"أحجية الثورة".. كيف فكك الخميني جيش الشاه؟
"مادامت الحكومة تحتفظ بولاء القوات المسلحة، فلا يمكن لأي ثورة أن تنجح"
(ستانيسلوأندرجيوسكي)
رغم أن الثورات الشعبية حظيت باهتمام أكاديمي شديد الإثراء إلّا أن الدراسات الأكاديمية حولها تكاد تنحصر في دراسة مقدّمات الثورات وأسبابها أو في نتائج الثورة ولواحقها، ومع الجهد النظري الجادّ في استكشاف تلك الأسباب إلا أنه، ومع ذلك، بقي السؤال الحقيقي المتعلّق بثورات الربيع العربي الذي لم يكن (لماذا الآن؟) وإنما كان (ما الذي أخّر الثورة كلّ هذا الوقت؟) (1). فإشكالية الثورات، كما يوضح أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية الأميركي تيمور كوران، ليست في أسبابها وإنما في طبيعتها الفجائية وغير القابلة للتوقع (2)، ويقول أستاذ علم الاجتماع ريتشارد هاميلتون أن ثمّة فقرًا في الإنتاج الأدبي المهتمّ بتحليل الثورات، "ففي الغالب، وعلى رغم الحجم الهائل للمؤسسة العسكرية وقوّتها الظاهرة، إلا أنها عادة ما يتم حذفها من المناقشات التي تُعنى بالنظريات الكلية" (3).
في كتابه (كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟) يحاول أستاذ العلوم السياسية الأميركي زولتان باراني أن يقدّم "إطارًا معرفيًا يسمح لنا أن نتكهن بذكاء ودراية بدور الجنرالات في الثورات، كتحسين للوسائل غير العلمية في التوقع، والتي يميل الباحثون وواضعو السياسات إلى الاعتماد عليها كقاعدة لبناء أحكامهم" (4). ويرفض في الوقت ذاته المقولات الرومانسية الماركسية، كمقولات ماو تسي تونغ أو تشي جيفارا، حول "القوة غير المحدودة للجماهير الذين يستطيعون هزيمة كتائب الطاغية المنظمة حتى لو امتلكت قنبلة نووية"(5). في المقابل، يضع باراني عاملًا حاسمًا في انتصار الثورات من عدمها وهو ردّ فعل الجيوش تجاهها، إذ يتفق مع رأي عالم الاجتماع البولندي ستانيسلوأندرجيوسكي الذي يقول بأنه "مادامت الحكومة تحتفظ بولاء القوات المسلحة، فلا يمكن لأي ثورة أن تنجح" (6).
ومن أبرز الثورات في العصر الحديث هي الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه الإيراني واستبدلت مكانه حكمًا دينيًا منذ أواخر السبعينيات إلى يومنا هذا، وقد بلغ الاهتمام بالثورة الإيرانية إلى درجة أن ميشيل فوكو وصفها بأنها "ثورة ما بعد الحداثة الأولى في عصرنا.. وهي روح عالم بلا روح" (7)، ووصف آصف بيات مدى إلهامها لشعوب المنطقة بأنها "جعلت الأمر يبدو وكأن نهاية القرن العشرين جعلت التاريخ يحمل في رحمه ما يمكن أن يولد ثورات إسلامية بالعمق والقوة التي أُنتجت بها الثورات الاشتراكية في بداية القرن" (8). وطبقاً لرؤية باراني، فإن السؤال الأهمّ المتعلّق بالثورة الإيرانية هو: كيف تعامل الجيش الإيراني مع الثورة الإيرانية؟ وما هي العوامل التي أثرت في استجابة الجيش الإيراني إلى الانتفاضة الشعبية؟ وهل يمكن تكرار الأمر في بلدان أخرى أم أن الأمر يقتصر على الحالة الإيرانية فقط؟!
ما السبب في تعاظم دور الجيش إلى هذا الحدّ؟ السبب الأبرز يرجع إلى أنه منذ انسحاب القوّات البريطانية وإلغاء معاهداتها مع دول الخليج، فقد تبنّى الرئيس الأميركي نيكسون خيارًا بدعم إيران والمملكة العربية السعودية كشرطيين للمنطقة يحافظان على الأمن والمصالح الغربية فيها، وبالنظر إلى الإمكانات الأكبر المتوفرة لإيران -حينئذٍ- واستعداد الشاه لبذل فروض الطاعة، قفز عدد الجيش الإيراني قبل تطبيق مبدأ نيكسون من مائة ألف عسكري إلى 500 ألف عسكري (10)، وقفزت المعاهدات التسليحية التي لم تتجاوز عشرين سنة (بين 1950و1970) من 741 مليون دولار إلى 20 مليار دولار (10)،واستطاع الشاه تأسيس أكبر وأقوى جيش في المنطقة بأسرها، على الرغم بأنه ومنذ خمسين عامًا قبل الثورة الإيرانية، لم يشارك الجيش الإيراني في أي حرب خارجية ذات أهمية (11).
