شعار قسم ميدان

"الأخ الكبير يحيطك".. لماذا تسعى السلطة لاحتكار أسماء الشوارع؟

ميدان - شارع عبرية

"علينا إبعاد الأسماء العربية لاعتبارات سياسية، ومثلما لا نعترف بالملكية السياسية للعرب على هذه البلاد، فإننا لا نعترف بملكيتهم الروحانية و بأسمائهم".

(ديفيد بن غوريون)

ما ذكره بن غوريون إنما يعبر عن سعي العديد من الأنظمة السياسية للسيطرة على الفضاء العام والخاص فور توليها زمام الحكم، للعمل بكل قوة على محو ما يرتبط بالنظام أو الثقاقة أو الأيديولوجية السابقة، والمحاولة بشتى الطرق لنشر مفاهيم نظامها الجديد. هذه الآليات والوسائل لا تعدم الأنظمة السياسية طريقا فيها إلا وسلكته إن كان لها فيه مصلحة، فمنها من يلجأ إلى فرض قوانين جديدة لبسط السيطرة، ومنها من يلجأ إلى تغيير أسماء الشوارع والمنشآت التي تعكس مفاهيم ومفردات النظام الحالي لتعبر عن حالة بديلة للنظام السابق، حينها ولا شك، يصبح الشارع بما فيه من مساحات قادرة على إيصال الرسائل ميدانا خصبا للسلطة من أجل تمرير مفاهيمها. في هذا التقرير سنستعرض عدة تجارب بدءا من فلسطين ومرورا بمصر وإيران حتى العراق، في سعي لقراءة أساليب الأنظمة السلطوية لتثبيت مفاهيمها ومحو الآثار المخالفة لها عبر التحكم بأسماء الشوارع.

 

لم تأل قوات الاحتلال جهدا في محو الآثار العربية وإبدالها بالعبرية، فقد بدأت حملة تغيير أسماء الشوارع والأماكن والساحات في فلسطين من قِبل قوات الاحتلال منذ مرحلة مبكرة، وبالتحديد عام 1878 عندما بدأ الكيان الصهيوني في إطلاق الأسماء العبرية بديلا عن الأسماء العربية على المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين. وظل الأمر مستمرا حتى عام 1922، إذ شكّلت الوكالة اليهودية "لجنة الأسماء" لتساعد المهاجرين الجدد من اليهود على اختيار أسماء لمستوطناتهم تحمل أسماء عبرية بديلة للأسماء العربية، وخلال الفترة من عام 1922 حتى 1948 تم تغيير 216 منطقة في فلسطين إلى أسماء عبرية، وكانت النتيجة أن "ديفيد بن غوريون"، أول رئيس وزراء لإسرائيل، أصدر عام 1951 قرارا بضم لجنة الأسماء إلى ديوان رئيس الحكومة، لتباشر أعمالها من خلال رئيس الحكومة. إذ تضم اللجنة مجموعة من الباحثين في مجالات مختلفة في الجغرافيا والتاريخ والآثار، ولا تزال هذه اللجنة تمارس عملها حتى الآن(1).

حائط البراق في دولة فلسطين المحتلة والذي يطلق عليه الاحتلال الإسرائيلي حائط المبكى (مواقع التواصل)

وترتب على ذلك نجاح إسرائيل في عبرنة 7000 اسم تقريبا لمواقع فلسطينية(2)، منهم 300 شارع وزقاق تقريبا في مدينة القدس فقط، ومن الأمثلة التي توضح عبرنة إسرائيل للمواقع الفلسطينية أن "حائط البراق"، وهو الجزء الجنوبي من المسجد الأقصى، أصبح يطلق عليه اسم "حائط المبكى"(3)، كما أصبح اسم "أورشليم" يطلق على مدينة "القدس"(4)، وكذلك شارع طريق "باب الأسباط" المؤدي إلى المسجد الأقصى إلى شارع "موطه" نسبة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي "مردخاي غور"(5)، وتغيير اسم شارع "السلطان سليمان" نسبة إلى السلطان العثماني سليمان القانوني ليصبح شارع "البطلات" تخليدا لذكرى المجندة "هداسا مالكا" التي ماتت في (يونيو/حزيران 2017)(6)، وأيضا تحول شارع "القصور الأموية" ليصبح "شير لمعالوت"، وتحول الشارع الممتد من "باب الخليل" إلى "باب العامود" إلى شارع طريق "المظليين" نسبة إلى المظليين الذين شاركوا في احتلال فلسطين 1967(7)، وأخيرا شارع "باب الزاهرة" الذي أصبح "أمير دروري" نسبة إلى مؤسس سلطة الآثار الإسرائيلية.

