شعار قسم ميدان

اتفاقية الدفاع بين الكويت وتركيا.. هل تخشى الإمارة الدستورية من "طيش" بن سلمان؟

midan - main
استمع للتقرير

  

في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي؛ وفي سلسلة تغريدات مباشرة من حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"؛ أرسل عضو مجلس الأمة وضابط الدروع الكويتي السابق ناصر الدويلة رسالة إلى وزير الدفاع الكويتي ناصر صباح الأحمد، دعاه بها بشكل علني إلى "إدخال الجيش التركي إلى الكويت بأقصى سرعة"، لكون تركيا "أضمن الأصدقاء بالمعادلة الإستراتيجية في المنطقة بعد تهديدات الأشقاء المنفلتة وحماقات ترمب المتغطرسة"، في وقت قد تفشل به الكويت بتصفير مشاكلها مع "آخرين لا يحترمون السيادة ويعتبرونها حقا من حقوقهم"، بما يجعل نزول القوات التركية في هذه الظروف الملتبسة يحقق الأمن الإقليمي للكويت، ويبعد عنها "احتمالات غدر الصديق وحماقة الحليف"، مثلما أمّن نزول القوات التركية قطر بداية الأزمة.

   

  

ربما تبدو دعوة النائب الكويتي السابق خارج السياق أو حدثا استباقيا، إلا أنها وللمفارقة لم تكن أكثر من تعليق على ما جرى، ففي التاسع والعاشر من الشهر الجاري، ومع بدء انكشاف تفاصيل التحقيق في اغتيال الصحافي السعودي الأشهر "جمال خاشقجي"، والذي مهّدت أنقرة به لتشكيل محاور ضغط سياسي واقتصادي إقليمي وعالمي على الرياض؛ في ذلك الوقت اجتمع عدد من الضباط الأتراك مع أقرانهم، في وزارة الدفاع الكويتية بالعاصمة الكويت، لحضور الاجتماع الخامس للجنة التعاون العسكرية الكويتية التركية، والذي انتهى بتوقيع الطرفين على ما سُمّي بـ "خطة عمل التعاون الدفاعي ٢٠١٩"1، وهي خطة تهدف رسميا إلى تعزيز العلاقات الثنائية، وتحقيق منظومة عمل موحدة، وتبادل الخبرات، ويسعى الجانبان من خلالها لتوحيد وتطوير المفاهيم، بينما تبدو فعليا أقرب لإطار عمل أو لخطوة أولى يمكن من خلالها تحقيق ما دعا إليه الدويلة رغم صعوبته.

   

  

وصلت رسالة الدويلة إذن، ومن ورائها الاتفاق العسكري الكويتي-التركي، لا إلى وزير الدفاع الكويتي المرسل إليه، وحسب، بل إلى المعني بها مباشرة، إلى "الصديق الغادر" بتعبير النائب الكويتي السابق، أي إلى الرياض، عاصمة المملكة التي كانت مركزا لسلسلة غاضبة من ردود الأفعال -على الاتفاق الكويتي التركي- لعدد من شخصياتها الرفيعة، كان أبرزهم الأمير السعودي "خالد بن عبد الله آل سعود"، والذي وصل2 به الأمر بالدعوة إلى "عاصفة حزم داخلية [بالكويت] لتطهيرها من قذارة الإخونج"، كما قال.

   

كانت تلك الكلمات معبرة عن انعكاس كبير لغضب سعودي مكتوم على الكويت، لا من مجرد تقاربها مع أنقرة، العاصمة التركية المتسببة اليوم بلحظة من أسوأ لحظات الرياض الحديثة إثر اغتيال خاشقجي، وحسب؛ بل غضب يتصاعد جراء عدد من الملفات الأخرى العالقة، وهي ملفات دفعت ولي العهد السعودي ورجلها القوي "محمد بن سلمان" للتوجه بنفسه للكويت سعيا لحلها، وعلى رأسها النفط والحدود والسياسات الكويتية الخارجية والداخلية، والمدفوعة جميعا بمطامع تاريخية للمملكة في جارتها الخليجية الأصغر.