وبطبيعة الحال فإن الجيش كان الهيئة الأكثر قربًا من الشاه لسببين، الأول هو قلق الشاه المستمرّ حول صدق ولاء جنرالاته وضباطه وجنوده، والثاني هو أن القوّة العسكرية هي من أهمّ الأدوات التي يستخدمها أي نظام سياسي مستبدّ لفرض سيادته وسيطرته على الشعب. في هذا السياق، كان الشاه يشارك بشكل مباشر في العمليات اليومية للقوّات المسلحة، ويقوم بالإشراف على اختبارات المتقدّمين للجيش (12)، وكان الجنود يردّدون هتافاً صباحيًا "الله، الشاه، الوطن" (13)، ورغم أنه لم يكن هناك أي خطر خارجي يهدّد إيران في فترة حكم الشاه، إلّا أن موازنة البلد السنوية للقوّات المسلحة لم تقلّ أبدًا عن 23%، بل كانت ترتفع أحيانًا إلى 35% (13).
وعلى الرغم من الرفاه المبالغ فيه والإنفاق الباذخ على الضباط الكبار في الجيش لضمان ولائهم للشاه قد حقق مراده بالفعل وأصبح كبار الضباط مخلصين تمامًا للشاه، إلّا أن الوثائق التي كُشفت بعد نجاح الثورة توضح أن خصوم الشاه داخل الجيش كان قوامهم أساسًا بعض من أفراد الطبقة المتوسطة الدنيا ممّن نالوا قسطًا كبيرًا من التعليم. (16) والسبب -كما يطرح باراني- راجع في الحقيقة إلى أن التباين بين الرتب المختلفة في الخلفيات الاجتماعية، ومستوى التعليم، والمزايا المادية والامتيازات الاجتماعية، ومدى السيطرة على تدفق المعلومات من أعلى إلى أسفل، كلّ ذلك "يعزز من الانقسام بين طبقات الجيش الواحد، مما يؤثر على موقف الجيش من الانتفاضة حال صدور أوامر بقمع الاحتجاجات وتفريقها" (17).
وبغض النظر عن الجنرالات الكبار فإن المجندين إجباريًا داخل الجيش الإيراني حينئذٍ كانوا فئة ذات دورٍ هام في تحديد موقف الجيش، إذ أن الجيش القائم على التجنيد الإلزامي -بشكل عام- يمثل شريحة واسعة من المجتمع رافضة في أغلبيتها للتجنيد وتعتبره مرحلة انتقالية في حياتها، وبالتالي فهذه الشريحة أقرب إلى التعاطف مع الحركة الثورية حال قيامها من طبقة الجنرالات وكبار الضباط (18). وكانت هناك تفرقة واضحة بين طبقة ضباط الكبار وطبقة المجندين إلزاميًا، وقد وصلت التفرقة بين طبقات الجيش الإيراني لدرجة أن جنرالات الجيش الإيراني كانوا يتقاضون سنويًا حوالي 70,000 دولار حينئذٍ، بينما كان المجنّد الإلزامي يتقاضى نحو 365 دولار فقط سنويًا (19).
وفي (تشرين الأول/أكتوبر) 1978م، سيطر الطلّاب على جامعة طهران، ووقفت المدرعات وناقلات الجنود خارج الحرم الجامعي ولم تتدخل، ثمّ تبع ذلك سلسلة من قرارات حكومية بتخفيض ميزانية الجيش، وإقالة جنرالات، والسماح لعودة الطلاب المنفيين من منفاهم، بالإضافة إلى إصدار عفو عام عن المعارضة (21). عكست هذه الإجراءات ارتباك نظام الشاه وفشله في استيعاب الموقف ممّا ساهم في انخفاض نفسية الجنود والجنرالات على حدٍّ سواء، الأمر الذي ساهم أكثر في هروب المجندين المستمرّ من الجيش، خصوصًا أن الخميني وجه رسالة إلى الجنود بعد أحداث الجمعة السوداء قائلًا: "أيها الجيش الوطنيّ الإيراني! لقد رأيتم أن الشعب يُحبّكم، وينثر الورود في وجهكم، وتعرفون جيّدا أن هؤلاء الناهبين قد جعلوكم وسيلة لقتل إخوانكم للاستمرار في ظلمهم، فالتحقوا بصفوف إخوانكم الذين تركوا الشاه، وانضموا إلى صفوف الشعب، ليهاجموا الأعداء" (22).
