شعار قسم ميدان

ماكرون وميركل.. خمس سنوات لإنقاذ أوروبا من التفكك

midan - Angela Merkel Emmanuel Macron
مقدمة المقال
خلال الانتخابات الأخيرة التي شهدتها دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، ظهرت مخاوف مبررة من وصول الأحزاب الشعبوية المتطرفة إلى السلطة، لكن فوز بعض القوى الأقل تطرفا لا يعني زوال الخطر كلية، بل هو مجرد إرجاء للمعركة وفق أكثر النظريات تفاؤلا. تناقش هذه المقالة التحديات التي سيواجهها الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية على الصعيدين المحلي والأوروبي، والأخطار المحتملة لفشلهما في قيادة القارة نحو مستقبل أكثر وحدوية.

 

نص المادة

تنفست أوروبا الصعداء فور الإعلان عن فوز إيمانويل ماكرون بانتخابات الرئاسة الفرنسية. قاد ماكرون حملة انتخابية صريحة في انحيازها للاتحاد الأوروبي، كما تعهد بالدفاع عن المصالح الفرنسية في القارة التي ستدب فيها القوة والنشاط ثانية، مما أحيا الآمال في استئناف عملية التكامل القاري، خاصة مع الانتخابات البرلمانية الألمانية المنتظر انعقادها في نهاية (سبتمبر/أيلول)، والتي ستُبقي غالبا على أنجيلا ميركل في منصب المستشار الألماني لفترة رابعة. لكن واقع ما بعد الانتخابات قد يأتي أشد تعقيدا مما يظهر لنا نتيجة لأسباب محلية وأوروبية.

 

على الصعيد المحلي، ربما يظهر ماكرون كفاءة وفعالية أقل مما توحي به نتيجة الانتخابات، وهي 66% في مقابل 34% لمنافسته، وسيواجه البرنامج الإصلاحي للرئيس الفرنسي ثلاثة أنواع من التحديات، يتعلق أولها بتمرير القوانين عبر برلمان ستؤدي الانتخابات العامة في الأغلب إلى بلقنته " أي التجزئة القائمة على استغلال القوميات الصغيرة".

 

ربما يجد ماكرون صعوبة في تحويل وعوده إلى سياسات على المستوى القومي، وهو الفشل الذي قد يسلم مقاليد الحكم إلى القوى الأقل تحمسا للقارة الأوروبية
ربما يجد ماكرون صعوبة في تحويل وعوده إلى سياسات على المستوى القومي، وهو الفشل الذي قد يسلم مقاليد الحكم إلى القوى الأقل تحمسا للقارة الأوروبية
 

أما ثاني التحديات فهي المعارضة التي سيواجهها على عدة جبهات سياسية: هناك اليمين المتطرف الذي تمثله مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية التي قد تغير اسمها لتحقيق هدفها المتمثل في لعب دور المعارضة الرئيسة، إلى جانب جمهوريي وسط اليمين، وحزب وسط اليسار الإشتراكي، ومؤيدي جان لوك ميلونشون اليساري.

 

وأخيرا، هناك الشوارع، حيث يعتبر الاعتصام في طرقات المدن الكبرى تقليدا معتادا لدى معارضي الإصلاح الجذري، يستمر في بعض الأوقات لأسابيع، وهو ما لم تسلم منه حكومة فرانسوا أولاند الاشتراكية نفسها حين مررت قوانينا تسهم بنصيب ضئيل في تحرير سوق العمل.

 

نتيجة لذلك، ربما يجد ماكرون صعوبة في تحويل وعوده إلى سياسات على المستوى القومي، وهو الفشل الذي قد يسلم مقاليد الحكم إلى القوى الأقل تحمسا للقارة الأوروبية، إن لم تكن معادية لها صراحة مع نهاية السنوات الخمس.

 

ترى لوبان نفسها زعيمة للمعارضة، وهو أمر مثير للقلق، إذ يهدف حزبها إلى مواصلة كتابة أجندة فرنسا السياسية.

