شعار قسم ميدان

"الحرب الهجينة".. كيف تسيّر روسيا عملياتها في سوريا؟

midan - القوات الروسية

لا أحد يعرف على وجه الدقة من هو "فاغنر(1)"، فباستثناء صورة لرجل ضخم أصلع مسلح أمام مروحية روسية، يكاد ضابط الاحتياط الروسي "ديمتري أوتكين"، الذي يقود شركة وصفها موقع روسي بـ «أمير حرب العام»، أن يكون مختفيًا تمامًا في الظلال.

 

على عكس "فاغنر"، لم يتمتع المرتزقان "ماكسيم كولجانوف" و "سيرجي موزوروف"، واللذان قتلا في سوريا ضمن مجموعة "فاغنر" قرب حلب، بنفس امتياز الاختفاء، برغم طلب المخابرات الروسية من والدتيهما التكتم على الخبر، مقابل تعويض قيمته 100 ألف دولار لكل واحد منهما، مانحة ولديهما وسام الفخر الروسي المقصور على الجنود النظاميين، في تهجين لمفهوم الشركة الخاصة، والتي تعني باللغة الرسمية الروسية "التكتم والإشراف المخابراتي".

 

تعتبر وحدة "فاغنر" واحدة من أكبر شركات القتل الروسية العاملة في سوريا، ومسؤولة عن استقطاب وتجنيد مئات المرتزقة الروس المقاتلين لحساب موسكو في الدولة العربية، وهي مزودة بدبابات (T-90)، ومعظم مجنديها كانوا مشاركين في عمليات أوكرانيا، كما تشكلت على أنقاض شركة "فيلق السلافيين"، والمنهارة بعد اعتقال الشرطة الفيدرالية الروسية لرئيسها إثر تلقيها هزيمة ثقيلة عام 2013م في سوريا أيضًا.

 

مثل سابقتها، تلقت مجموعة "فاغنر"، والمكونة من 400 عنصر تقريبًا، خسائر كبيرة في الداخل السوري، وهي خسائر تضاعفت بعد معركة "تدمر" الأخيرة هذا العام، حيث قدر(2) أحد المواقع المختصة بالاستقصاء عن العمليات الروسية السرية خسائر الوحدة بـ18 قتيلًا، أبلغت بهم روسيا عائلاتهم بعد أسبوع أو أسبوعين تقريبًا من مصرعهم، وطلبت منهم كتمان الأخبار، خاصة أنها كانت مسؤولة عن نقلهم من الداخل إلى إحدى قاعدتيها في سوريا بـ "طرطوس" أو "حميميم"، لتكون هذه الشركات الخاصة- الحكومية أحد أوجه "الحرب الهجينة" الروسية في سوريا، وامتدادًا لإستراتيجية موسكو القتالية ككل، ولدولتها الهجينة أيضًا.

 

«الاقتصاد الهجين».. معززات القوة
تستخدم روسيا القوة العسكرية بطريقة محددة ومقيدة، لكنها كافية بما ينبغي لتحقق أهدافها للسياسة الخارجية
تستخدم روسيا القوة العسكرية بطريقة محددة ومقيدة، لكنها كافية بما ينبغي لتحقق أهدافها للسياسة الخارجية
 
في عام 2011، اعتبر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أن هذه الشركات تمثل «وسيلة لتحقيق المصالح الوطنية بدون المشاركة المباشرة من الدولة»، كما أكد نائب رئيس الوزراء الروسي "ديمتري رازوجين" بأن فكرة دعم الشركات العسكرية الخاصة «فكرة تستحق النظر»، رغم معارضة وزارة الدفاع، كما قد يشهد عامنا الحالي تمريرًا لقانون يجعل هذه الشركات قانونية وشرعية في روسيا، مثل الشركات الأمنية المسموح بها في سوريا.

 

وإذا تم ذلك، فستصبح هذه الشركات الممثل الأوضح لـ "الاقتصاد الهجين"، حيث تعتبر هذه الكيانات خاصة بالمعنى التقني، لكنها تعمل كأذرع وأجنحة للدولة وبدعم وتأسيس من رجالاتها، كما "ديمتري أوتكين"، والذي كان حتى عام 2013م ضابطًا في لواء "سبيتسناز" الثاني، وأسس الشركة على اسم إشارة نداءه المعتادة لجنوده هناك، وضمها لمجموعة "موران" الأمنية.