 

ونستنتج من هذا أن الهدف من عبرنة الاحتلال الإسرائيلي أسماء شوارع وساحات وقرى فلسطين، هو محو تاريخ فلسطين، وهذا ما يؤكد عليه الدكتور "جمال عمرو" الناشط في شؤون القدس، ويوضح أنه "ليس بالضرورة أن يتم تداول الأسماء العبرية التلمودية خلال العام الحالي أو القادم"، ويضيف أن "التغيير يستهدف بالدرجة الأولى ترسيخ هذه الأسماء في عقول الأجيال القادمة من الفلسطينيين والإسرائيليين"، وشدد على أهمية مواجهة هذه العبرنة بأن "تقوم الجامعات الفلسطينية والعربية بترسيخ هذه الأسماء عن طريق إجراء البحوث ووضع مجسمات تحمل الأسماء العربية، من خلال الإعلام العربي والفلسطيني"(8).

 

وهذا أيضا ما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ديفيد بن غوريون الذي تحدث قبل ذلك عن الهدف من تغيير الأسماء العربية إلى عبرية، والتي أوردناها في بداية التقرير، حيث قال "علينا إبعاد الأسماء العربية لاعتبارات سياسية، ومثلما لا نعترف بالملكية السياسية للعرب على هذه البلاد، فإننا لا نعترف بملكيتهم الروحانية وبأسمائهم".(9)

 

الحال التي شهدتها فلسطين من تزييف لمعالم المدينة، ليست منحصرة على مشاريع التهويد والإحلال، وهذا م يمكن ملاحظته في مصر، والتي يتجلى فيها سعي الأنظمة السياسية لتثبيت أواصر حكمها، حيث شهدت فترة الخمسينيات، وبالتحديد منذ قيام حركة "الضباط الأحرار"، تغييرًا لبعض أسماء الشوارع والميادين في مصر من أجل محو تاريخ النظام الملكي، والبدء في ظهور شعارات الحركة وأهدافها، وكانت النتيجة أن بدأت الحركة بتغيير أسماء الشوارع والميادين، وكانت البداية مع تغيير اسم ميدان "الإسماعيلية" إلى ميدان "التحرير" في (يناير/كانون الثاني1953) أثناء احتفالات حركة الضباط بمرور ستة أشهر على قيام الحركة وتأسيس "هيئة التحرير"، وعلى الرغم من أن الميدان أطلق عليه اسم ميدان "السادات" بعد ذلك، لكنه ظل يُعرف بميدان التحرير(10).

 

وترتب عن ذلك قيام الحركة بتغيير الكثير من أسماء الشوارع والميادين بعد ميدان التحرير، مثل شارع "الملك فؤاد" الذي أصبح يحمل اسم شارع "26 يوليو"، نسبة إلى اليوم الذي خرج فيه الملك فاروق من مصر(11)، وأصبح "شارع الجمهورية" بدلا من شارع "إبراهيم باشا"، في إشارة واضحة إلى جعل ملامح المدينة تتشكّل وفقا للنظام، إذ يرمز تغيير اسم الشارع إلى تحول مصر من النظام الملكي إلى الجمهوري(12).

 

كما حملت أسماء الشوارع بعد قيام الحركة أسماء لزعماء وشخصيات أثّرت في تاريخ مصر، مثل تغيير شارع "سليمان باشا" إلى شارع "طلعت حرب"، وشارع "عماد الدين" إلى شارع الزعيم "محمد فريد"(11)، ثم شارع الملك "فاروق" الذي تغير إلى شارع "الجيش"، أضف إلى ذلك إطلاق "صلاح سالم"، العضو في حركة الضباط الأحرار، اسمه على أكبر شارع في العاصمة وهو شارع "صلاح سالم"، والذي يبدأ من منطقة الدراسة مرورا بالعباسية حتى مصر الجديدة(13).

 

على الجانب الآخر تنوع تغيير أسماء الشوارع في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، إذ نجد شارعا يحمل اسم رئيس وزراء إيران السابق "محمد مصدق"، على شارع "مصدق" بالدقي، وذلك بعد نجاحه في تأميم عدد كبير من شركات النفط البريطانية في إيران(14). كما نجد أسماء شوارع حملت دعوات عبد الناصر للقومية العربية بين الدول مثل شارع "جامعة الدول العربية"(12)، ومن أجل تخليد ذكرى انتصار، أو شهيد، فتغير اسم شارع "الخليج العربي" إلى شارع "بورسعيد" تخليدا لذكرى مقاومة شعب مدينة بورسعيد ضد العدوان الثلاثي عام 1956،(15) وهناك أيضًا شارع باسم "أحمد عبد العزيز" تخليدًا لذكرى أحد شهداء الجيش المصري في نكبة فلسطين 1948.(16)