 

عادة ما تلجأ الأحزاب الموصوفة بالشعبوية -مصطلح غائم يضم تحته أحزابا وحركات تختلف كثيرا في السمات والأهداف السياسية- إلى إستراتيجية من ثلاث مراحل للوصول إلى السلطة في البلدان الأوروبية. في البداية، تميل هذه الأحزاب إلى التأثير على سياسات الأحزاب الكبرى من خلال مؤسسات سياسية خارجية مثل البرلمان، كما فعل حزب استقلال المملكة المتحدة مع محافظي بريطانيا. في المرحلة الثانية، تدخل هذه الحركات إلى البرلمان، وتمنع الآخرين من تشكيل الحكومة رغم عجزها عن تولي ذلك بمفردها، مما يضطر الأحزاب التقليدية إلى تشكيل تحالفات واسعة، كما فعلت حركة النجوم الخمسة في إيطاليا، أو تضطرها إلى تشكيل حكومة أقلية، كما فعل ديمقراطيو السويد القوميون في السويد وحزب بوديموس اليساري في إسبانيا.

 

إن فوز لوبان أو خليفتها بانتخابات 2022 الرئاسية يعتبر أحد المخاطر المحلية، والتي قد تزداد احتماليتها في حال فشل القوانين التي يقترحها ماكرون
إن فوز لوبان أو خليفتها بانتخابات 2022 الرئاسية يعتبر أحد المخاطر المحلية، والتي قد تزداد احتماليتها في حال فشل القوانين التي يقترحها ماكرون

 

في المرحلة الأخيرة، تشارك هذه الحركات في الحكومة لتؤثر على السياسة القومية من موقعها هذا، كما فعل حزب تيمو سويني -المعروف سابقا بالفنلنديين الحقيقيين- في فنلندا. إذن، ربما تقود لوبان حزبها -ولو تحت اسم مختلف- لاجتياز المرحلة الأولى والثانية خلال سنوات رئاسة ماكرون على أمل تحقيق الثالثة في انتخابات 2022، وستزداد احتمالية وقوع ذلك إن فشلت القوانين التي يقترحها ماكرون شعبيا، وهي قوانين تخص التحرير الاقتصادي ومرونة سوق العمل وتقليص الموازنة بمقدار 60 مليار خلال خمس سنوات، وبهذا تكون المخاطرة المحلية هي فوز لوبان أو خليفتها بانتخابات 2022 الرئاسية حال فشل ماكرون.

 

أما على الصعيد الأوروبي فإن الموقف أشد تعقيدا، فلا تزال القضايا التي قد تؤدي في النهاية إلى التفكك الأوروبي بنفس صلابتها، ولم يطرأ عليها ما يفيد حدوث أي تغير في التوجهات، وهذه القضايا هي:

 

الإفقار المتزايد لبلدان منطقة اليورو الجنوبية، وهذه هي النتيجة المباشرة لتبني سياسة التقشف علاجا لأزمة اليورو التي بدأت خلال 2009/2010 باليونان، لكنها بالأساس نتيجة لعدم اكتمال منطقة اليورو، فهي ليست باتحاد مالي، ناهيك عن كونها اتحاد تحويل.

 

الزيادة غير المتوقعة في الهجرة من بلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث خلقت أزمة الهجرة في 2015 نقطة انقسام جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، مما أدى لرفض بلدان أوروبا الشرقية استقبال حصتها من (المهاجرين/اللاجئين).

 

ستغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي ولم ترد كلمة عن توسيع الاتحاد الأوروبي في أي من السيناريوهات الخمسة التي تضمنها تقرير المفوضية الأوروبية الصادر في (مارس/آذار) الماضي. لقد بذل عدد من البلدان -على رأسها صربيا– جهودا كبيرة لتحسين اقتصادها على أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي تقف الآن محاصرة بين روسيا وتركيا، ومع غياب أي استجابة من جانب بروكسل ربما يغدو الخيار الروسي جذابا لبعضها.

 

إن تبين عجز ماكرون على مستوى السياسة المحلية فلن يملك القوة السياسية الكافية لمواجهة هذه القضايا المتجذرة. والتي تحتاج لمواصلة تطوير المشروع الأوروبي إلى الاهتمام بخمس ملفات
إن تبين عجز ماكرون على مستوى السياسة المحلية فلن يملك القوة السياسية الكافية لمواجهة هذه القضايا المتجذرة. والتي تحتاج لمواصلة تطوير المشروع الأوروبي إلى الاهتمام بخمس ملفات
 

في السياق نفسه، سيستمر ضغط روسيا على جميع البلاد الأوروبية، بل سيزيد على الأغلب، في حين يتوقع تقليص الولايات المتحدة تحت حكم دونالد ترمب قوة ودور الناتو في أوروبا. وإن تبين عجز ماكرون على مستوى السياسة المحلية فلن يملك القوة السياسية الكافية لمواجهة هذه القضايا المتجذرة.