 

يأتي استخدام موسكو لهذه الشركات ضمن إستراتيجية "معززات القوة"، حيث عملت روسيا على تخفيف خسائرها الذاتية الخاصة، بالاستفادة من السكان المحليين في المليشيات المحلية والجيش النظامي، ومن المتطوعين الروس، ومن مليشيات الحلفاء "الإيرانيين بالدرجة الأولى"، وقدمت من جانبها المرتزقة والقوات الخاصة لتعزيز هذه القوة، وتقليل الكلفة والخسائر، مما يمنحها مساحة من التصعيد قليل الكلفة العسكرية.

 

من جانب آخر، تستخدم روسيا القوة العسكرية بطريقة محددة ومقيدة، لكنها كافية بما ينبغي لتحقق أهدافها للسياسة الخارجية، حيث تعتمد موسكو بشكل أساسي على أدوات "الإكراه" إن جاز القول، ليصبح العمل العسكري عنصرًا من عملية تفاوض قهرية أوسع، بحيث تستخدم روسيا «ما يكفي من القوة لإنهاء المهمة السياسية، ولكن ليس أكثر من ذلك»، بحسب المختص بالشؤون الروسية "صموئيل شارب".

    

من الخطأ الاعتقاد أن روسيا لن تصعد قتالها عندما يتطلب الأمر ذلك، وهو ما جرى في معركة حلب نهاية العام الماضي 2016م  (رويترز)
من الخطأ الاعتقاد أن روسيا لن تصعد قتالها عندما يتطلب الأمر ذلك، وهو ما جرى في معركة حلب نهاية العام الماضي 2016م  (رويترز)

  

هذا التقنين بالاستخدام هو عنصر ثابت في الإستراتيجية الروسية المسماة بـ "الاكتفاء المنطقي(3)"، بما يتناقض بحدة مع العمل على تحقيق الهيمنة على الميدان بكل الوسائل الممكنة، والمعروفة باسم "عقيدة واينبيرجر(4)"، والتي أسس لها وزير الدفاع الروسي "كاسبر واينبرجر" بخطابه الشهر عام 1984م، حيث أصبحت موسكو ترى أن القوة يجب أن تستخدم بشكل رخيص التكلفة، ويمكن التنصل منه عند الضرورة "كالمرتزقة"، وبشكل يجعل العمليات العسكرية رشيقة ودقيقة.

 

بذلك تصبح الأهداف العسكرية امتدادًا للإستراتيجية الدبلوماسية، وتصبح القوة للقهر والإكراه، لا للسيطرة والغزو، انطلاقًا من خوف مشروع من التزامات طويلة الأمد، قد تتسبب بالوقوع في مستنقعات أو توسعات لا يمكن السيطرة عليها، أو خشية من تقديم فرص للخصم ليعاديها، وباعتراف وإقرار روسي واضح بمحدودية الموارد البشرية والاقتصادية المحلية، وبتأثير معارضة النظام العالمي حال تفعيلها، وتحديدًا الولايات المتحدة.

 

الحرب الهجينة
رغم أن روسيا تفضل استخدام البدائل القابلة للاستغناء عنها، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد أنها لن تصعد قتالها عندما يتطلب الأمر ذلك، وهو ما جرى في معركة حلب نهاية العام الماضي 2016، والتي وصلت بها الغارات الروسية إلى 400 غارة في يوم واحد، على سبيل المثال.

 

لم تشهد الساحة البدائل منذ البداية، حيث بدأت الطائرات الروسية عملياتها في سوريا بمعدل 20 غارة بشكل يومي مع بداية التدخل، في الربع الأخير من عام 2015م، ثم ارتفعت بشكل تدريجي إلى 60، وصولًا إلى 400، في إستراتيجية روسية معتمدة على التصعيد التدريجي لخلق ساحة من الإجبار، استخدمت خلالها موسكو أسلحة نظامية مسموح بها، أو محرمة دوليًا كالقنابل العنقودية والنابالم الحارق، أو غير نظامية مثل الحصار أو "الأرض المحروقة"، لإنهاء أي بدائل للخصوم على الأرض، وللضغط لتغيير السياسات الخارجية للولايات المتحدة وتركيا.