  

جذور الخلاف.. نفط للأبد

قبل عشرة أيام من الاتفاقية المشتركة، وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي؛ وصل "ابن سلمان" في زيارة رسمية للعاصمة الكويتية التقى خلالها أمير البلاد صباح الصباح. لم تطل الزيارة لأكثر من ساعات رغم تأجيلها يوما كاملا، ولذلك ما كادت تنتهي حتى بدأ الحديث عن "فشلها" 3 وعن "التوتر" الذي رافقها، خصوصا في ظل انتهائها دون توقيع أي اتفاقيات مشتركة أو حل لأي خلافات سابقة، وهو ما دفع كلًّا من وزارة الخارجية 4 والأمير الكويتي نفسه لإصدار بيانات متتالية دبلوماسية تؤكد "عمق العلاقات والأخوة بين البلدين الشقيقين"، وتنفي بشكل ضمني ما تم تداوله عن الزيارة.

      

undefined

  

إلا أن "ابن سلمان" لم ينتظر طويلا حتى يؤكّد بالفعل على وجود خلافات حول القضية الرئيسة محل الجدل المتجدد5: حقلي الخفجي والوفرة المشتركين الواقعين في المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت والمتوقّفين عن الإنتاج، إذ كشف "ابن سلمان" في مقابلته6 مع وكالة "بلومبيرج" الأميركية، بعد أيام من زيارته، أن "فريقا من القيادة الكويتية يُصرّ على حل قضايا السيادة قبل استئناف عمليات إنتاج النفط في الحقلين"، رغم تأكيده على إمكانية وجود حل حول تلك المنطقة، بإقناع "الكويتيين بالتحدث عن قضايا السيادة مع الاستمرار في الإنتاج خلال خمس أو عشر السنوات القادمة، مع العمل بالوقت نفسه على التفاوض حول الحدود"، وهو ما أكّده الجانب الكويتي بدوره واصفا إياه بـ "الخلاف المؤقت". 7

  

مؤخرا؛ عادت أهمية الحقلين المشتركين الخفجي والوفرة إلى الواجهة، فالحقلان القادران على إنتاج نصف مليون برميل يوميا ضروريان للغاية للسعودية لتلبي سقف إنتاجها النفطي اليومي الذي تعهدت به ضمن منظمة "أوبك"، والبالغ ١٢.٥ مليون برميل يوميا، في وقت تتحكم به "أرامكو" بـ١٢ مليون برميل من السعودية، كما أنهما ضروريان لتستطيع "أوبك" نفسها تحقيق 100% من سقف الإنتاج الذي تعهدت به عام ٢٠١٦، بينما تواصل أسعار النفط ارتفاعها محققة أعلى سعر لها منذ أربع سنوات، بينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على الإنتاج النفطي العالمي مع فرضها عقوبات متوقعة على الصادرات النفطية الإيرانية. 8

  

أُغلق حقل الخفجي في أكتوبر/تشرين الأول لعام ٢٠١٤ بسبب ظروف بيئية غير محددة، بينما أُغلق حقل الوفرة، الذي تعمل به شركة "شيفرون" الدولية للنفط نيابة عن السعودية، في مايو/أيار لعام ٢٠١٥، عندما رفضت الكويت تمديد السعودية لامتياز شركة "شيفرون" الموقع عام ٢٠٠٩ حتى عام ٢٠٣٩ دون استشارتها، بينما رفضت "شيفرون" نفسها تلبية طلبات العمل الكويتية وفتح ملف لها في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تحت مظلة شريكتها "الشركة الكويتية لنفط الخليج"، مما دفع الأجهزة الكويتية لتعطيل تأشيرات العمل لموظفي شيفرون السعودية، ووقف إدخال آلات ومعدات لمصلحتها، ما اضطر الشركة السعودية لوقف العمل في الحقل النفطي في النهاية، في الخلافات التي وصفها المسؤولون الكويتيون، الدبلوماسيون كعادتهم، حينها بأنها "فنية لا سياسية"9، في حين تكشف نظرة أوسع للمشهد تفاصيل الأزمة بين الدولتين الخليجيتين.

