شعار قسم ميدان

دم أرامكو الأسود.. جذور السيطرة الأميركية على ثروات الرياض

midan - انفوجراف
اضغط للاستماع
          
مع نهاية صيف عام 1980، قرر الرئيس العراقي الجديد أن يفجر أولى مفاجآته في وجه العالم بعد أن قام بمهاجمة إيران. بالنسبة إلى الرياض، التي كان دوي الحرب يتردد في أجوائها، عنى ذلك أن عليها استشراف مستقبلها عبر استطلاع ما يمكن أن يدور في خلد "صدام حسين"، والطريقة الوحيدة لذلك هي الحصول على نظام "أواكس" الجديد للمراقبة والإنذار، الذي طورته الولايات المتحدة وقتها. 
 

اكتسب هذا النظام الأسطوري سمعته من وجود صحن راصد ضخم يُحمل فوق طائرة من طراز بوينغ 707، وبإمكانه تحديد موقع 240 طائرة معادية في نفس اللحظة، ومن ثم توجيه المقاتلات الجوية لاعتراضها، بما يمنح مستخدمه أفضلية 20 دقيقة كاملة على العدو، وهو فارق زمني حاسم إلى أقصى درجة في المعارك الجوية. بعد بضعة أشهر من مغامرة صدام، وتحديدًا في (يونيو/حزيران) 1981، كانت الطائرات الإسرائيلية تعبر مئات الأميال مستفيدة من النظام ذاته لتدمير المفاعل النووي العراقي قرب بغداد، ضمن إطار ما عرف باسم العملية أوبرا. وقد زاد ذلك من إصرار السعوديين للحصول على أواكس، ولكن بقيت هناك عقبة رئيسية أمام الرياض، ألا وهي اعتراض إسرائيل نفسها.

 

كانت إسرائيل ترى أن طائرات التجسس الأميركية المتطورة من شأنها أن تمنح عدوًا محتملًا أفضلية خطيرة(1). لذا فإن اللوبي الصهيوني الأكثر نفوذًا في كابيتول هيل قرر أن يُسخر كل إمكاناته من أجل معارضة الصفقة، بيد أن شابًا سعوديًا كان قد دلف إلى واشنطن للتو قبل ثلاث سنوات، ولم يكن يحمل بعد أي منصب رسمي، كان له رأي آخر. فعلى صغر سنه الملحوظ، كان الشاب بندر بن سلطان يعرف جيدًا كيف تدار الأمور في واشنطن، لذا فإنه لم يكن لديه أي مشكلة في قبول إرسال 10 ملايين دولار لحساب في بنك ولاية لويزيانا مقابل الحصول على صوت راسل بي لونغ، عضو مجلس الشيوخ عن الولاية. لم يتطلب الأمر أكثر من اتصال هاتفي لتحويل المبلغ من نيويورك حيث بنك تشايس مانهاتن الذي يرأسه ديفيد روكفلر، الرجل الذي اعتاد على خدمة عملائه الأثرياء عبر شراء أصوات أعضاء مجلس الشيوخ، ولكن وعود روكفلر للسعوديين بدا أنها ستذهب أدرج الرياح بفعل الضغط الإسرائيلي

 

كانت تحركات الشاب بندر سريعة وحاسمة. وبفضل علاقته مع ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، قام بندر مباشرة بتحريك مبلغ 200 مليون دولار من تشايس مانهاتن إلى منافسه الأميركي الأكبر جي بي مورغان، تحرك كان كفيلًا أن يتلقى بندر بن سلطان اتصالًا صبيحة اليوم التالي يخبره أن ديفيد روكفلر شخصيًا ينتظره في بهو الفندق، بعد عدد من كبير من الاتصالات المباشرة من روكفلر نفسه، والتي قرر الأمير السعودي ببساطة أن يتجاهلها.

 

ولفهم ما الذي يعنيه تحرك ديفيد روكفلر بهذه السرعة المذعورة، ربما ينبغي علينا أن نشير إلى اعتياد الأميركيين التندر بالقول إن رئيس الولايات المتحدة هو ثاني أهم المناصب أهمية في البلاد بعد روكفلر، الذي وقف وقتها محاولًا استرضاء أمير سعودي في الثلاثينيات من عمره، مؤكدًا له أنه سوف يبقى في واشنطن حتى يجمع له الأصوات التي يحتاجها. وكان روكفلر قادرًا على فعلها كما يعلم الجميع، وفي غضون ثلاثة أيام فقط كان روكفلر قد نجح في تأمين الأصوات اللازمة لتمرير الصفقة السعودية وصوتين إضافيين. وباتصال آخر من بندر بن سلطان، كانت الأموال السعودية تستقر من جديد في قلب مانهاتن.

 

 الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة لدى الولايات المتحدة منذ 1983 حتى عام 2005
 الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة لدى الولايات المتحدة منذ 1983 حتى عام 2005

 

يحب بندر بن سلطان، أو "بندر بوش" كما أطلق عليه الأميركيون فيما بعد إشارة إلى علاقته القوية مع عائلة بوش، تشبيه العلاقات السعودية الأميركية بـ "الزواج الكاثوليكي"، في إشارة إلى استقرارها وأبديتها، مستحضرًا في ذهنه أحداث أكثر من عقدين، لعب فيهما دور المهندس لتحالف تاريخي يعرفه الجميع اليوم بالزواج، وهو زواج مريب لم يكن عبد العزيز بن سعود يتخيل في أبعد أحلامه أنه سوف ينشأ يومًا، بمباركته شخصيًا، بين بلاده "المؤمنة" التي صنعها على نصل السيف، وبين "الكافرين الأجانب" كما كانوا يطلقون عليهم في شبه الجزيرة، والذين ساعدوه في إخماد التمرد ضد دولته السعودية الوليدة. كان ابن سعود يظن أنه سيكون قادرًا على وضع حد لتلك الفوضى بمجرد أن يستتب الأمر له، لكنه وجد نفسه مضطرًا مجددًا إلى دعوة حلفائه "الكافرين" إلى بلاده الناشئة التي كانت تتلمس خطواتها للتو في جزيرة العرب مطلع الثلاثينيات.

 

الصفقة الكبرى

لو كان الأمر بيده، لم يكن ابن سعود ليسمح "للكافرين الأجانب" بالاستكشاف والبحث في أراضيه، وهو الذي لم يشعر بأي رضا تجاه شيوخ الخليج من حوله، والذين قاموا ببيع ثرواتهم المعدنية إلى هؤلاء الأجانب بأبخس الأثمان. ولكن عبد العزيز بن سعود يشعر اليوم مجددًا بالحاجة الماسة إلى المال، فالكساد العالمي الثلاثيني أدى إلى انخفاض عدد الحجاج إلى أقل من الخمس تقريبًا، ففي مقابل 100 ألف حاج وصلوا إلى المملكة عام 1931، انخفض العدد إلى 20 ألف حاج(2) في عام 1934، ولم يعد ابن سعود قادرًا على إرضاء شيوخ القبائل كما كانت عادته، لدرجة أنه اضطر إلى قصر زيارتهم على أوقات العيدين فقط، كما أنه اكتشف للتو أنه لم يكن قادرًا أيضًا على دفع التزامات موظفي دولته الوليدة، مع تراكم لحصيلة ديون زادت على 300 ألف جنيه إسترليني تكبد معظمها في كبح تمرد الإخوان.