  undefined

 

يرى البعض أن هذه الإستراتيجية التدريجية «هشة» بجوهرها، لأنها تعتمد على استخدام أقل قدر ممكن من الجنود على الأرض لتحقيق الغايات السياسية. ولتحقق غايتها من الإجبار فعليها أن تستخدم قدرات عسكرية تقنية عالية وباهظة، مثل درة أنظمة الدفاع الجوي الروسي S-400، أو صواريخ كاليبر "المكافئ الروسي للتوماهوك الأميركي، والمعدة للاستخدام في قتال حقيقي، والتي تسعى من خلالها للاستعراض أمام خصومها الدوليين كذلك، وأبرزهم واشنطن.

 

إضافة لهذه الأهداف السياسية، تؤكد روسيا دائمًا على وضع إستراتيجية للخروج، بقدر أهمية إستراتيجيات البقاء والإنجاز، كما أنها تمارسها بالفعل، بعكس واشنطن التي غالبًا ما تجد نفسها عالقة في مستنقعات مكلفة بشريًا واقتصاديًا، فتسعى موسكو دومًا لخلق نقاط "فك ارتباط" متعددة، وتأسيس خيارات للتراجع والانسحاب عندما تنتهي الأمور، سواء في أوكرانيا أو في سوريا.

 

ففي سوريا؛ أعادت روسيا نشر قواتها الجوية والبرية أكثر من مرة، ونشرت وحدات متخصصة مثل الشرطة العسكرية في المدن التي أعادت السيطرة عليها، أو فئات المقتحمين الذين استخدمتهم في بدايات المعارك، مستعيدة أولئك الذين لا تحتاجهم، كما أعلنت انسحابها مرتين، في (مارس/آذار) 2016م، (ويناير /كانون الثاني) 2017م، وكأنها في كل مرة تغلق فصلًا جديدًا من التدخل، وتستعرض المكاسب السياسية، وتطبّع وجودها العسكري لدى حلفائها، بالإضافة لإرسال رسائل داخلية محلية أنها ليست متورطة في حملة عسكرية واحدة، تحقيقًا لكلمة ستالين الشهيرة: «في الجيش السوفييتي عليك أن تكون أكثر شجاعة لتنسحب من أن تتقدم».

 

تأتي كل هذه العوامل معًا، ما بين التقدم والتراجع، والأسلحة التقليدية في المساحات غير التقليدية، والمرتزقة داخل الجيش، إضافة لعوامل أخرى كالحروب المعلوماتية والدبلوماسية، وإعادة تشكيل سوريا ديموغرافيًا، تأتي كامتداد لإستراتيجية الحرب الروسية الجديدة المسماة بـ «الحرب الهجينة(5)»، أو ما يمكن وصفه بـ «القهر متعدد المجالات(6)»، والذي يسعى لتحقيق كلٍ من الردع والإكراه، وتحقيق أهداف سياسية، أو ما يمكن تسميته بـ "عقيدة جيراسيموف(7)"، نسبة إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية "فاليري جيراسيموف"، والذي أوضحها في مقالة في صحيفة "في بي كيه" (VPK) الروسية عام 2013م بعنوان: «قيمة العلم بالتنبؤ»، كاشفًا بها ما أسماه بـ «الحرب غير الخطية»، والتي تم تحليلها في مخطط جيراسيموف الشهير، موضحًا أن الإجراءات غير العسكرية تصل نسبتها إلى أربعة أضعاف الإجراءات العسكرية في الحروب.

 

ترسانة هجينة
نشرت روسيا أنظمتها الدفاعية وعشرات دبابات الـ
نشرت روسيا أنظمتها الدفاعية وعشرات دبابات الـ "T-90" عالية التدريع  بالإضافة إلى ما يقارب 2000 عنصر في قاعدتيها العسكريتين، ليمثل هؤلاء الجزء الأقل انتشارًا وفاعلية في الترسانة الروسية بسوريا
  
لتحقيق هذه الأهداف، استخدمت روسيا جيشها وترسانتها(8) الهجينة داخل عملياتها في سوريا، وأبرزها قواتها الخاصة المعروفة باسم "سبيتناز"، والتي استخدمتها بمهمتين: "الاستطلاع"، عبر منح الطائرات مواقع الهجمات، و"مهمات الحماية الخاصة" مثل تأمين قاعدة حميميم، مستغنية عن المهمة الثالثة المنوطة بها بالعمليات القتالية المباشرة، والتي تركتها لمرتزقتها وحلفائها، سعيًا لتقليل خسائرها وتماشيا مع إستراتيجيتها.