     

   

يرجع قيام ما يُسمى "المنطقة المحايدة" أو "المنطقة المقسومة" بين الكويت والسعودية إلى اتفاقية العقير، الموقعة عام ١٩٢٢، بين "عبد العزيز آل سعود" الذي استطاع استعادة عاصمته الرياض من دولة "آل رشيد" القوية، بعد أن ألجأته حكومة الكويت حينها لتوسيع حكمه في شبه الجزيرة العربية، وألجأه البريطانيون إلى تقسيم حدود المناطق الخاضعة لسيطرتهم، والتي كان من بينها الكويت، التي خسرت في هذه الاتفاقية ثلثي مساحة ما كانت تملكه في الاتفاقية البريطانية-العثمانية عام ١٩١٣. 10

  

تبلغ مساحة المنطقة المحايدة ما يقارب الـ ٦٥٠٠ كم مربع من الصحراء، وأقرت اتفاقية العقير أن كلا البلدين يملكان وصولا متساويا لهذه المنطقة المحايدة، بما في ذلك أي موارد مستقبلية قد تظهر، وتحديدا النفط، والذي تم اكتشافه بالفعل عام ١٩٣٨، ومنحت بموجبه كلا الدولتين تنازلات لشركات النفط الأجنبية، قبل البدء بمفاوضات ثنائية نهاية الخمسينيات لحقوق السيادة في تلك المنطقة، وحقوق الملاحة البحرية على الساحل، وصولا إلى اتفاقية عام ١٩٦٥ تقسمان بها المنطقة المحايدة بالتساوي، مع استمرار النزاع على الحدود البحرية، وهو نزاع سعت الكويت والرياض لحله عام ٢٠٠٠ بعد توغل إيران للحفر في حقل غاز بحري ادّعى ملكيّته كلٌّ منهما أيضا. 11

  

ومنذ اتفاقية العقير؛ بدأت الخلافات الاقتصادية والسياسية بين الجانبين، والتي مرت بعدة مراحل كان أبرزها الحصار الاقتصادي السعودي البري الخانق على الكويت والذي انتهى عام ١٩٤٠ بعد عدة تنازلات اقتصادية كويتية لمصلحة السعودية برعاية بريطانية، وهو ما ولّد منذ ذلك الوقت حذرا كويتيا في التعامل مع المملكة بوصفها الجارة الأكبر والأقرب والأقوى للكويت، بجانب العراق وإيران. ثم عادت العلاقات إلى التوتر في ثمانينيات القرن الماضي، عقب تورط عدد من الكويتيين في تفجيرات الحرم المكي لعام ١٩٧٩، وتدخل الحكومة الكويتية للإفراج عن بعض منهم، إلى أن وصل التوتر إلى ذروته عقب قيام الكويت بوضع فرس حرب لدولة آل رشيد كتميمة لبطولة كأس الخليج لكرة القدم المقامة في الكويت عام ١٩٩٠، ما أدى إلى انسحاب المنتخب السعودي من البطولة التي أُقيمت قبل الغزو العراقي للكويت بأشهر قليلة. 12

     

كأس الخليج 1990 بالكويت (مواقع التواصل )
كأس الخليج 1990 بالكويت (مواقع التواصل )

   

لعبة التوازن

ربما يمكن اعتبار الغزو العراقي خلال الفترة ١٩٩٠-١٩٩١ هو اللحظة الوطنية الفارقة الأكبر في تاريخ الكويتيين، فهو الذي شكّل هوية الدولة وسرديتها الوطنية للآن، وشكّل ما هو أهم أيضا من مخاوفها الإستراتيجية وعقيدتها السياسية، والتي يبدو عنوانها الأبرز بعد حرب التحرير عام ١٩٩١ هو "الوساطة والانزواء بالنفس"، متخلية عن طموحاتها السياسية قبل الغزو العراقي.

  

برز ذلك التوجه في أوقات عدة، عقب الأزمة التي انفجرت بين قطر والسعودية عام ١٩٩٥، وبين الإمارات والسعودية عام ٢٠٠٩، وبين الإمارات وعُمان في العام نفسه، وحتى في الأزمة الخليجية الأخيرة التي انفجرت عام ٢٠١٧، حيث اكتفت القيادة السياسية بالكويت بالوساطة بين البلدين ومحاولة الحفاظ على منظومة دول مجلس التعاون، مع البحث الإستراتيجي الدائم عن التوازن للدولة الصغيرة الواقعة في قلب مثلث الضغط: إيران والعراق والسعودية.