 

ومع تراكم هذه الضغوط، وجد عبد العزيز بن سعود نفسه في ربيع عام 1933 مضطرًا للترحيب بممثلي شركة ساندارد أويل أوف كاليفورنيا النفطية، المعروفة اختصارًا بـ "سوكال"، في جدة من أجل مفاوضات استمرت أسبوعًا، وافق ابن سعود في نهايتها على منح الشركة الأميركية امتياز التنقيب على حساب شركة "نفط العراق" المملوكة لبريطانيا، بعد أن وافقت هي بالمقابل على منحه 35 ألفًا من الجنيهات الإنجليزية الذهبية، تم شحنها في خزانة خشبية إلى جدة، حيث وضعت في مكان آمن تحت فراش وزير المالية عبد الله السليمان.

 

كان ابن سعود "المتدين" مضطرًا إلى إقناع نفسه أن الأميركيين يمثلون الوجه الطيب للغرب، وأنهم كانوا في كل الأحوال يسعون فقط خلف المال والتجارة، على العكس من البريطانيين الذين كان ابن سعود يظن أن محركهم الرئيسي هو الاستعمار، وأنهم متى جاءوا إلى بلاده فسوف يتحكمون في حكومته كما أسر آنذاك إلى مترجمه الشخصي محمد المانع(3)، الذي يذكر تلك السعادة التي عمت البلاط الملكي بعد أن فازت الشركة الأميركية بحقوق التنقيب، على حساب الشركات البريطانية. وعلى الرغم من تلك السعادة، فقد كان على الجميع أن ينتظروا ثلاث سنوات عصيبة قبل أن تظهر أي إشارة على أن الاستثمار الذي وضعته "سوكال" سوف يحقق أي ربح في المستقبل.

 

بدأت أعمال الحفر في الدمام فعليًا عام 1935، ولكن إمكانية إنتاج النفط بكميات تجارية لم تصبح مؤكدة قبل عام 1938، وكان قيام الحرب العالمية الثانية بعد عدة سنوات إيذانًا بدخول العالم عصر النفط. ومع مطلع العام 1945، بدا من الواضح أن ألمانيا قد خسرت الحرب، وأن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي خرجت منها رابحة ومتعطشة لخطط تعزيز نفوذها في العالم الجديد. في ذلك التوقيت، كان إنتاج النفط السعودي قد ارتفع إلى 21.3 مليون برميل سنويًا مقارنة بـ 500 ألف برميل فقط عام 1938، ما لفت انتباه الرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت الذي كان قد قرر أن تحل دولته محل بريطانيا بشكل كامل في الشرق الأوسط، بما يعني أن ابن سعود على موعد مع لقاء سيرسم مستقبل بلاده لعقود قادمة.

 

الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز بن سعود، على متن السفينة البحرية الأميركية البحرية في 14 فبراير 1945 (مواقع التواصل)
الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز بن سعود، على متن السفينة البحرية الأميركية البحرية في 14 فبراير 1945 (مواقع التواصل)

 

لم يكن ابن سعود قد غادر الجزيرة العربية في أي وقت حتى ذلك التوقيت. وللمفارقة فإن رحلته الأولى ستكون على متن شيء لم يعرفه ابن سعود في أحلامه: يو إس أي ميرفي، إحدى المدمرات البحرية وقتها المملوكة لأصدقائه الأميركيين من "الكفار الطيبين"، والتي حملته من جدة إلى البحيرات المرة في مصر ليصعد على متن مدمرة أكبر تدعى يو إس إس كوينسي حيث سيلتقي الرئيس الأميركي. كان لقاء روزفلت وابن سعود إيذانًا بانتقال العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة من حقبة التجارة إلى مرحلة السياسة، وهو اللقاء الذي يعتبره الكثيرون بداية للعقد السياسي التاريخي بين الأميركيين والسعوديين، والذي تمنح بموجبه السعودية النفط إلى الأميركيين في الوقت الذي يلتزم فيه الأميركيون تجاه أمن وبقاء حلفائهم السعوديين. بيد أن أصدقاء ابن سعود الطيبين لم يكونوا على ذلك القدر من الطيبة التي اعتقدها، أو ربما كان عليه أن يصدق رجال الدين السعوديين الذين أخبروه وقتها أن ملة الكفر واحدة على أي حال. فوجئ ابن سعود أن روزفلت يطلب منه مساعدته في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وأصبح واضحًا دون لبس بالنسبة لحاكم الجزيرة أن الأميركيين كانوا يوافقون على المشروع البريطاني بتوطين اليهود في فلسطين، ولم يكن بمقدور ابن سعود، الذي وقف حينها راعيًا لأكثر بقاع المسلمين قدسية، تقبل هذا الأمر بحال، ولم يعد بإمكانه أيضًا التراجع عن علاقته مع أصدقائه الكفار، لذا فقد اتفق الطرفان على تجاوز الأمر، مع وعد شفهي من روزفلت أنه لن يقوم بمناصرة اليهود على حساب العرب.

 

بيد أن القدر لم يمهل السعوديين الوقت لاختبار نوايا روزفلت، فمات بعد شهرين ليحل محله هاري ترومان، الذي لم يكن يحمل أي التزام تجاه وعود سلفه، وقام على الفور بدعم قيام "دولة إسرائيل" في الأمم المتحدة عام 1948. ومرة أخرى لم يكن لدى ابن سعود أي خيار سوي التجاهل، حتى عندما حثه زعماء عرب آخرين مثل الرئيس السوري على سحب امتيازات التنقيب عن النفط مع شركة أرامكو لأن ترومان اعترف بإسرائيل(4)، رفض الملك حينها محتجًا أنه يتحمل مسؤولية بلد شاسع لا يملك بنية تحتية ولا خدمات عامة ولا طرق يسلكها الناس، وأن النفط هو السبيل الوحيد الذي يملكه للتطوير، لذا فإنه بحاجة اليوم إلى الأميركيين.