 

يحتاج مواصلة تطوير المشروع الأوروبي إلى الاهتمام بخمسة ملفات خلال السنوات القليلة القادمة. أولا، علينا النظر إلى ما نطلق عليه "فضاء أوروبيا مشتركا"، باعتبار انتمائه إلى ثلاث دوائر متحدة المركز، أصغرها منطقة اليورو المعدلة، وأوسطها الاتحاد الأوروبي المعدل، ويزيد عليها في الكبرى عددا من البلاد، مثل بريطانيا وأوكرانيا وتركيا.

 

ولكي تعمل أوروبا بطبقاتها الثلاث ينبغي منح البلاد الراغبة في مغادرة منطقة اليورو الحق في البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهذا كفيل بحل المشكلة اليونانية نهائيا.

 

ثانيا، ينبغي رسم الأقاليم العابرة للحدود وفق معايير أكثر دقة، فعلى سبيل المثال تواجه المناطق الواقعة على طول جبال الألب -بييمونتي في إيطاليا وإقليم ألب كوت دازور في فرنسا-، أو نهر الراين -ألزاس في فرنسا وبادن فورتمبيرغ في ألمانيا-، أو جبال البرانس -نافارا في إسبانيا وأقطانيا في فرنسا- مشكلات اقتصادية اجتماعية متشابهة، كما تجمع بينها نقاط تشابه تفوق بكثير ما تجمعها بمناطق أخرى بعيدة عنها ترفع علم الدولة نفسها -بييمونتي وكالابريا، أو ريفييرا ووادي اللوار-.

 

ومع الاستنزاف المستمر لسيادة الدولة القومية تزداد ضرورة تقليص المسافة بين سلطة اتخاذ القرار والشعب لتجنب صعود مزيد من الأحزاب الشعبوية.

 

ينبغي الاتفاق على سياسات الهجرة في عموم أوروبا وتفعيلها، نظرا لانعدام جدوى الحلول الجزئية المفعلة حاليا وعدم استقرارها
ينبغي الاتفاق على سياسات الهجرة في عموم أوروبا وتفعيلها، نظرا لانعدام جدوى الحلول الجزئية المفعلة حاليا وعدم استقرارها
 

ثالثا، تحتاج بلاد منطقة اليورو أولا -يليها الاتحاد الأوروبي لا محالة- إلى السعي بمزيد من الإصرار لإنشاء اتحاد تحويل تدعم فيها البلاد الثرية -مثل ألمانيا- البلاد الفقيرة فترة من الزمن، وهذا أمر مطلوب لتعويض فارق الربح الذي تجنيه بلاد المركز على حساب البلاد المهمشة في أي عملية توحيدية.

 

رابعا، ينبغي الاتفاق على سياسات الهجرة في عموم أوروبا وتفعيلها، نظرا لانعدام جدوى الحلول الجزئية المفعلة حاليا وعدم استقرارها.

 

خامسا، مع تزايد هامشية مسألة الحدود الأوروبية الداخلية، تحتاج القارة إلى تعزيز حدودها الخارجية وبناء جيش أوروبي فعال.

 

في ظل هذا المعايير الطموحة، لا يستطيع القادة الأوروبيون إلا تنفيذ جزء صغير من الإصلاحات اللازمة للاقتراب من اتحاد أكثر فيدرالية، وهو أقل ما يلزم لمواجهة قوى التفكك.

 

أما على مستوى منطقة اليورو، فيعني ذلك إكمال الاتحاد المصرفي بنظام مشترك لضمان ودائع المدخرين، وهو ما تعارضه ألمانيا حاليا بدعوى ضرورة خفض المخاطر قبل تقاسمها.

 

وكذلك على مستوى منطقة اليورو، يجري نقاش حول إنتاج أوراق مالية مدعومة بالسندات السيادية -تدعى أحيانا سندات أوروبية آمنة- لتوفير صور من مشاركة المخاطر وتقاسم الديون عبر الباب الخلفي، وسيعاد تعبئة جزء من الديون السيادية للبلدان ذات المديونيات الكبرى في صورة هذه السندات، مما سيسمح بخفض تكلفة الإصدار للجزء المتبقي.

