شعار قسم ميدان

لماذا هرب القنصل السعودي لبلاده قبل تفتيش منزله بإسطنبول؟

ميدان - القنصل السعودي "محمد العتيبي"

ربما لم يكن أحد قد سمع باسم محمد العتيبي قبل الثاني من (أكتوبر/ تشرين الأول)، تاريخ دخول الصحافي السعودي الأشهر جمال خاشقجي لقنصلية بلاده في إسطنبول، والتي يشغل بها العتيبي منصب القنصل السعودي العام، من بات اسمه وصورته -خلال بضعة أيام فقط- الحديث الشاغل لكل الباحثين عن مصير "خاشقجي"، من تؤكد التسريبات التركية منذ اليوم الأول مقتله داخل القنصلية نفسها، رغم إنكار القنصل ومن ورائه السلطات السعودية لذلك، ورغم أن تسجيلات صوتية قد كشفت عن معرفة العتيبي بالعملية التي تمت في إطار اختصاصه ومكان عمله(1)

 

كان أول وآخر ظهور علنيّ للعتيبي بعد أقل من أسبوع من اختفاء خاشقجي، في الثامن من أكتوبر الحالي بتصوير لدقيقة واحدة لوكالة "رويترز" التي استطاع صحافيوها الدخول للقنصلية والتجول مع العتيبي وتصوير مقابلة معه. (2) وظهر العتيبي في التسجيل وهو يتجول في القنصلية وكأنه لا يحاول إخفاء شيء ما، متظاهرًا باللامبالاة بوضعه يديه بجيبه، وفاتحا -بطريقة هزلية كما بدت- الخزائن الصغيرة للصحافيين الباحثين عن خاشقجي، ثم تهدج صوته وتجنب النظر لأجهزة التصوير بشكل مباشر أثناء تصريحاته وهو ينفي وجود خاشقجي في القنصلية.

    

منذ ذلك الحين اختفى العتيبي ولم يظهر بأي تصريح، مصور أو مكتوب أو حتى خبري، بينما كانت الأدلة والتسريبات والتصريحات تتقاطع لتثبت مقتل خاشقجي في القنصلية، وعلم العتيبي شخصيا بذلك وسكوته وإنكاره -بمقابة رويترز-، وهو الذي كان منزله، الذي يبعد مسافة ٦٠٠ متر فقط عن القنصلية، كان محطة لسيارتين من السيارات الست السوداء المظللة الكبيرة التي انطلقت من القنصلية، (3) والتي تتوقع صحيفة "صباح" التركية أنها حملت جثة خاشقجي، وهو ما قد يفسر تصريح المسؤولين الأتراك بأن فرق البحث الجنائي ستبحث "وستحفر" في كل من القنصلية ومنزل القنصل متوقعة إخفاء جثته هناك، وهو ما تقاطع بشكل لاحق مع تأكيد مصادر تركية لعثور المحققيين على عينات بمنزل القنصل السعودي بإسطنبول بعد تفتيشه تتطابق مع عينات بمبنى القنصلية وذلك بعد اكشتشاف أدلة تثبت مقتل خاشقجي بالقنصلية. 

   undefined

    

رفض السعوديون لما يقارب الأسبوعين تفتيش الأتراك سواء للقنصلية أو لمنزل القنصل، لكنهم رضخوا أخيرًا بعد تصعيد وتهديد تركي بقبولهم للتفتيش أو طرد لكامل الطاقم الدبلوماسي (4)، فسمحوا للأتراك يوم الثلاثاء، السادس عشر من أكتوبر، للسلطات التركية بتفتيش القنصلية بطوابقها الست، لكنهم عرقلوا تفتيش منزل وحديقة القنصل بحجة "عدم انضمام مسؤولين سعوديين للتفتيش"، وهو ما يناقض شرط "الإجماع" بين السعوديين والأتراك، والذي أعلنه (5) وزير الداخلية التركي سليمان سويلو لتفتيش منزل القنصل.

 

التورط

إلا أن تغيرا دراماتيكيا طرأ في قضية خاشقجي وكان بطله مجددا هو العتيبي، من كشف مسؤولون أتراك عن مغادرته إسطنبول للرياض قبل ساعات من الموعد المقرر لتفتيش منزله، (6) وبعد مغادرته بساعات أيضًا وتزامنًا مع التفتيش انكشفت تسجيلات صوتية توضح اللحظات الأخيرة لاغتيال خاشقجي، يظهر بها صوت القنصل، وهي تسجيلات كشف (7) رئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي" الإخباري، ديفيد هيرست، عشية يوم الهروب أنها توضح "جر" خاشقجي من مكتب القنصل العام للغرفة المجاورة إثر تعذيبه "وتقطيع أصابعه" في المكتب.