 

بحلول ذلك التوقيت، كانت الولايات المتحدة تمتلك بالفعل قنصلية وقاعدة جوية في الظهران، مثلتا أساسًا لعلاقات تامة كما كان روزفلت وابن سعود يخططان، ولم يكن بالإمكان التراجع عن تلك العلاقة بحال، حتى حينما وضع نيكسون ثقل واشنطن كاملًا خلف إسرائيل في حرب عام 1973، كان الملك السعودي آنذاك فيصل بحاجة إلى اتخاذ موقف لإثبات "رعايته للعالم الإسلامي" عبر قطع النفط عن الأميركيين، وهو إجراء تسبب في شل الحياة كاملة في الولايات المتحدة، إلا أنه على الجانب الآخر، في ذات الوقت الذي كان فيصل يتفاوض فيه مع وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر بشأن النفط والحرب، كانت البعثات الأميركية تواصل مهام تدريب الجيش السعودي والحرس الوطني، وكانت أموال النفط السعودي تواصل التدفق بغزارة على نوادي السفاري لضمان رعاية المصالح الأميركية في أفريقيا وأميركا الجنوبية.

 

أرامكو

"بدأت العلاقات السعودية الأميركية بين ملك يفكر كشركة نفط وبين شركة نفط تفكر كملك"

(ريتشارد سانغر، مؤلف كتاب "تخوم عربية")

 

تبدأ حركة التاريخ في مدن الملح مع قدوم الأميركيين إلى موران وواحتها وادي العيون، حيث يقوم مستكشفو النفط بتدمير الواحة الخصبة وإجبار الأهالي على ترك منازلهم، وبناء نمط اجتماعي جديد يحكمه منطق السادة والعبيد لعمال النفط، كما صورها عبد الرحمن منيف في الجزء الأول من خماسيته الروائية المحظورة، التي تحمل عنوان "مدن الملح".

 

 في عام 1946 كانت الدوريات النفطية الأميركية تتحدث لأول مرة عن أرض تدعى السعودية العربية، حيث تم تثبيت جزء من الدولة الأميركية على بعد آلاف الأميال بين الصخور والرمال في قلب صحاري العرب  (أرامكو)
 في عام 1946 كانت الدوريات النفطية الأميركية تتحدث لأول مرة عن أرض تدعى السعودية العربية، حيث تم تثبيت جزء من الدولة الأميركية على بعد آلاف الأميال بين الصخور والرمال في قلب صحاري العرب  (أرامكو)

 

تصعب تحديد الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والخيال في مدن منيع الملحية، ففيما يبدو لنا تتجاوز الفروق بين موران والظهران ذلك النغم الموسيقي الذي يجمع اسميهما، فلا تشبه حياة المقيمين في مجمع أرامكو في الظهران على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية اليوم حياة سائر المواطنين السعوديين، فبخلاف أشجار النخيل والمروج الخضراء التي يتم استيرادها من الغرب منذ الأربعينات، يشيع نمط مختلف تمامًا، حيث تستطيع المرأة داخل المجمع قيادة السيارة بل والدراجة أيضًا بحرية تامة(5)، وهو الأمر المُحرم بالكلية خارج المجمع في أي بقعة سعودية، وتجد المطاعم المختلطة والمحلات التجارية المفتوحة على مدار الساعة دون أن تغلق وقت الصلاة، في حين تكتب اللافتات الإرشادية باللغتين العربية والإنجليزية معًا.

 

لم يولد هذا "الغيتو النفطي" المتحرر في قلب المملكة المحافظة من فراغ. فمنذ اللحظة الأولى لظهورها، لم تكن أرامكو شركة الزيت العربية الأميركية التي تأسست مطلع الثلاثينيات بشراكة بين السعوديين وسوكال(6) -قبل أن تنضم إلى الشراكة ثلاث شركات نفطية أميركية أخرى هي تكساكو وإكسون وموبيل- تحت اسم كاسوك الذي تغير لاحقًا إلى أرامكو، بالنسبة إلى الأميركيين مجرد شركة نفط عادية بقدر ما كانت علامة خاصة على التواجد الأميركي الجديد والدائم في جزيرة العرب. منحت اتفاقية عام 1933 أرامكو حق امتياز لمدة 60 عامًا للتنقيب وإدارة وتسويق النفط والغاز الطبيعي والمعادن على مساحة 360 ألف ميل مربع(7)، أي نصف مساحة المملكة تقريبًا، وهي مساحة تضم كامل النصف الشرقي من البلاد والربع الخالي، قبل أن يتم تمديد فترة الامتياز في اتفاقية مكملة عام 1939 لمدّة غير محددة، ووسّعت لتشمل كامل الأراضي السعودية باستثناء الحجاز، في مقابل حصول السعودية على نسبة سنوية من الأرباح بدأت بـ 15% لتصل تدريجيًا إلى 50% في بداية السبعينات.

 

منذ سنواتها الأولى، كانت أرامكو حريصة على كتابة نسختها الخاصة من التاريخ. في عام 1946، كانت الدوريات النفطية الأميركية تتحدث لأول مرة عن أرض تدعى السعودية العربية، حيث تم تثبيت جزء من الدولة الأميركية على بعد آلاف الأميال بين الصخور والرمال في قلب صحاري العرب(8). وفي عام 1947، وبينما كان الملك عبد العزيز بن سعود يقوم بزيارته الثانية إلى المستعمرة الأميركية التي أسستها شركات النفط في بلاده في الظهران، مستقلًا طائرة خاصة أهداها له الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في زيارة كوينسي الشهيرة، كان ولي عهده وابنه سعود يترجل من قطار محطة بنسلفانيا على بعد 6 آلاف ميل من الظهران، حيث كانت أرامكو قد تكفلت بزيارة ولي العهد الأولى إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك مأدبة غداء ضخمة لـ75 شخصًا في فندق وولدورف أستوريا، تم تخليدها بقائمة طعام مكونة من عشرين صفحة ذات غلاف مصنوع من جلد عجل أبيض، منقوش عليه بالعربية والإنجليزية "أول ظهور للسعودية على مسرح العالم الغربي".

 

خلال الزيارة كان سعود مضطرًا لمشاهدة فيلم وثائقي كان يعرض للأميركيين تزامنًا معها، يصور الخلاص الذي يقدمه الأميركيون للعرب المتخلفين والمهمشين على بعد آلاف الأميال في الجزيرة. ورغم أن سعود لم يكن سعيدًا بذلك الفيلم الذي يصور الأميركيين كرسل الخلاص إلى بلاده، إلا أن ولي العهد السعودي ورث على ما يبدو عن والده صنعة تجاهل ما لا يعجبه، واكتفى الأميركيون من جانبهم بوقف عرض الفيلم أثناء زيارة ولي العهد منعًا لإثارته. إلا أن ذلك لم يؤثر بحال على تدفق "الكفار" على بلاده، ففي مطلع الخمسينيات كان عدد العاملين في أرامكو يتخطى 20 ألفًا من بينهم 4000 أميركي، إضافة إلى 13 ألف سعودي، وثلاثة آلاف من العرب والأفارقة.

