبرص إلى بيروت ومن باريس إلى أثينا إلى النرويج، مطاردًا قائمة من 11 شخصًا تم اتهامهم بالتخطيط لعملية الاحتجاز. كانت ست سنوات كفيلة بكل شيء، وفي (يناير/كانون الثاني) عام 1979 نجح "الموساد" أخيرًا في التخلص من أهم المطلوبين في القائمة، "علي حسن سلامة" -ووالده هو أحد قادة الثوار الفلسطينيين ضد اليهود والبريطانيين-، أو "الأمير الأحمر" كما لقبته "مائير" نفسها، بتفجير سيارة مفخخة في بيروت، ليصل عدد من نجحت إسرائيل في اغتيالهم من القائمة إلى الرقم 9، وبنسبة نجاح يمكن أن نصفها بالإعجازية لمثل هذا النوع من المهام، أو مبهرة وسينمائية في أدنى الأحوال بلا مبالغة.

 

لم تكن العملية، التي أطلق عليها الموساد اسمًا دراميًا مناسبًا لحجمها هو "عملية غضب الله"(2)، هي التجربة الأولى للموساد في عالم التصفيات المنظمة. كان الاغتيال، أو الإعدام خارج القضاء (Extra judicial killing)، كما يحلو للمسؤولين الأمنيين الإسرائيليين تسميته، أحد أهم أركان نشاط الجهاز منذ تأسيسه مع مطلع الخمسينيات بأوامر من "ديفيد بن غوريون"، للتنسيق بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. كانت البداية في منتصف الخمسينيات مع عمليتي اغتيال استهدفتا الملحق العسكري المصري في غزة "مصطفى حافظ"، المسؤول عن تدريب الفدائيين الفلسطينيين، والذي تم اغتياله بلغم منفجر في القطاع، ثم "صلاح مصطفى"، الملحق العسكري المصري في الأردن، الذي اغتيل بطرد بريدي ناسف. وفي الستينيات، كانت بدايات نقل الموساد لعملياته القذرة خارج المنطقة، بعد أن قام باستهداف عالم الصواريخ الألماني "هاينز كروغ"، الذي كان يعمل في برنامج تطوير الصواريخ المصرية في ميونيخ عام 1962، قبل أن يقوم الجهاز باغتيال "هربرت كوكروس" عام 1969 في أورغواي، ضمن برنامج اغتيالات خاص وجهه الموساد للمتورطين في "مذابح الهولوكوست" ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. وبشكل عام فإن آلة القتل الإسرائيلية في نشأتها الأولى لم تكن موجهة للفلسطينيين فقط، أو حتى للعرب فحسب، ولكن لتصفية خصوم الكيان العبري بالكامل، سواء أكانوا رموز حركات المقاومة أو علماء عرب أو أجانب مشرفين على برامج تسليح في الدول المعادية لإسرائيل، أو حتى من الدبلوماسيين والسياسيين الذين تبنوا سياسات تضر بمصالح الكيان الوليد.

 

"كيدون": آلة القتل

لا يخفي المخرج الأميركي الشهير "ستيفن سبلبيرغ" اعتزازه بهويته اليهودية، وتأييده لدولة إسرائيل، وهي نكهة يمكن أن نميزها بوضوح في أفلام المخرج الشهير، وعلى رأسها رائعته ذائعة الصيت "قائمة شندلر" عام 1993، والتي تناولت مقاربة إنسانية للهولوكوست. ولكن "سبلبيرغ" أثار ضده ضجة عارمة في إسرائيل بعد عرض فيلمه ميونيخ عام 2005، الذي تناول خلاله أحداث الرهائن في ميونيخ وعملية "غضب الله". ورغم أن فيلم "سبلبيرغ" لعب دورًا كبيرًا في نقل أنشطة "الموساد"، التي كانت حبيسة الوثائق الموسومة بخاتم سري للغاية، إلى دائرة العلن، إلا أن ذلك لم يكن سبب غضب المسؤولين الإسرائيليين، الذين لا يمانعون من بعض الفخر بإنجازاتهم، طالما أن ذلك لن يكون مصحوبًا بتحمل عواقب هذه الأنشطة.