ميدان التحرير أثناء ثورة ( يناير/كانون الثاني) 2011 (رويترز)

وشبيه بما حدث بعد قيام حركة الضباط الأحرار، بدأ عهد المخلوع مبارك في تغيير بعض أسماء الشوارع في محافظات مصر واستبدالها بأسماء زعماء ومشاهير(17)، بالإضافة إلى إطلاق اسم مبارك وقرينته على بعض المنشآت والأماكن العامة مثل محطة "مبارك" في مترو الأنفاق، والتي تغيرت بعد عزله إلى محطة "الشهداء" نسبة إلى شهداء ثورة "25 يناير/كانون الثاني"، لكن في عهد الرئيس ذي الخلفية العسكرية "عبد الفتاح السيسي" شهد تغيير أسماء بعض الشوارع إلى أسماء تحمل شهداء الشرطة والجيش في مصر، ولعل التغير الأبرز في هذه الفترة كان تغيير اسم ميدان "رابعة العدوية" إلى ميدان النائب العام "هشام بركات"، وذلك بعد شهر من تعرضه للاغتيال عام 2015.

 

ونستنتج من وراء تغير الاسم أنه ربما يعود إلى محو "مذبحة رابعة" من الذاكرة، أضف إلى ذلك أن هشام بركات هو الذي أصدر تصريح النيابة العامة للشرطة والجيش بفض اعتصامي "رابعة والنهضة" عام 2013.(18)

 

والخلاصة كما يقول "محمد رحيل" أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، إن الهدف من "إطلاق أسماء جديدة على الشوارع من قبل النظام الحاكم، هو نوع من التزييف للتاريخ"، ويعتقد "بأنه وسيلة من وسائل تصفية النظام القديم نفسيا ومعنويا"، ويضيف أن الهدف من ذلك هو "تدمير كل الإنجازات الواضحة للنظام السابق، وتدريجيا يبدأ ينسبها لنفسه"(19).

 

لم تختلف إيران عن مصر كثيرا في تغيير أسماء الشوارع، فبعد قيام حركة الضباط الأحرار في مصر لجأ النظام إلى تغيير أسماء الشوارع لمحو ماضي النظام السابق، هذا ما حدث تقريبا بعد قيام الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران، التي كانت نتيجتها إسقاط النظام الملكي وتحويله إلى جمهوري، وترتب عن ذلك تغيير بعض أسماء الشوارع لمحو آثار النظام السابق، لكن الأسماء تنوعت ما بين أسماء عبّرت عن النظام الحالي والثورة الإسلامية، أو أسماء لشهداء من دول أخرى. فبعد قيام الثورة تغير اسم الشارع الذي يحمل اسم "محمد مصدق" رئيس وزراء إيران إلى شارع "ولي العصر"(20)، ثم حملت أسماء الشوارع في إيران أيضا أسماء لشهداء إيرانيين شاركوا خلال الحرب الإيرانية-العراقية، مثل شارع الشهيد "قرني"، وشارع الشهيد "همت"، وشوارع أخرى حملت أسماء شهداء تابعين للثورة الإيرانية مثل شارع الشهيد "مطهري"(21).

 

على الجانب الآخر، حملت شوارع إيران أسماء شخصيات مشهورة من دول أخرى، مثل شارع "خالد الإسلامبولي" قاتل الرئيس المصري الراحل "أنور السادات"، ويعود السبب وراء إطلاق إيران اسم الإسلامبولي على أحد الشوارع في إيران إلى معارضة السادات للثورة الإيرانية واستقباله لمحمد رضا بهلوي شاه إيران الأخير.وامتد هذا التغيير ليطال شارعا آخر يحمل اسم الداعية المصري "عبد الحميد كشك"، ويُعرف عن كشك معارضته لنظامي عبد الناصر والسادات بالإضافة إلى رفضه لحرب العراق على إيران(22)، وأيضا شارع يحمل اسم الشهيد المصري "سليمان خاطر" الذي قتل 7 من الجنود الإسرائيليين (أكتوبر/تشرين الأول 1985).