  

 

ولكن في الوقت الذي كانت أرامكو تقدم فيه كأرض الأحلام الجديدة للأميركيين في جزيرة العرب، كان الوضع ملتبسًا بشدة بالنسبة إلى السعوديين الذين تحولت أرامكو لعراب دولتهم الجديدة. فرغم استحداث ابن سعود لبعض الوزارات في دولته، كانت أرامكو فعليًا هي التي تقوم بكل شيء، بداية من تشييد البنية التحتية للبلاد لتيسير استخراج وتصدير النفط، وصولًا إلى إنشاء الموانئ والمطارات والمدارس والمستشفيات والسكك الحديدية وغيرها من المشاريع الشعبية التي تم إنشاؤها لزيادة شعبية "العائلة المالكة"، وتثبيت دعائم حكمها، وترسيخ التحالف النفطي الذي قامت عليه البلاد منذ مطلع الثلاثينيات.

 

طوال تلك الفترة وحتى مطلع الخمسينيات تقريبًا، لم يكن هناك أي احتكاك يذكر بين الموظفين السعوديين في الشركة وبين مدراءها الأميركيين وعائلاتهم، الذين كانوا منعزلين داخل ما يعرف بـ "الكامب الأميركي" في الظهران الذي تم تشييده خصيصًا لإقامتهم، وهو نظام فصل اجتماعي عرقي محاط بأسلاك شائكة، يعيش وراءها العمال السعوديون والعرب في ظروف متدنية داخل ما صار يعرف باسم "الكامب السعودي"، نظام أطلق عليه روبرت فيتاليس اسم "غيتو الحي الأميركي"، كما ورد في كتابه الشهير "صناعة الأساطير على تخوم النفط السعودي".

 

خلف أسلاك "الكامب الأميركي" ولدت صناعة النفط نوعًا من المعارضة السياسية لم يعرفه السعوديون من قبل في تاريخهم القصير(9). نوع من الوعي تولد عبر مزيج من التفاوت الاجتماعي ومن الاختلاط بين السعوديين وإخوانهم من العرب من فلسطين وسوريا ومصر ولبنان وغيرها، في فترة تاريخية حساسة تزامنت مع الاجتياح اليهودي لفلسطين. فبدأت إضرابات بسيطة متتالية أواخر الأربعينيات، ثم اشتدت في الخمسينيات مطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور والمساواة مع الأجانب، مع استجابة هزيلة من قبل إدارة الشركة التي غالبًا ما كانت تحظى بدعم كامل من العائلة السعودية المالكة. لم تكن أرامكو إذن فقط مسؤولة عن ظهور الجيل الجديد من التكنوقراط المتغربين وأبناء المحظيين من السعوديين، الذين سُمح لهم بترقي درجات في سلم الأحلام قبل تأميم الشركة منتصف السبعينيات، ولكنها كانت قبل ذلك مسؤولة عن ظهور جيل سابق من القادة العماليين والمعارضين السياسيين والمنشقين والمنفيين وحتى الأدباء المعارضين، الذين ظل تأثيرهم في مجتمع قبلي في المقام الأول محصورًا حول أسلاك "الكامب الأميركي" حتى منتصف السبعينيات، حين قرر السعوديون شراء حصص الشركاء الأميركيين في أرامكو متأثرين بأجواء الحرب العربية الإسرائيلية، وبموجة التأميم الوطني التي اجتاحت الشرق الأوسط، بما يعني أنه أصبح على السعوديين والأميركيين أن يبحثوا معًا من جديد عن صيغة جديدة لإعادة تعريف علاقة زواجهم الخاصة.

 

البترودولار

كان ضوء الفجر قد شق السماء الملبدة بالغيوم في (يوليو/تموز) عام 1974، عندما صعد وليام سايمون وزير الخزانة الأميركي المعين حديثًا، ونائبه غيري بارسكي، على متن الرحلة المنطلقة من قاعدة أندروز الجوية. لم تكن الأمور تسير على نحو جيد في واشنطن آنذاك، حيث تضاعفت أسعار النفط أربع مرات خالقة تضخمًا غير مسبوق في الولايات المتحدة، بعد الحظر الذي فرضته دول أوبك العربية ردًا على المساعدات العسكرية الأميركية للإسرائيليين خلال حرب (أكتوبر/تشرين الأول) 1973.

 

على المستوى الرسمي، لم تكن رحلة سايمون سوى إحدى الجولات المكوكية للدبلوماسية الاقتصادية في أوروبا والشرق الأوسط. ولكن مهمته الحقيقية، التي كانت معروفة فقط للدائرة المقربة من الرئيس ريتشارد نيكسون، كانت التوقف بضعة أيام في مدينة جدة الساحلية في السعودية، والهدف كان بوضوح تحييد النفط الخام كسلاح اقتصادي، وإقناع السعوديين بقبول صفقة تاريخية جديدة مع واشنطن.

 

الملك فيصل مع الرئيس الأميركي نيكسون عام 1971 (مواقع التواصل)
الملك فيصل مع الرئيس الأميركي نيكسون عام 1971 (مواقع التواصل)

 

وفقًا لـبلومبيرغ، لم يكن الفشل يومها يعني مجرد تهديد السلامة المالية للولايات المتحدة فحسب(10)، ولكنه كان يعني أيضًا المزيد من النفوذ السوفيتي في العالم العربي. وقد كان سايمون بحكم وظيفته يعي أكثر من أي شخص آخر ما يعنيه اتساع الدَين الحكومي الأميركي، وكيف يمكن أن يبيع خطة نيسكون الجديدة للسعودية، الخطة التي تنص على أن الولايات المتحدة المكان الأفضل لاستثمار عائدات السعودية النفطية المتنامية من البترودولارات، موظفًا ذعر فيصل من السوفييت وحلفائهم القوميين بالقدر الذي يستلزمه تأمين موافقته على الصفقة الجديدة. وكان الإطار الأساسي بسيطًا بشكل لافت للنظر، وشديد الشبه للغاية بصفقة كوينسي التاريخية: سوف تقوم الولايات المتحدة بشراء النفط من السعوديين وتلبية الاحتياجات العسكرية للمملكة، وفي المقابل فإن السعوديين سوف يستثمرون ثروات البترودولار مرة أخرى في سندات الخزانة الأميركية من أجل تمويل الإنفاق الأميركي.

 

استغرق الأمر شهورًا من المفاوضات من أجل الاتفاق حول التفاصيل، وأعقدها إصرار الملك فيصل على أن تكون قيمة مشتريات السعودية من سندات الخزانة الأميركية سرية تمامًا، حيث كان الملك السعودي متخوفًا من تصور أن أموال النفط السعودي يمكن أن تتحول بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مساعدات أميركية إلى إسرائيل مما يتسبب في إحراج المملكة. وقد حل مسؤولو وزارة الخزانة هذه المعضلة للسعوديين، ونجحوا في إخفاء أي وجود للمملكة العربية السعودية في سوق السندات الحكومية الأميركية. وبحلول عام 1977، كانت السعودية قد اشترت نحو 20% من جميع سندات الخزانة الأميركية المباعة للأجانب.