 

   فلم ميونخ الذي يتناول أحداث 1972

 

ما تسبب حقًا في موجة الغضب الإسرائيلية العارمة هي التناقضات التي حرص "سبيلبرغ" على تجسيدها في نفوس ممثليه، فأظهرهم مترددين حول مدى أخلاقية مهمتهم، وصولًا لجعل بطل الفيلم "أفنير كوفمان" -قام بدوره الممثل إريك بانا-، يرفض بعد إنهائه المهمة العودة إلى إسرائيل واستئناف العمل مع "الموساد"، والأهم من ذلك الاتهامات المبطنة التي وجهها للحكومة الإسرائيلية بالتضحية بالرهائن، وهو ما دفع صحيفة معاريف الإسرائيلية إلى إجراء مقابلة مع أحد العملاء الحقيقيين الذين شاركوا في العملية، رمزت إليه باسم "باراك"، أكد خلالها أنه لم يسأل نفسه أبدًا، مثلما فعل "أفنير" في الفيلم، إذا ما كان قد فعل "الشيء الصحيح"، ملمحًا أنه مع وجود يهود مثل سبيلبرغ "فإن إسرائيل ليست بحاجة إلى أي أعداء".

 

لا يشعر عملاء الموساد، ومن خلفهم القيادات في إسرائيل، بأي تردد حول طبيعة ما يفعلونه. في عام 1955، وبعد سبع سنوات فقط من تأسيس الدولة العبرية، كتب الفيلسوف العبري "يشاياهو ليبويتز" رسالة إلى رئيس الوزراء "ديفيد بن غوريون"، اشتكى فيها من "أن الفلسطينيين الأبرياء يقتلون في العمليات الإسرائيلية"(3)، وجاء رد بن غوريون واضحًا "لا أتفق معك"، مؤكدًا أنه "إذا كان من الجيد أن يكون هناك عالم مليء بالسلام والأخوة والعدل والصدق، فإن الأكثر أهمية من ذلك أن نكون كإسرائيل متواجدين فيه".

 

لا ينفرد "بن غوريون" وحده بهذا الرأي، فمن الواضح أن فكرة الدولة المحصنة جيدًا التي تقضي على أعدائها بالقوة كلما كان ذلك ممكنًا لا تزال تدعمها أغلبية كبيرة من الإسرائيليين، وربما تكون هذه القناعة هي التي سهلت مهمة تحويل "الموساد" من جهاز للتنسيق الأمني إلى آلة فعلية للقتل، بل إن وحدة نخبة خاصة داخله، يطلق عليها "كيدون" وتابعة لفرع العمليات الخاصة بالجهاز "قيساريا"، تم إنشاؤها خصيصًا لهذا الغرض.

 

تختص "كيدون" بتخطيط وتنفيذ عمليات الاغتيال مرتفعة المستوى، ويقدر أنه حتى عام 2013 بلغت عدد العمليات التي نفذتها الوحدة أكثر من 75 عملية في جميع أنحاء العالم. وتتكون الوحدة من بضع عشرات من الرجال والنساء، وكان عددهم 48 شخصًا قبيل تنفيذ عملية اغتيال "محمود المبحوح"، القيادي في حركة حماس، في دبي عام 2010. يخضعون للتدريب الصارم في مجموعة واسعة من المجالات، من تكتيكات الاستخبارات القياسية إلى القتال اليدوي، مرورًا بالتدرب على استعمال الأسلحة والمتفجرات وإخفائها، وإعداد واستخدام السموم والكيماويات والحقن القاتلة، وقيادة مختلف أنواع المركبات بما في ذلك الدراجات النارية. ويدرسون مناهج مفصلة حول أهم وأشهر عمليات الاغتيال حول العالم، إضافة إلى مناهج جغرافية محدثة حول الخرائط التفصيلية لمناطق العمليات المرشحة. ويعمل وكلاء "كيدون" في فرق صغيرة، وغالبًا ما يتم استبدالهم كل بضع سنوات، كما يخضعون لرقابة نفسية صارمة(4). باختصار، وكما يطلقون عليها في تل أبيب، فإن "كيدون" هي "موساد بداخل الموساد".

 

  مائير عاميت

 

تستفيد "كيدون" من نظام الدعم الأكثر فاعلية بين جميع الأنظمة التي شيدتها أجهزة الاستخبارات حول العالم. ورغم أن الموساد، هيكليًا، يصنف كواحد من أصغر أجهزة المخابرات عالميًا(5)، إلا أن شبكة الدعم الخاصة به من أكبر الشبكات وأكثرها فاعلية. تعرف هذه الشبكة باسم "السيانيم"، وتعتمد ببساطة على توظيف المجتمع اليهودي العالمي كشبكة دعم استخباراتي هائلة. على سبيل المثال، فإن وجود أحد هؤلاء "السايان" كوكيل سيارات يضمن تزويد عملاء الموساد، يطلق عليهم "كاتساس"، بحاجتهم دون الكثير من الأسئلة، بينما يقوم "سايان" أخر بتوفير منزل آمن أو مقر للمراقبة، ويقوم ثالث ثري بتوفير الأموال الطارئة حال الحاجة إليها، ورابع يقوم بتوفير الخدمات الطبية، وهكذا.