 

مع الوقت، ازداد وصول الجنود من قوات "سبيتناز"، التابعة للمخابرات العسكرية، حيث كان هناك ما يقارب 230-250 جندي منها وقت الذروة، إضافة إلى عدد من فريق "مهمات العمليات الخاصة"، خاصة القناصين والمستطلعين. بالإضافة لما يقارب الستين عنصرًا ومستشارًا عسكريا من المخابرات العسكرية أيضًا. أما الترسانة العسكرية، فقد تركزت بشكل رئيس في القوات الجوية، والتي ضمت الطائرات الروسية الشهيرة "سوخوي"، من أقدم طرزها إلى أحدثها، بالإضافة إلى طائرات "سوخوي 30" متعددة المهمات، لتأمين الحماية الجوية ضد أي طيران آخر في المنطقة، إضافة إلى مروحيات (MI-24) القتالية ذات الارتفاع الهجومي المنخفض.

 

استهدفت هذه الترسانة مواقع عسكرية للمعارضة المسلحة و"الجيش الحر" بدرجة رئيسة، وبشكل أقل مواقع لـ "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف بـ "داعش"، والذي أتى التدخل العسكري الروسي لمحاربته رسميًا، لكن التركيز الأكبر للترسانة كان على قصف المستشفيات والمنشآت والمواقع المدنية، باستخدام ذخيرة موجهة مثل قنابل (KAB 500 S-E)، أو صواريخ الأرض -جو "KH-25″، أو غير موجهة من القنابل مرورًا بالصواريخ وصولًا للقنابل العنقودية، في حملة قصف اقتصادية عبر استخدام معدات قصف حديثة بذخيرة قديمة، مع تجريب لأحدث أسلحتها أيضًا في الأراضي السورية.

  

 

على الأرض، نشرت روسيا أنظمتها الدفاعية وعشرات دبابات الـ "T-90" عالية التدريع والمضادة للصواريخ، بالإضافة إلى ما يقارب الألفي عنصر في قاعدتيها العسكريتين، ليمثل هؤلاء الجزء العسكري الروسي الأقل انتشارًا وفاعلية في كل ترسانتها في سوريا.

 

من البحر، تصدر المشهد "أسطول البحر الأسود"، الذي يعمل بشكل رئيس على تأمين الجو من الساحل الروسي، ويتكون من عشرة سفن متغيرة، معظمها سفن هبوط ودعم واستخبارات، بجانب أربعة مقاتلات، تقدم بها قاذفة صواريخ "موسكافا" معظم القوة النارية لهذا الأسطول، بما فيها المكافئ البحري لنظام (S-300) للدفاع الجوي، مع فرقاطتين من طراز "كريفاك"، ومدمرة "كاشين" قديمة، وهن غير مجديات عسكريًا بشكل كبير، وبالكاد قادرات على المشاركة، وتستعيض عنهن روسيا بصواريخ "كاليبر" من أسطولها المتمركز في بحر قزوين.

 

لا يمكن القول إلا أن روسيا استطاعت التقدم في حملتها العسكرية في سوريا، واستطاعت قلب الموازين لصالحها وصالح حليفها الذي جاءت لإنقاذه: النظام السوري، وحققت أهدافها التكتيكية من خلال إستراتيجيتها الهجينة الجديدة، لكنها في الوقت نفسه تعكس حالة من "تهجين(9)" الدولة الروسية نفسها، والتي لم تضع أحجار أساسها بشكل كامل منذ الانهيار الأحمر وحتى الآن، متدخلة في إحدى أوضح وأعقد الحروب والصراعات في العصر الحديث، مما يطرح تساؤلات حول إمكانية استمرار الهجين، ولكن على المدى الطويل.

المصدر : الجزيرة