 

بخلاف مخاوف فيصل حول السرية، لم يكن الأمر مدعاة للكثير من القلق بالنسبة لأي من الطرفين؛ فمنذ اللحظة الأولى كان إنفاق الكثير من المال جزءًا ضمنيًا من العلاقات الأميركية السعودية: الولايات المتحدة توفر الأمن وفي المقابل يشتري السعوديون الأسلحة الأميركية، وخدمات البناء، وأنظمة الاتصالات، وكل شيء من الشركات الأميركية التي يشرف عليها في النهاية مسؤولون أميركيون سابقون، أو مقربون من دوائر صناعة القرار في واشنطن. كان الأمر أشبه بعملية "إعادة تدوير" مثالية للغاية تراكمت على مدار عقود، وتسببت في زيادة التجارة الثنائية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة من 56.2 مليون دولار في عام 1950 إلى 19.3 مليار دولار في عام 2000، وصولًا إلى 38 مليار دولار(11) في عام 2016.

 

ضمنت الديون السيادية للسعودية لدى الحكومة الأميركية، والتي قدرتها مجلة ذي أتلانتيك بقرابة تريليون دولار، عام 2004 عمل علاقة الزواج بشكل جيد بمعزل عن التدخل الأميركي المعتاد في الشؤون الداخلية للدول، وأعطتها درجة ملحوظة من النفوذ في واشنطن

لنأخذ مثالًا بمجموعة كارلايل، وهي شركة استثمارية خاصة، تأسست في عام 1987، وقامت منذ تأسيسها بإجراء أعمال مربحة للغاية مع المملكة العربية السعودية لا تزال مستمرة إلى الآن(12). في الفترة من 1993 إلى 2002 كان رئيس كارلايل هو فرانك كارلوتشي، مستشار الأمن القومي لـرونالد ريغان، ثم وزير الدفاع في إدارته، بينما كان كبير مستشاري المجموعة هو جيمس بيكر، الذي شغل منصب وزير الخارجية تحت إدارة جورج بوش الأب. ومن بين الأشخاص الآخرين الذين علقوا معاطفهم في كارلايل حتى وقت قريب يبرز اسم آرثر ليفيت، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات في إدارة بيل كلينتون، وجون ميجور، رئيس الوزراء السابق لبريطانيا العظمى والرئيس السابق لـ فرع كارلايل في أوروبا، وغيرهم من كبار المسؤولين الأميركيين والغربيين الذين عملوا كواجهات لشركات اقتصادية مارست أنشطة كبيرة الحجم مع المملكة العربية السعودية.

 

هناك أيضًا شركة هاليبرتون التي كانت خاضعة لإدارة ديك تشيني(13)، وزير دفاع جورج دبليو بوش ثم نائب الرئيس في ولايته الثانية. واستفادت هاليبرتون بشكل متكرر هي الأخرى من المال السعودي، ففي أواخر عام 2001 وقعت هاليبرتون عقدًا بقيمة 140 مليون دولار لتطوير حقل نفط سعودي جديد. ولسنوات عديدة أيضًا عملت كوندوليزا رايس، مستشارة جورج دبليو بوش لشؤون الأمن القومي، في مجلس إدارة شركة شيفرون، التي اندمجت في عام 2001 مع شركة تكساكو، وتشاركت شيفرون تكساكو مع أرامكو السعودية في العديد من المشاريع للتنقيب عن النفط في آسيا.

 

ومن شيفرون إلى أميرادا هيس، حيث عمل نيكولاس برادي، وزير الخزانة في عهد بوش الأب، ومساعده إديث هوليداي في مجلس إدارتها، حيث تعاونا مع السعوديين لأجل استكشاف النفط في أذربيجان، وسرعان ما انضمت شركة فرونتيرا ريسورسز ومقرها هيوستن إلى عملية أذربيجان في العام نفسه. وضم مجلس المستشارين في فرونتيرا آنذاك كلًا من عضو مجلس الشيوخ السابق في تكساس، ووزير الخزانة السابق، ومرشح منصب نائب الرئيس عن الحزب الديمقراطي لعام 1988 لويد بنتسن؛ إضافة إلى جون ديوتش، نائب وزير الدفاع الأميركي الأسبق والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية.

 

ضمنت الديون السيادية للسعودية لدى الحكومة الأميركية، والتي قدرتها مجلة ذي أتلانتيك بقرابة تريليون دولار، عام 2004 عمل علاقة الزواج بشكل جيد بمعزل عن التدخل الأميركي المعتاد في الشؤون الداخلية للدول، وأعطتها درجة ملحوظة من النفوذ في واشنطن. ولكن العلاقات لم تكن لتسير بهذا القدر من السلاسة دون شخص لديه ما يكفي من المهارة لضمان اتصال مريح بين الطرفين، ومع دخول الصفقة الأميركية السعودية حيز التنفيذ الفعلي مع مطلع الثمانينيات، لم يكن ذلك الشخص سوى الأمير الذي سطع نجمه مؤخرًا بندر بن سلطان.

 

لا يتمتع بندر بن سلطان بنسب رفيع في العائلة المالكة السعودية، فرغم أن والده هو سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع وولي العهد السعودي الراحل، إلا أنه أمه هي خيزران، الجارية اليمنية للأمير سلطان. ربما تكون الرغبة في إثبات الذات إذن هي التي دفعت بندر أن يختار صناعة تاريخه الخاص كطيار مقاتل، بعد أن تخرج في الكلية الجوية الملكية في بريطانيا، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة كمستشار لولي العهد فهد بن عبد العزيز، ويثبت جدارة سريعة في صفقة الأواكس. وفي عام 1983 عين الملك فهد بندر بن سلطان سفيرًا رسميًا للبلاد في واشنطن، وقد بدأ نشاطه بدعم الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا عام 1985 بمبلغ 10 ملايين دولار لمنع الشيوعيّين من الوصول إلى السلطة، استجابة لطلب وليام كيسي مدير وكالة الاستخبارات المركزية. وفي وقت لاحق، وتحديدًا في (يونيو/حزيران) من عام 1984، دفع بندر 30 مليون دولار من العائلة المالكة للكولونيل أوليفر نورث لشراء أسلحة لتمويل عصابات الكونترا في نيكاراغوا، في مواجهة الحكومة الشيوعية بعد أن أوقف الكونغرس الدعم عن العملية.