بالإضافة إلى شارع يحمل اسم الناشطة الأميركية الراحلة "راشيل كوري" المدافعة عن القضية الفلسطينية، والتي قتلت على يد إسرائيل في الانتفاضة الفلسطينية الثانية(22)، في إشارة من إيران بأنها تدعم وتؤيد كل من يدعو إلى السلام حول العالم برغم اختلاف الثقافات، وأيضا شارع يحمل اسم الزعيم الوطني الكونغولي باتريس لومومبا مؤسس الحركة الوطنية الكونغولية في مواجهة الاستعمار البلجيكي(23)، وكذلك شارع يحمل اسم الشاعر اللبناني "جورج جرداق" والذي اشتهر بكتاباته عن الإمام علي بن أبي طالب، وأخيرا شارع الشهيد "عماد مغنية" القيادي العسكري البارز في حزب الله اللبناني(24). في النهاية نلاحظ تنوع إيران في تسمية أسماء الشوارع ما بين أسماء تغيرت لتعبر عن ملامح النظام الحالي، أو أسماء أخرى من دول مختلفة، لكنها تنصبّ نحو هدف واحد، أي بتعبيرها عن توجهات إيران في دعمها لأي هدف يتوافق معها بغض النظر عن اختلاف الجنسية.

 

شهدت العراق حالة من التغيرات في الأنظمة السياسية، فكل نظام يأتي يغير ما خلفه النظام السابق، ففي فترة العهد الملكي حملت أسماء شوارع في العراق أسماء هذا النظام، مثل شارع "الملك غازي"(25)، وشارع الملك فيصل الأول الذي تحول بعد ذلك إلى "شارع العدالة" بعد سقوط الملكية، ومع سقوط الحكم الملكي في العراق والتحول إلى الجمهوري، تغيرت أسماء الشوارع لتصبح أسماء تعبر عن طبيعة المرحلة مثل شارع "الشعب"، وشارع"الجمهورية"(26).

شارع الإمام الخميني في النجف، العراق (مواقع التواصل)

وترتب على ذلك أيضا أن أصبحت الفترة من 1968 إلى 2003، والتي كان فيها لحزب "البعث العراقي" دور بارز في الحكم، وبطبيعة الحال لجأ النظام الجديد إلى تغيير معالم ومدن وشوارع العراق لتصبح على شاكلة النظام الحاكم، وكانت النتيجة أن حملت أسماء المناطق والشوارع في العراق أسماء حكام البلاد، وأطلق اسم "أحمد حسن البكر"، و"عدنان خير الله"، و"صدام حسين" على الغالبية العظمى من المناطق في البلاد، فأصبح ميناء "أم قصر" يحمل اسم ميناء "بكر" نسبة إلى رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، باستثناء حمل بعض المناطق في العراق لأسماء مقتبسة من التاريخ الإسلامي أو شخصيات تاريخية؛ مثل محافظة "صلاح الدين" نسبة إلى القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، وأيضا شارع "الوالي خليل باشا" الذي كان يسمى فترة الاحتلال البريطاني شارع "الجنرال مود" قائد الحملة الإنجليزية على العراق، والذي تحول بعد ذلك ليحمل اسم شخصية تاريخية وهي "هارون الرشيد" نسبة إلى الخليفة العباسي(26).

 

أضف إلى ذلك، بعد سقوط نظام صدام حسين بدأت العراق تتهيأ لمرحلة حكم جديدة، فصار شارع "صدام حسين" يحمل اسم شارع "الحرية"، كما أصبح شارع "14 رمضان" يحمل اسم شارع "عبد الكريم قاسم" نسبة إلى رئيس وزراء العراق بعد سقوط الملكية(27)، باستثناء أسماء تغيرت لتحمل دلالة مذهبية ودينية، كما حدث في منطقة ساحة "البعث" نسبة إلى حزب "البعث العراقي" التي أصبح يطلق عليها اسم ساحة "محمد رضا الشبيبي"، رجل دين وزعيم عراقي كان معارضا للنظام الملكي والجمهوري، وأصبح أيضا شارع "الدولي" الموجود بمحافظة بابل يحمل اسم شارع "الرياحين" نسبة إلى أحفاد رسول الله الحسن والحسين، ثم شارع "المطار" الذي أصبح شارع الشهيد الشيعي "محمد باقر الصدر"(28)، وكذلك الشارع الرئيس في النجف الذي أصبح شارع "الإمام الخميني" نسبة إلى المرشد الأعلى الإيراني السابق(29)، وأخيرا شارع الشاعر "بشار بن برد" الذي تغير إلى شارع "علي بن يقطين" الفقيه الشيعي. في النهاية نلاحظ أن الفترة من بعد سقوط صدام حتى الآن تغيرت فيها أسماء الشوارع والساحات وبعض المناطق في العراق إلى أسماء تحمل توجهات دينية ومذهبية(30).

 

وبذلك تبدو أسماء الشوارع أداة من أدوات السلطة التي تسعى من خلالها لاحتكار المفاهيم والسيطرة عليها.. وما النماذج التي ذكرت سوى استعراض لشواهد تاريخة ضمن سعي السلطة لاحتكار المفاهيم.

المصدر : الجزيرة