غادر الشاه البلاد في 16 (كانون الثاني/يناير) 1979م وعيّن مكانه شابور بختيار رئيسًا للحكومة، ورجع الخميني من منفاه في أول (شباط/فبراير) 1979م، ورغم هذه الخطوات المفصلية، إلا أن كبار الضباط ظلّوا محتفظين بولائهم للشاه وعدائهم المطلق للثورة الإسلامية، وفي 9 (شباط/فبراير) أقدم الحرس الإمبراطوري على اقتحام مبنى التلفزيون الحكومي لبثّه فيلمًا حول عودة الخميني، كما وقعت صدامات بين طلاب الكلية الجوية وبين الحرس الجمهوري (23)، ولكن أخطر الصدامات بين الثوّار وبين الجيش كانت أثناء محاولة الثوّار اقتحام مصنع للبنادق الآلية في 10 (شباط/فبراير)، وهي المحاولة التي توّجت بالنجاح لصالح الثوّار ممّا تسبّب في زيادة عدد الجماعات المسلحة والمدنيين المسلحين عشرة أضعاف على الأقل.
وفي صباح اليوم التالي عقب تسليح المدنيين بكثافة، أعادت الجماعات المسلحة تنظيم صفوفها لتستوعب المتغيّرات الجديدة، ثمّ توجهت لمحاصرة أكبر معسكرات طهران وهما عشرت آباد وباغشاه، وتلا ذلك سيطرة الثوّار على خمسة معسكرات أخرى (23). وبعد التقدّم الكبير المسلّح للثوّار، أعلن مجلس قيادة الجيش بيانه الشهير بالحياد بين الحكومة وبين أنصار الشاه، وحينئذٍ -فقط- أصدر الجيش أمرًا للجنود بالعودة إلى الثكنات وتخلّى عن حكومة بختيار وأعلن تسليم السلطة للخميني (24)، وهو ما اعتبر إعلاناً رسميًا لنجاح الثورة وسقوط نظام الشاه.
لكن يبدو أن الحقيقة الكاملة حول الثورة الإيرانية وموقف الجيش منها وسقوطه المدوي خلالها لا تزال غامضة إلى حدٍّ ما، كما يقول أستاذ العلوم السياسية الأميركي-الإيراني سبهر ذبيح أنه "حتى الآن لم يفهم كل ملابسات سقوط القوات المسلحة فهمًا جيّدًا" (25)، فهناك تفاصيل لن تُعلن أبدًا لأن أطراف الصراع إما أسكتتهم الفرق الانتحارية للنظام الثوري، وإمّا لقوا حتفهم في (حزيران/يونيو) 1981م حيث قام خصوم النظام بالقضاء على قيادات الحزب الجمهوري الإسلامي عبر تفجير لمكتب الحزب قُتل خلاله ثلاثة وسبعون قائدًا من قادة الحزب والثورة.
بعد رحيل الشاه بيومين، فتحت بعض الوحدات من الجيش النار على بعض المتظاهرين إعلانًا منها بولائها للشاه رغم هروبه من البلاد (27) وبعدها أصدرت الولايات المتحدة بيانات تؤيد فيها الحراك الشعبي ممّا ترجمه بعض قادة الجيش بأنه تخلّي الولايات المتحدة عن نظام الشاه بالكامل، وفي 20 (كانون الثاني/يناير) وجّه الرئيس الأميركي كارتر رسالة علنية إلى الخميني بأن يعطي الحكومة الانتقالية فرصة (28)، ممّا يعني اعتراف الولايات المتحدة بقوّة الخميني ونفوذه رغم كونه خارج البلاد أصلًا.
ومن الوثائق التي تمّ الكشف عنها مؤخرًا هي الوثائق التي تفيد بأن الخميني أثناء وصفه المستمرّ لأميركا بأنها الشيطان الأعظم، قد تواصل معها سرًّا في (كانون الثاني/يناير) 1979م أي في ذروة الحِراك الثوري، وأرسل رسالة إلى واشنطن مفادها أن الشعب يستمع إليه لكن الجيش يستمع إلى الأميركان، ووعد الخميني الولايات المتحدة أنهم إذا أقنعوا الجيش الإيراني بالسماح للخميني بالسيطرة على الحكم، فإنه سيحافظ على الأمن والاستقرار في المنطقة وسيضمن للأميركان مصالحهم كما هي (29).
ويرجع هذا التواصل من طرف الخميني إلى سببين: الأول هو إدراك الخميني أن الولايات المتحدة قوّة رئيسية في الأحداث لا يمكن تجاوزها بدون حسابات واقعية، الثاني هو خوف الخميني من تكرار تجربة الانقلاب على مصدّق عام 1953م الذي هندسته الاستخبارات المركزية الأميركية، وهو الأمر الذي تأكّد بعد نجاح الثورة إذ كشفت الوثائق أن الجيش بالفعل بعد عودة الخميني حاول الانقلاب عليه لكنه فشل (30).