 

الأمير بندر بن سلطان والرئيس الأميركي وقتها جورش بوش (رويترز)
الأمير بندر بن سلطان والرئيس الأميركي وقتها جورش بوش (رويترز)

 

بيد أن مساعدات بندر بن سلطان والعائلة المالكة بلغت أوجها مع صعود إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش(14)، الذي اعتاد استضافة صديقه السعودي في منزله بشكل متكرر، إلى درجة تسميته في الأوساط السياسية الأميركية باسم "بندر بوش"، وفي المقابل اعتاد بندر دعوة بوش لممارسة هواية قنص الطيور حول قصره الخاص في فيرجينيا، كما ساهم أيضًا بمبلغ مليون دولار في إنشاء مكتبة بوش الرئاسية في محطة كوليدج بولاية تكساس. وبفضل العلاقة القوية بين بندر وجورج دبليو بوش، ومن خلفها شبكات البترودولار الضخمة والمتشابكة، تجاهل بوش توجيه أي اتهامات إلى السعودية بشأن أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) 2001، رغم أن معظم الخاطفين كانوا من السعوديين، بل إن بوش قام باطلاع بندر على تفاصيل حيوية بشأن خطة الحرب ضد صدام حسين، حتى قبل أن يعلم بها وزير الخارجية الأميركي كولين باول نفسه، وفي المقابل فإنه حصل على وعد من بندر أن الحكومة السعودية سوف تقوم بزيادة إنتاج النفط لخفض أسعار الوقود، لمساعدة بوش على الفوز بولاية ثانية، وفق ما أورده صحفي التحقيقات الشهير بوب وودوارد في كتابه حول الحرب العراق المعنون باسم "خطة الهجوم"(15). ورغم ذلك، فإن الحرب العراقية، ومن قبلها أحداث سبتمبر، مثلتا نقطتين فارقتين في العلاقات بين الزوجين، وبخاصة أن من يدير الأمور في الرياض وقتها هو الأمير عبد الله الذي لا يبدو أنه يحمل رؤية موافقة تمامًا لتلك التي يتبناها "بندر بوش".

 

"الحرب على الإرهاب"

لم يتوقع أحد أن يسير اللقاء بينهما يومها على نحو جيد، خاصة أنه جاء بعد أشهر قليلة من أحداث 11 سبتمبر. في الصيف السابق وقبل أسابيع من الأحداث التي ضربت الولايات المتحدة، كان ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز يتجنب لقاء بوش بسبب موقفه الداعم لأرييل شارون إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث اتهم عبد الله بوش بالتواطؤ في جرائم حرب على الأراضي الفلسطينية، ولكن أحداث (سبتمبر/أيلول) قلبت الطاولة فوق رؤوس الجميع، ودفعت عبد الله إلى القبول أخيرًا بالسفر للقاء الرئيس الأميركي.

 

خرج اللقاء الذي جرى في مزرعة بوش في كراوفورد بتكساس حميميًا على غير المتوقع، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي يرتدي فيها بوش زيًا رسميًا ورابطة عنق في مزرعته. وبعد الحديث انسحب بوش وعبد الله بصحبة مترجميهما للتحدث لأربع ساعات كاملة، أصر خلالها عبد الله أن يشاهد بوش تقاريرًا أعدها مساعدو الأول حول ما يحدث في فلسطين. كان ولي العهد السعودي قد تعرض لهجوم واسع لقبوله بزيارة الولايات المتحدة في هذه الأوقات العصيبة، ما اضطر إعلامه لحشد جهود كبيرة للدفاع عنه، إلى درجة أن متحدثه الرسمي قال إن عبد الله ملأ طائرته البوينغ ببضعة آلاف من النسخ المترجمة للقرآن الكريم لتوزيعها على الأميركيين لتعليمهم الإسلام. ورغم أن عبد الله طرح على بوش مبادرة كاملة تعترف بموجبها جميع الدول العربية بإسرائيل، في مقابل انسحاب الأخيرة إلى حدود عام 1967، إلا أن بوش لم يكن يخطط لمنح عبد الله أي تنازلات حقيقية، ما تسبب في إغضاب ولي العهد السعودي الذي هدد بالرحيل. في نهاية المطاف كان بوش يقف بصحبة وزير خارجيته كولين باول ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد في 24 (يوليو/تموز) التالي في حديقة البيت الأبيض ليعلن رؤيته للقضية الفلسطينية "دولتان تعيشان جنبًا إلى جنب بسلم وأمان".

 

ورغم حرص بوش على أن يفرغ رؤيته تلك من أي مضمون حقيقي، من خلال رفض الاعتراف بياسر عرفات، وإرسال تطمينات أخرى إلى الإسرائيليين بشأن تصريحاته، ظل عبد الله يفخر أنه نجح لأول مرة في انتزاع وعد المبادرة من الأميركيين. إلا أن الأمور كانت تخبئ له في جعبتها الكثير من المفاجآت، فمع حلول تلك اللحظات الحاسمة كانت خطة دونالد رامسفيلد المرعبة التي عرضها على البيت الأبيض قبل عدة أشهر قد دخلت فعليًا طور التنفيذ، وكانت الخطة ببساطة كما عبر عنها وزير الدفاع هي "شرق أوسط جديد بدون صدام حسين".

 

 الأمير عبدالله بن عبدالعزيز -وقتها- أثناء زيارته الرئيس الأميركي بوش في 2002 (رويترز)
 الأمير عبدالله بن عبدالعزيز -وقتها- أثناء زيارته الرئيس الأميركي بوش في 2002 (رويترز)

 

من وجهة نظر رامسفيلد، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى توجيه انتقامها بعد أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) إلى شخصية عربية شريرة. وكان صدام خيارًا مثاليًا، وجاءت الرتوش التكميلية حول تلفيق علاقته بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل تالية لذلك. بالنسبة إلى ولي العهد السعودي، كانت محاولة الأميركيين إثبات وجود تحالف بين صدام حسين العلماني وتنظيم القاعدة السلفي مضحكة للغاية، بيد أن الأميركيين كانوا يعتقدون أن السعودية لا تمانع الحرب بسبب تأييد بندر بن سلطان الضمني لها. كان بندر يعتقد أن الأميركيين سوف يذهبون للحرب في كل حال، وهو يعتقد يقينًا أن جميع القادة العرب -بمن فيهم أمراء الرياض- كانوا يرغبون في الإطاحة بصدام حسين وحتى وإن أخفوا ذلك. وجاء الموقف السعودي في نهاية المطاف متناقضًا للغاية، ففي حين عارض عبد الله الحرب في الجامعة العربية بوصفها احتلالًا غير مشروع، فإنه سمح لقوات الولايات المتحدة باستخدام قاعدة الخرج طوال مدة الحرب، على أن تجمع أغراضها وتغادر في وقت لاحق. كان ولي العهد السعودي قد وصل إلى قناعة أن على بلاده أن تنأى بنفسها عن مغامرات بوش العسكرية غير مأمونة العواقب، حيث أثبت الأميركيون أنهم بارعون في إثارة الفوضى، ولكنهم غالبًا ما يكونون أقل براعة في التعامل معها لاحقًا.