  

بالمقابل؛ كشف الغزو العراقي للكويت الضعف الهائل للأخيرة كونها دولة صغيرة غنية بالموارد ومحاطة بجيران أكبر وأكثر قوة بمراحل في منطقة متقلّبة13، ما جعلها واقعة دوما في لعبة توازن حذرة، داخليا بين مكوناتها المختلفة، السنية والشيعية والليبرالية والإسلامية والمتشددة، وبين البرلمان والحكومة والديوان الملكي، وخارجيا بالبحث عن توازن إستراتيجي بين الدول المحيطة بها، من خلال تبنيها لسياسة خارجية مفتوحة مع جميع الأطراف، ولعدم أخذ مواقف قصوى لطرف على حساب آخر، والاكتفاء بدلا من ذلك بلعب دور الوسيط 14 في الأزمات، والسعي الدائم للحفاظ على تماسك "مجلس التعاون الخليجي"، الذي يُمثّل بقاؤه متماسكا ضرورة قصوى للكويت. 15

     

    

تجلّت سياسة النأي بالنفس والوساطة أكثر ما تجلّت بتخفيف التوترات الحدودية والسياسية بين السعودية والكويت، وشعورها الدائم بالامتنان للموقف الخليجي عامة، والسعودي خاصة، إثر إلقاء السعودية بثقلها العسكري والدبلوماسي والسياسي -ومن خلفها مجلس دول التعاون الخليجي- إبان احتلال نظام صدام حسين للكويت، إلا أنها اليوم، وإثر الأزمة الخليجية الأخيرة، وجدت نفسها واقعة في طريق مسدود أمام التحالف الخليجي الساعي لعزل الدوحة، الذي تقوده السعودية والإمارات ومن ورائهم مصر والبحرين، مهددة بمصير مماثل للمنامة تحديدا بالتبعية الكلية لهذا الحلف بلا إرادة سياسية تُذكر، أو بالتهديد العسكري بالاجتياح وإنهاء السيادة كما حاول الحلف مع قطر، في وقت تنظر به إيران من الشرق بعين التوسع والامتداد، خصوصا وأن الكويت يُشكّل بها الشيعة ما نسبته ٣٠%، وترجع بها بعض جذور العائلات التجارية الكبرى لإيران.

  

تبدو الأزمة الخليجية بالطموح غير المحدود لحلف السعودية والإمارات تهديدا حقيقيا للكويت، إذ يبدو أنها التالية مباشرة بعد الدوحة التي يسعى الحلف لإجبارها على تغيير سياساتها؛ خصوصا أن السعودية تنظر على أنها هي التي حفظت بقاء الكويت ووحدته، متوقعة منه السير وراءها بالكلية والتخلي عن سيادته وقراراته الخارجية بما يتفق معها، بكلمات وتهديد عبد الرحمن الراشد16، اللسان شبه الرسمي للمملكة، والأخطر؛ في ظل ما يمكن اعتباره "موت مجلس التعاون الخليجي"17، الحافظ الأول لأمن الكويت واستقراره الإقليمي، بتفكّكه وتصدعه إثر الأزمة الخليجية، وصعود "مجلس التنسيق السعودي الإماراتي" 18 كبديل عنه.

  

وفي ظل هذه الأزمات؛ يضيق مجال المناورة الإستراتيجية على الإمارة الدبلوماسية في النزاع الصفري الخليجي-الخليجي، إذ عقدت المملكة والإمارات العزم على متابعة رؤيتهما الخاصة لمنطقة متغايرة لا مساحة فيها للمساومات المجتمعية والدبلوماسية الحذرة التي تنتهجها الكويت، ولا ملاذ آمن يحفظها أو يحميها أو يحل أزماتها في "مجلس التعاون الخليجي"، ولا مساحة دولية يمكن أن تحتمي بها في ظل "النظام العالمي الجديد"19 بتفويض الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووساطة صهره جاريد كوشنر، وقيادة "ابن سلمان" و"محمد بن زايد"، بما يجعل لجوءها لأضمن الأطراف المتوفرة حاليا إن جاز القول، تركيا، ملجأ إستراتيجيا حقيقيا، يبدو أنه قد ينجح بالفعل، مثلما نجح مع قطر.