 

يبدو الأمر أشبه ما يكون بشبكة خاملة، تتكون من عشرات الآلاف من العملاء المحتملين، ويتم تجنيدهم فقط وقت الحاجة ولمرة واحدة، وبأقل احتمالات التتبع الممكنة لأشخاص صحائفهم الجنائية لا تثير أدنى شبهة. كفلت هذه الشبكة، التي أسسها ونسجها رئيس الموساد الأسطوري "مائير عاميت" في الستينيات، كفلت لإسرائيل أعدادًا كبيرة من الجواسيس في كل مكان في العالم تقريبًا(6)، من العالم العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة وحتى أفريقيا وأميركا اللاتينية، بما يفوق، وبخطوات واسعة، قدرات أجهزة المخابرات الأكبر حجمًا.

 

أما على المستوى القيادي، يحدثنا رئيس الموساد الأسبق "داني ياتوم" عن الوجه الآخر لهذه العمليات(7)، والتي تبدأ بالاتفاق على القوائم المستهدفة بين "الموساد" و"الشين بيت" ووحدات أخرى في الجيش الإسرائيلي، وهي قوائم لا بد أن يتم اعتمادها اسمًا اسمًا من قبل وزير الدفاع ورئيس الوزراء شخصيًا، حيث إن وضع شخص على هذه القائمة يعتبر حكمًا بإعدام غير قضائي عليه. في المرحلة التالية تبدأ عملية جمع المعلومات الاستخباراتية، بينما تكون المرحلة الحاسمة هي تجهيز الشق اللوجيستي، بما يشمل جلب الأسلحة المختارة والعملاء إلى موقع الاغتيال، دون إثارة شكوك الهدف أو الوقوع في مشكلات مع الأجهزة الأمنية للدولة المضيفة. ويلي ذلك خطة الانسحاب، بينما تكون آخر الخطوات هي إجراء تقييم روتيني صارم لجميع العمليات، الناجحة منها والفاشلة للوقوف على نقاط القوة ونقاط الضعف.

 

اليد الباطشة

"عندما يرسم طفل فلسطيني صورة للسماء، فإنه لا يرسمها بدون طائرة هليكوبتر"

(رئيس "الشين بيت" السابق "آفي ديشتر")

 

يتمثل الهدف التكتيكي لتنفيذ أي عملية اغتيال تقليدية في تصفية الهدف والعودة سالمًا دون أن تترك أي أثر وراءك، بينما يكمن هدفها الإستراتيجي في كونها تضمن تحقيق الأهداف، وإبعاد الهدف المقصود عن المسرح دون تحمل أي مسؤولية سياسية، خاصة إذا كان تنفيذ عملية الاغتيال يتضمن انتهاك سيادة دولة قوية، أو إصابة أشخاص آخرين قريبين من الهدف. و كان هذا النمط من الاغتيالات التقليدية، المحدودة العدد، والموجهة ضد أهداف معينة بدقة عادة ما تكون متواجدة خارج إسرائيل، هو النمط المميز لعمليات "الموساد" حتى عهد الانتفاضة الثانية في عام 2000، ورغم أن الموساد برع بشدة في هذا المضمار، إلا أن الحقيقة هي إن أعداد هذه العمليات، خاصة العمليات الخارجية، شهدت تناقصًا ملحوظًا خلال حقبة التسعينيات، مقارنة بعصرها الذهبي في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث صعب التقدم التكنولوجي من المهام اللوجستية المرتبطة بالتنفيذ، كما جعلتها العلاقات الدبلوماسية الحساسة أكثر كلفة حال كشفها.