 

لم يكن هذا الجانب الوحيد الذي كشفته التسجيلات، فقد كشفت صحيفة "يني شفق" التركية، (8) المقربة من الحزب الحاكم، جانبا آخر من التسجيلات نفسها يظهر بها صوت العتيبي نفسه صارخًا: "افعلوا هذا خارج المكتب! ستجلبون البلاء على رأسي"، ليرد عليه صوت لم يعرف بعد صاحبه قائلا له: "إن أردت الوصول للسعودية حيًّا، فاصمت!"، قبل أن تسكن صرخات خاشقجي عبر حقنه بمادة غير معروفة وبدء تقطيعه حيا غير واعٍ في عملية لم تستغرق سبع دقائق، بحسب التسجيلات، تحت إشراف مدير الطب الشرعي السعودي صلاح محمد الطبيقي، خبير الفحص في عيادات الحج الشرعية المتنقلة، والذي طلب من فريقه "الاستماع للموسيقى كما يفعل هو عادة" أثناء تقطيع جثة خاشقجي.

     

محمد العتيبي   (رويترز)
محمد العتيبي   (رويترز)

   

واليوم، السابع عشر من أكتوبر، ظهرت أنباء على صحيفة "سبق" الإلكترونية، المقربة من السلطات السعودية، حول إعفاء القنصل السعودي من منصبه ووضعه تحت التحقيق إثر "انتهاكات" متعلقة باختفاء خاشقجي، قبل أن يختفي هذا الخبر بعد لحظات من نشره بلا أثر، وتسحب وكالة رويترز الخبر مؤكدة هي الأخرى أنه لم يظهر على موقع الصحيفة. (9)

 

إلا أن هذا السيناريو يتوقع أن ينفذ مع ظهور سردية "الطرف الثالث" من الجانب السعودي، بحيث اعترفت الرياض باختفاء خاشقجي في القنصلية، رغم تناقض ذلك مع روايتها الأولى التي قالت إنه خرج من القنصلية، ولكنه اعتراف رافق تبرئة ساحة كبار المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم الملك سلمان ونجله رجل السعودية القوي وولي العهد محمد بن سلمان، مع سير المفاوضات بين الجانبين التركي والسعودي من ناحية، والأميركي السعودي من ناحية أخرى، وهو ما كان واضحا بوصول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى إسطنبول مباشرة بعد لقائه كلا من الملك سلمان ونجله في الرياض، في يوم رحيل القنصل ذاته. (10)

 

وبينما كان من الممكن تنصّل المسؤولين في الرياض؛ يبدو من الصعوبة بمكان تبرئة ساحة القنصل الذي تمت الحادثة في قلب مبنى يشرف عليه بالكامل كما هو مفترض ورسمي، بما يجعله في طليعة المسؤولين السعوديين الملائمين ليصبحوا كبش فداء محتمل، فداء للسلطات السعودية الواقعة تحت الضغط الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي الكبير، ضغط وصل في أحيان بسقف المطالبات لعزل "ابن سلمان" نفسه إن ثبت الأمر بشكل تام(11)، وثبت تورطه كما تؤكد صحيفة واشنطن بوست(12) نقلًا عن مصادر مطلعة في الاستخبارات الأميركية.

 

أضعف من ذلك

ومن البديهي القول إنه كان يمكن التضحية بالعتيبي وهو في قلب إسطنبول بلا شك، لكن السلطات السعودية، كما يبدو، فضلت عدم أخذ المجازفة والسماح بوقوع القنصل تحت أيدي أجهزة الأتراك الأمنية، وتحديدًا الاستخبارات التركية التي تدير ملف قتل خاشقجي بشكل فعلي، في وقت يبدو به العتيبي، من لقاءاته وأحاديثه كشخصية غير ذات حيثية وغير معتاد على هذا النوع من الأعمال.

 

  

وبحسب المواقف القليلة التي ظهر بها الدبلوماسي السعودي أو كشفتها التسجيلات والتسريبات، يظهر ارتباك العتيبي وعدم إتقانه لدوره وتناقضه في القضية واضحين؛ بدءًا من تناقضه الواضح في تسجيل "رويترز"، والذي يظهر بأبسط تحليل حركاته وكلماته المتعثرة، وعدم مواجهة الكاميرا بشكل مباشر(13)، ومرورًا باختفائه وعدم إطلاقه لأي تصريح لمدة طويلة في فترة حرجة دبلوماسيًا كان عليه الظهور بها دفاعا عن سلطات بلاده وسرديتها في القضية، وانتهاء بالتسريب الأخير الذي يكشف كلا من خوفه على نفسه ومنصبه بطلبه إتمام التعذيب والقتل خارج مكتبه، وضعف مكانته أمام الصوت الآخر الذي هدده بشكل واضح وعلني داخل مجال تنفيذي -السفارة- يفترض به أنه لا صوت يعلو على صوته.

   

وتجنبا لذلك على الأرجح، وبتقاطع أحداث لا يدع مجالا كبيرا للصدفة؛ غادر العتيبي للرياض قبل ساعات من تفتيش منزله، ولكن ليس بإرادته الحرة على ما يبدو، وإنما بإملاء وطلب من الرياض نفسها كما تظهر التحليلات، كخطوة وقائية استباقية، تجنبا للإحراج وكشف المزيد من الأدلة والتفاصيل التي ستصعب مهمة الرياض، في حال ضعف العتيبي وهو يرى المحققين الأتراك يقتربون أكثر فأكثر من جثة خاشقجي، أو بالمقابل؛ لعدم السماح للأتراك من التواصل معه، وفتح مجال ما له لإبرام صفقة قد يكون فيها الدبلوماسي السعودي أحد أعمدتها.

المصدر : الجزيرة