 

 مؤتمر الدفاع والأمن الأوروبي (الأوروبية)
 مؤتمر الدفاع والأمن الأوروبي (الأوروبية)

 

ما زال النقاش في مراحله المبكرة، وسيواجه المشروع مقاومة من البنك المركزي الأوروبي والحكومات الأكثر مركزية في منطقة اليورو، خاصة ألمانيا وهولندا، كما يجري نقاش حول تحقيق استخدام أكثر فعالية لآلية الاستقرار الأوروبي، مثل تمويل الاستثمار في البنى التحتية الأوروبية. ومع ذلك، فإن آلية الاستقرار الأوروبي هي نتيجة لاتفاق حكومي دولي، لذا يصعب اعتبار أي تقدم على هذه الجبهة نوع من التكامل الأوروبي.

 

أما على مستوى الاتحاد الأوروبي، فما زال المجال مفتوحا لمزيد من التشارك الأمني والاستخباراتي، لكن ذلك قد يصعب -بل يستحيل- على المواطن العادي استشعاره، ومن غير المرجح أن يعيد الحياة إلى الروح الجماعية الأوروبية. هناك بالفعل نقاش مكثف حول تسريع ما يسمى بـ "التكامل العسكري"، وهي تسمية يطغى عليها التفاؤل، لكن بناء جيش أوروبي لا يزال هدفا بعيد الأمد، ويظل التأمين المشترك هو أقصى ما يمكن تحقيقه واقعيا في المدى القريب.

 

لا يعد وصول الأحزاب الشعبوية إلى السلطة -وهو ما تم عرقلته بصورة مؤقتة- أكبر المخاطر التي تهدد أوروبا حاليا، بل هو فشل أو انعدام فعالية القادة الذين يحتمل تبنيهم سياسات مناصرة للوحدة الأوروبية خلال الأربع أو الخمس سنوات القادمة على الأقل.

  

إن مستقبل أوروبا أمانة بين أيديهم، وسيؤدي فشلهم إلى استمرار وتعاظم التفكك الأوروبي، مما قد ينتج في النهاية قارة أوروبية لا تربطها الدوائر متحدة المركز المذكورة سابقا، بل تكتلات من البلدان ذات الأهداف الجغرافية السياسية المتباينة.

 

لا يوجد مكان واضح في هذه التكتلات للمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وستحاول على الأرجح استثمار علاقتها
لا يوجد مكان واضح في هذه التكتلات للمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وستحاول على الأرجح استثمار علاقتها "الخاصة" بالولايات المتحدة وغيرها لتشكيل تكتلات خارج القارة الأوروبية (الأوروبية)

 

من المرجح تشكل تكتل حول ألمانيا لاحتضان البلدان التي تنتمي إلى سلسلة القيمة الصناعية الألمانية، وتقاسم ثقافتها النقدية والمالية، مثل هولندا وبولندا والجمهورية التشيكية وسلوفاكيا وعددا من الدول الإسكندنافية المحتملة.

 

كما سيتعين على فرنسا الاختيار بين البقاء مع ألمانيا -تحت زعامة شعبية في الأغلب- لأسباب جيوسياسية بالمقام الأول، وبين السير وحيدة في طريقها، وهو ما سيحدث غالبا إذا تولت لوبان السلطة.

 

وبينما ستسعى إسبانيا إلى البقاء في الكتلة الألمانية، ستحاول إيطاليا تشكيل تكتل مع فرنسا وإسبانيا، وستلجأ في حال رفضهما إلى إقامة تكتل بديل مع اليونان والبرتغال، مما سيدفعها إلى تبني موقف أكثر استقلالا.

 

ماذا في بريطانيا؟ لا يوجد مكان واضح في هذه التكتلات للمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وستحاول على الأرجح استثمار علاقتها "الخاصة" بالولايات المتحدة ودول الكومنولث والصين والشرق الأوسط لتشكيل تكتلات مع بلدان خارج القارة الأوروبية.

   

==========================================

  

المقال مترجم عن: هذا الرابط

المصدر : الجزيرة