 

شهد عام 2004 الضربة الأكبر للحركة عبر استهداف القياديين الشيخ
شهد عام 2004 الضربة الأكبر للحركة عبر استهداف القياديين الشيخ "أحمد ياسين"، و"عبد العزيز الرنتيسي"، خلال فترة متقاربة، مما دفع الحركة إلى الامتناع عن تسمية قائد معروف لها في الداخل الفلسطيني (رويترز)

 

تسببت هذه التحولات، جنبًا إلى جنب من ارتفاع وتيرة التهديد بفعل الانتفاضة الثانية، في تحول ملحوظ في سياسة اغتيالات الموساد، والكيان العبري بشكل عام، على صعيد الجغرافيا، والأشخاص المستهدفين، وتقنيات التنفيذ. من الناحية الجغرافية، ركز الموساد عملياته داخل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مستهدفًا بشكل رئيس رموز المقاومة الفلسطينية، وبشكل أكثر تحديدًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بعد تحييد منظمة التحرير من الصراع بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ورموز وقيادات حزب الله اللبناني، أما تقنيات التصفية فقد أضيف إليها بشكل واضح الضربات الجوية باستخدام الطائرات والصواريخ الموجهة، وبخاصة في المنطقة "أ" الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

 

ولتحسين احتمالات النجاح في هذه السياسة الجديدة، كان الأمر يتطلب استثمارًا كبيرًا في قدرات الاستخبارات والاستجابة السريعة، وتعين على إسرائيل أن تحتفظ بشبكة استخبارات قوية في المناطق الفلسطينية. وبنفس القدر من الأهمية، تم تصميم نظام فعال لتبادل المعلومات، بحيث يمكن نقل البيانات التي تجمعها أجهزة الاستخبارات المحلية بسرعة إلى سلاح الجو الإسرائيلي وغيره من العناصر الفاعلة. كما اضطرت إلى الحفاظ على نظام كامل من أجهزة الاستشعار، والطائرات المقاتلة، والقوات العسكرية المستعدة للعمل بسرعة، وقد أدى ذلك إلى وجود رقابة إسرائيلية متواصلة تقريبًا على المناطق الفلسطينية.

 

بشكل مجرد، حققت الخطة الإسرائيلية الجديدة الكثير من النجاحات. تُقَدِر "بِتسليم"، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية، أنه خلال الفترة بين عامي 2000 و2005، استهدفت القوات الإسرائيلية بنجاح أكثر من 203 هدفًا فلسطينيًا، معظمهم من أعضاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي. كانت أبرز هذه العمليات هي استهداف القائد العام لكتائب القسام، "صلاح شحادة"، منتصف عام 2002، بقنبلة تزن حوالي ألفي رطل تم إسقاطها على منزله، قبل أن يشهد عام 2004 الضربة الأكبر للحركة عبر استهداف القياديين الشيخ "أحمد ياسين"، و"عبد العزيز الرنتيسي"، خلال فترة متقاربة، مما دفع الحركة إلى الامتناع عن تسمية قائد معروف لها في الداخل الفلسطيني.

 

تسببت عمليات القتل المستهدف في تقليص قدرات المقاومة الفلسطينية بشكل ملحوظ، فعلى الرغم من المنحنى التصاعدي الذي شهدته أعداد عمليات المقاومة في ذروة الاغتيالات بين عامي 2001 و2005، قبل أن تعلن حماس هدنة من جانب واحد، حيث وقع 19 هجومًا في عام 2001 و34 هجومًا في عام 2002 و46 هجومًا في عام 2003 و202 هجومًا في عام 2004 و179 هجومًا في النصف الأول من عام 2005، إلا أن هذه العمليات الفلسطينية أخذت تفقد فاعليتها ودقتها بشكل تدريجي(8). ففي الوقت الذي ارتفع فيه معدل الوفيات من 3.9 حالة وفاة لكل هجوم في عام 2001 إلى 5.4 في عام 2002، وهو أعلى معدل له، إلا أن بدأ في الانخفاض تدريجيًا وصولا إلى 0.33 و0.11 حالة وفاة في عامي 2004 و2005 على الترتيب.

 

undefined

 

يحتاج الأمر إلى وقت طويل بشكل ملحوظ من أجل إعداد قائد مقاوم، وقد تعلمت تل أبيب الدرس في حقبة الثمانينيات وأوائل التسعينيات التي ركزت خلالها على استهداف قادة المقاومين لها آنذاك في "حزب الله" و"حركة أمل". ونظرًا لأن عمليات الاستهداف الإسرائيلية كانت تتم على فترات متباعدة، فإنه كان يتم استبدال القادة بشكل سلس، كما حدث بعدما اغتالت إسرائيل الأمين العام لحزب الله "عباس موسوي" عام 1992، ليحل محله "حسن نصر الله" الأكثر كفاءة. أما في فلسطين ما بعد الانتفاضة، فإن إسرائيل عمدت إلى الاستفادة من الدرس في تنفيذ الاغتيالات بوتيرة متسارعة، مما يصعب على الفلسطينيين استبدال القادة الذين يتم إبعادهم، وبما يحجم نشاط القادة الحاليين الذين ضُيقت عليهم حركتهم لدرجة أنهم "لم يكونوا يرون الشمس إلا في الصور"، على حد تعبير "ديشتر".