 

وعلى الرغم من الحفاظ على علاقات جيدة نسبية مع نظام بوش، لم تكن تطورات الأمور في واشنطن تسير في صالح السعوديين بشكل عام. مع انتصاف عام 2002، كان مجلس سياسات الدفاع الذي يرأسه المحارب البارد الشهير ريتشارد بيرل، يناقش تقريرًا قدمه المحلل الفرنسي في مؤسسة راند لورند مورييك يقول إن المملكة العربية السعودية هي "جزء من مشكلة الإرهاب الدولي وليست جزءً من الحل". وجاء في التقرير أن السعودية "تنشط على كل مستوى من سلسلة الإرهاب، من المخططين إلى الممولين، ومن الكادر إلى الجندي". كان هذا التقرير هو أول اتهام يتم تداوله في الأروقة الرسمية في واشنطن حول علاقة الرياض بالإرهاب، ورغم أن كولن بأول سارع إلى الاتصال بوزير الخارجية السعودي سعود الفيصل ليؤكد له أن التقرير لا يعكس الموقف الرسمي للإدارة الأميركية، ورغم قيام "بوش" بتأكيد الرسالة لـبندر بن سلطان خلال دعوته إلى مزرعة العائلة في كراوفورد بولاية تكساس، فإن هذه التضمينات كانت أضعف بكثير من التحولات التي كانت تدور على الأرض.

 

على بعد بضعة أميال فقط من قصر بندر المطل على نهر بوتوماك بولاية فيرجينيا، قام وكلاء وزارة الخزانة بمهاجمة أربع جمعيات خيرية مقرها المملكة العربية السعودية: مؤسسة سار، وصندوق الصفا الائتماني، والمعهد الدولي للفكر الإسلامي، ومنظمة الإغاثة الإسلامية الدولية، كما تمت مداهمة المقر الرئيسي لرابطة العالم الإسلامي، وهي مؤسسة جامعة تمولها الحكومة السعودية. وادعى ماثيو ليفيت وهو زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أمام الكونغرس أن طارق حمدي -موظف في المعهد- قدم لأسامة بن لادن بطاريات لهاتفه الفضائي. قبل ذلك بعدة أشهر كانت قوات الناتو تقتحم مكاتب المفوضية العليا السعودية للمساعدة في البوسنة والتي أسسها الأمير سلمان وقتها -الملك الحالي- حيث اكتشفت من بين أمور أخرى وجود صور للسفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا قبل وبعد تفجيرهما. أما بالنسبة لـبندر بن سلطان نفسه فربما كانت أصعب مهام حياته في واشنطن اضطراره لتبرير كيفية وصول مبلغ 130 ألف دولار من التبرعات الخيرية لزوجته الأميرة هيفاء الفيصل إلى جيوب اثنين من الخاطفين في أحداث 11 سبتمبر.

 

إرهاصات النهاية

على عكس تقديرات بندر وتمامًا كما كان يتوقع عبد الله، تسببت حرب العراق وتداعياتها في أضرار دائمة للتحالف التاريخي بين السعودية وأميركا، وهي أضرار لم تفلح الفاعليات البروتوكولية مثل وقوف ولي العهد عبد الله في فندق ريتز بصحبة حفيد الرئيس روزفلت، ممثلًا دور والده في نموذج محاكاة لاجتماع كوينسي نظمته جمعية الصداقة السعودية الأميركية في ذكرى مرور 60 عامًا على الاجتماع في عام 2005. لم تكن البروتوكولات الاحتفالية لتجبر شقوقًا صنعتها الصراعات الفعلية على الأرض. بعد ذلك بثلاثة أعوام كان عبد الله -الملك آنذاك- يحضر احتفالًا آخرًا بمناسبة مرور 75 عامًا على توقيع أول اتفاق نفطي بين السعودية والولايات المتحدة، وللمفارقة فإن هذا الاحتفال جاء متزامنًا مع احتفال آخر بمناسبة مرور 60 عامًا على تأسيس دولة إسرائيل. وفي إشارة لا تخلو من دلالة بسط عبد الله يديه أمام بوش وكأنه يزن كفتين: ستين في مقابل خمسة وسبعين. ولم ينتظر عبد الله جوابًا لأنه كان في قرارة نفسه على الأقل يعرف الجواب الأميركي بوضوح.

 

بعد ذلك بعدة أشهر تلقى عبد الله اتصاله الأول من الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما يدعوه إلى حوار الأديان في مدريد متمنيًا له التوفيق، ورد عبد الله بالموافقة "إن شاء الله" وهو ما قابله أوباما بتكرار الكلمة الإسلامية نفسها. ابتسم حينها عبد الله لمرافقيه ثم قال مازحًا "سوف نجعل منه مسلمًا حقيقيًا في القريب العاجل"(16). كانت الرياض هي محطة أوباما الأولى خلال زيارته إلى الشرق الأوسط في عام 2009، ورغم أن الاجتماع مع الملك عبد الله لم يكن ثريًا، إلا أن أوباما وعده بمعالجة القضية الفلسطينية. لكن عبد الله اعتقد فيما بعد أن أوباما خضع لـبنيامين نتنياهو، لذا فإنه أصيب بخيبة الأمل السعودية المعتادة من جديد.

 

الرئيس الأميركي أوباما يستلم هدية من الملك عبد الله عقب زيارته للسعودية في 2009 (رويترز)
الرئيس الأميركي أوباما يستلم هدية من الملك عبد الله عقب زيارته للسعودية في 2009 (رويترز)

 

لم تكن تلك آخر إحباطات عبد الله من أوباما، فقد جاء الربيع العربي ليجعل الأمور أكثر سوءً(17). كان عبد الله يرغب في أن يقدم أوباما كامل الدعم إلى حسني مبارك حليفه القديم في مصر، حيث رأت السعودية الديمقراطية في مصر السنية خيارًا أكثر سوءً من تسليم العراق إلى الشيعة. إذ كانت هناك نماذج أخرى سوف تنشأ قياسًا على الديمقراطية المصرية فلماذا لا تكون في المملكة العربية السعودية كذلك؟ كان ذلك يمثل تحديًا وجوديًا لملوك الخليج.

 

كان التهديد القادم من قبل البحرين على الجانب الآخر من جسر الملك فهد أكثر قربًا. صعود حكومة شيعية هناك يعني أن المنطقة الشرقية الثرية في السعودية سوف تصبح على المحك. أعلن أوباما تعاطفه مع الإصلاح في البحرين، ولم يكن أمام عبد الله أي خيارات سوى التدخل لقمع الانتفاضة بنفسه تحت مظلة قوات درع الجزيرة. وسرعان ما أصبحت نوايا أوباما أكثر وضوحًا حين بدأ في التفاوض للوصول إلى اتفاق مع إيران، كان ذلك يعني أن واشنطن تتنصل من تعهداتها التاريخية تجاه أمن المملكة.