 

ولكن، وعلى العكس من الاغتيالات الصامتة التقليدية، فإن هذه الاستهدافات العسكرية المكشوفة لم تخل غالبًا من تبعات سياسية، وقد استتبع بعدها إدانات قاسية من قبل قوى دولية مرموقة، مثل عمليتي اغتيال الشيخ "ياسين" و"الرنتيسي"، وبعض العمليات التي ترتبط بوقوع قتلى من غير المقاومين المسلحين. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الجيل الجديد من عمليات الاغتيال أثار جدلًا محتدمًا داخل إسرائيل نفسها حول مدى فاعليته، والتعقيدات الإستراتيجية التي يخلقها. ويحتج المعارضون لهذه السياسة في الداخل الإسرائيلي بأن هذه العمليات تزيد من شعبية قادة الحركات المقاومة على حساب المفاوضين، وهو ما ظهر صوابه سريعًا في انتخابات عام 2006، التي حصدت فيها حركة "حماس" معظم مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، مطيحة بغريمتها "فتح" الغارقة في التطبيع مع الاحتلال. ومن ناحية أخرى فإنها تتسبب في ارتدادات ثأرية عنيفة تجعلها مكلفة في أفضل الأحوال، فضلًا عن الجدل الأخلاقي الذي تثيره، وهو جدل لا يمكن تجاهله بالنسبة إلى الصورة التي ترغب دولة الاحتلال في تصديرها حول نفسها.

 

في خضم هذا الجدل، تسبب خفوت وهج الانتفاضة الثانية، والهدنة أحادية الجانب التي أعلنتها حركة حماس، ثم الانسحاب الإسرائيلي "خطة فك الارتباط" من قطاع غزة، في هدوء نسبي لوتيرة الاغتيالات الإسرائيلية. وجاءت سيطرة حماس لتحول القطاع إلى محمية إستراتيجية لقادة المقاومة الميدانيين، مما صعب من مهمة تنفيذ الاغتيالات التي تركزت بشكل رئيس على قيادات الصف الثاني من الأجنحة المسلحة لحركات المقاومة. ومنذ عام 2010 حولت إسرائيل وجهة آلة القتل الخاصة بها بشكل ملحوظ نحو استهداف علماء البرنامج النووي الإيراني(9)، في متوالية اغتيالات بين عامي 2010 و2012، تخللتها عملية اغتيال من الطراز القديم للقيادي في حركة حماس "محمود المبحوح" في فندق في دبي، تسببت في فضيحة تاريخية للموساد وكشفت عددًا من أبرز عملائه، وتورطت تل أبيب في أزمة دبلوماسية مع كندا وبريطانيا بسبب جوازات السفر المزورة. بيد أنها لم تفوت أيضًا خلال هذه الفترة استغلال حروبها الثلاثة مع قطاع غزة لاغتيال بعض قادة المقاومة، مثل عملية اغتيال القياديين "سعيد صيام" و"نزار ريان" في (يناير/كانون الثاني) عام 2009، أثناء حرب غزة الأولى. ويبدو اليوم أن عقارب الساعة توشك أن تتم دورتها، وأن سياسة الاغتيالات في إسرائيل تعود من جديد إلى نقطة ظن الكثير يومًا ما أنها راوحتها إلى غير رجعة.

 

 
العودة إلى طريقتنا

"في بعض الأحيان سوف نعلن ما فعلناه، وأحيانًا أخرى لن نعلن أننا فعلناه، ليس علينا دائمًا أن نعلن ذلك"

(رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "أرييل شارون")

 

في الخامس عشر من (ديسمبر/كانون الأول) الماضي، لقي المهندس التونسي "محمد الزواري" مصرعه، حين أطلق مجموعة من المهاجمين المجهولين النار عليه وهو يقود سيارته بالقرب من منزله في صفاقس بتونس، ما تسبب في وفاته على الفور. وسرعان ما اختفى المهاجمون وتركوا وراءهم هواتف خلوية وكواتم للصوت وسيارة مؤجرة، ولم تكن هناك أي أدلة أخرى قد تساعد السلطات التونسية على تحديد هويتهم.

 

يمكن أن تكون الاغتيالات غير المصدق عليها بمثابة حل عملي واعد، بعيدًا عن الغارات الجوية، التي يتم فيها إسقاط القنابل على غزة، والتي تلزم إسرائيل بتحمل المسؤولية، والتي لا يبدو العالم اليوم مستعدًا لتقبلها دبلوماسيًا أو لتحمل تكلفتها الأخلاقية العلنية

كان الزواري مهندسًا للطيران تخصص في صناعة الطائرات بدون طيار، تلقى تدريبا عمليًا في طهران، وسرعان ما تكشف للجميع أنه كان يعمل مع كتائب القسام، التي توعدت إسرائيل في بيان رسمي بالرد على عملية اغتياله. ووفقًا لمصادر في تونس، فإن الزواري صمم أيضًا سفينة بحرية بدون قائد، قادرة على مهاجمة الأهداف في البحر، ما يجعله يمثل تهديدًا صريحًا لتل أبيب يفتح باب مهاجمة حقول الغاز خاصتها في المتوسط.

 

وكعادتها في مثل هذه العمليات التزمت إسرائيل الصمت، ولكن خبراء الاستخبارات الغربية مقتنعون بأن التقارير القادمة من تونس صحيحة(10)، وأن الموساد متورط في الأمر. وبعد أقل من ثلاثة أشهر، تم اغتيال "مازن فقهاء"، وهو مسؤول عسكري بارز في حركة حماس، وأسير محرر، بإطلاق الرصاص مباشرة عليه داخل قطاع غزة، في عملية غير مسبوقة، أي تنفيذ عملية اغتيال داخل قطاع غزة بإطلاق رصاص مباشر من خلال وكلاء، وشديدة الدقة والاحترافية، وكالعادة، ورغم أن إسرائيل التزمت الصمت، إلا أن المسؤول كان واضحًا وضوح الشمس.

 

بعد عقد تقريبًا من توقف موجة الاغتيالات المتتابعة، يبدو أن إسرائيل أدركت اليوم أن حركة حماس ربما نجحت في تجديد صفها من القادة العسكريين والتقنيين في الداخل والخارج، وهو ما أظهره أداؤها المتصاعد في الحرب الأخيرة تحديدًا. ومع صعود "يحيى السنوار"، الأسير المحرر، إلى أعلى رتبة للحركة داخل قطاع غزة، فإن إسرائيل اليوم تتهم نفسها بدعم صفوف خصمها الإقليمي الأول بالقادة المفرج عنهم في صفقة الأسرى. لذا فإنه يمكننا أن نفترض اليوم أنه بالنسبة إلى رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو"، ووزير الدفاع "أفيغدور ليبرمان"، يمكن أن تكون تلك الاغتيالات غير المصدق عليها بمثابة حل عملي واعد، بعيدًا عن الغارات الجوية، التي يتم فيها إسقاط القنابل التي تزن نصف طن أو طن على غزة، والتي تلزم إسرائيل بتحمل المسؤولية، والتي لا يبدو العالم اليوم مستعدًا لتقبلها دبلوماسيًا أو لتحمل تكلفتها الأخلاقية العلنية.

 

ومع إدراك إسرائيل أنه لا أحد في قطاع غزة يرغب في حرب جديدة، وأن حماس تخوض مرحلة انتقال داخلي للسلطة، وهي حريصة على التوصل إلى تفاهمات إقليمية مع قوى أصبحت ضدها مؤخرًا مثل مصر، فإنها تراهن أن رد الحركة سوف يكون محدودًا في أفضل الأحوال. ويبقى التطور الأكثر دلالة اليوم أن إسرائيل عادت تبرهن من جديد على قدرة أصابعها الخفية على العمل العابر للحدود دون ترك آثار، بعد فضيحتي الأردن ومحاولة اغتيال "خالد مشعل" الفاشلة عام 1997، ودبي وفضيحة اغتيال "المبحوح" 2010، والأهم أنها ترسل اليوم رسالة للمقاومة أن قطاع غزة ليس محصنًا كما تظن، وأن الأمر يتعدى قصف الصواريخ والطائرات إلى تحريك أشباح يحترفون القتل، قبل أن تبتلعهم الأرض، بلا أثر.

المصدر : الجزيرة