 

كان الفيصل يلمح إلى أن السعودية لا ترغب في فض علاقاتها مع الولايات المتحدة في أعقاب حرب العراق، ولكنها فقط راغبة في البحث عن شركاء جدد. ولكن بلاده لا تزال تثبت يومًا بعد يوم أن مغامراتها خارج إطار الزواج الأميركي لا تلبث أن تنتهي قبل أن تبدأ، لتعود لاهثة إلى أحضان واشنطن من جديد

يساند أوباما اليوم إذن متظاهر الخبز والعيش الذين أيد أسلافه قمعهم في أرامكو يومًا ما، وتثبت واشنطن لعبد الله في كل لحظة أنها تصر على نسيان تاريخها، فها هم الأميركيون يتنصلون من وعودهم معهم تمامًا كما فعلوا مع والده وأخوته، بوش مثل نيسكون ووزفلت مثل أوباما، وكان ذلك يعني أن عليه الاعتماد على نفسه. أنفق العاهل السعودي 120 مليار دولار على الدعم والنفقات الاجتماعية من أجل تثبيت دعائم حكمه في الداخل، وعشرات المليارات الأخرى سعيًا لتثبيت أنظمة حليفة في مصر وسوريا. ورغم كل ذلك فإن عبد الله كان يوصف بأنه حذر يميل إلى تجنب المخاطرة، أما سلفه سلمان ونجله القادم معه فيبدوان أكثر جرأة وعدوانية. بمجرد صعوده إلى السلطة ذهب سلمان ونجله إلى الحرب في اليمن، وقام ببناء تحالف واسع يضم 34 دولة في مواجهة إيران، وقام بتكثيف المساعدات إلى حكومة القاهرة التي دعمها أكثر من سلفه عبد الله.

 

على الجانب الآخر، لم يكن أوباما يرى السعوديين أكثر من "راكبين بالمجان" يعتمدون على الولايات المتحدة لأجل أمنهم(18)، رغم أنه باعهم أسلحة أكثر مما فعل أي رئيس أميركي آخر. ولكن أسلحة أوباما جاءت بلا أي ضمانات، ومصحوبة بانتقادات علنية غير مسبوقة، لذا فإنها لم تفلح بأي شكل في تخفيف الرعب الذي يكتنف الرياض. وصار الحديث عن نهاية الزواج الكاثوليكي أمرًا مألوفًا في العاصمتين مع قرب رحيل أوباما وانتعاش صناعة النفط الأميركية وتهاوي حصيلة البترودولار السعودية، بما يعني أن واشنطن لم تعد محتاجة إلى الرياض. سيرحل أوباما ولكن البدائل ليست أفضل بحال: إما هيلاري كلينتون التي تمثل امتدادًا طبيعيًا لأوباما، وإما دونالد ترمب الذي لا يرى السعودية أكثر من "بقرة حلوب" ينبغي أن تدفع مقابل كل شيء.

 

وصل ترمب إلى البيت البيض على خلاف توقعات الأغلب، ومع وصوله فقد أثبت للجميع أن العدوانية السعودية في اليمن وغيرها كانت دليلًا على الضعف أكثر منها معبرًا عن الحسم والقوة. اختارت الرياض أفقر دولة عربية لتستعرض فيها نتائج عقود من المشتريات العسكرية ولتمزقها بمساعدة الإمارات تمامًا، وفشلت في تحقيق نتائج تذكر على كل حال. وإذا كان القادم الجديد إلى البيت الأبيض يحب المال فلنمنحه المال إذن وبوتيرة غير مسبوقة: مئات المليارات من الدولارات من العقود المفتوحة للتسليح والاستثمار دون أي مقابل غير الرضا والاستثمار الخطابي في معاداة إيران. مليارات مثلت تجديدًا ضمنيًا لصفقة البترودولار التاريخية، ولكن بشروط ترمبية جديدة تضع جميع الالتزامات على طرف واحد فقط.

 

تتدفق الأموال السعودية إلى الجيوب الأميركية بوتيرة أكبر من أي وقت مضى(19): 50 مليار دولار من الاتفاقات لأرامكو مع الشركات الأميركية، كدفعة أولى من اتفاقات يبلغ مجموعها أكثر من 200 مليار دولار، و15 مليار دولار من العقود مع جنرال إلكتريك، وميزانية مفتوحة لمشروع للبتروكيماويات مع إكسون موبيل في ولاية تكساس، ووحدة أعمال جديدة لعملاق الأسلحة رايثون، ومشروع لتجميع طائرات بلاك هوك في السعودية لصالح لوكهيد، و7 مليارات لشركة الحفارات روان من أجل أعمال الحفر البحرية، و9 مليارات مع نابورس، ومليارين مع وذيرفورد، وعشرات المليارات من الاستثمارات في البنية التحتية لأصدقاء ترمب، ومائة مليون لإرضاء إيفانكا نفسها، كل ذلك في وقت توقفت فيه ثروات البترودولار عن التدفق وبدأت المملكة تحرق مخزوناتها النقدية بوتيرة غير مسبوقة.

 

لم يكن الراحل سعود الفيصل محقًا إذن حين عارض ابن عمه بندر بن سلطان في وصفه للعلاقات السعودية الأميركية بالزواج الكاثوليكي. في تصريحه لديفيد أوتاوي من صحيفة واشنطن بوست، أعطى الفيصل توصيفه الخاص للعلاقة أنها أشبه "بالزواج الإسلامي" حيث يسمح للمسلم بالزواج من أكثر من واحدة(20). كان الفيصل يلمح إلى أن السعودية لا ترغب في فض علاقاتها مع الولايات المتحدة في أعقاب حرب العراق، ولكنها فقط راغبة في البحث عن شركاء جدد. ولكن بلاده لا تزال تثبت يومًا بعد يوم أن مغامراتها خارج إطار الزواج الأميركي لا تلبث أن تنتهي قبل أن تبدأ، لتعود لاهثة إلى أحضان واشنطن من جديد. هو زواج كاثوليكي إذن كما وصفه بندر، لكنه كذلك بالنسبة إلى طرف واحد لا يزال يدافع هواجسه حول المصير الذي ينتظره في اللحظة التي تنتهي فيها هذه العلاقة، التي يعلم الجميع أن ما بقي من عمرها لا يساوي أكثر من حجم الوقت الذي ستبقى المليارات السعودية فيه قادرة على التدفق إلى واشنطن، وهو وقت لم يعد طويلًا في كل الأحوال، لأن الحقيقة التي يغفلها التشبيه غالبًا أن الموت يبقى قادرًا على وضع حد لأي علاقة، بما في ذلك الزواج الكاثوليكي نفسه، حقيقة لا مجازًا.

المصدر : الجزيرة