شعار قسم ميدان

عام على اغتيال خاشقجي.. لماذا قتلوه دون غيره؟

ميدان - خاشقجي
شاهد الفيديو

على مر تاريخها الحديث نسبيًا، لم تتطلب رئاسة تحرير صحيفة "الوطن"، إحدى أكبر الصحف السعودية وأوسعها انتشارًا والمحسوبة على الجناح الإصلاحي، قدرات متجاوزة لإدارة الملفات المختصة بالشأن الداخلي السعودي، ومنذ أن نشأت عام 2000 وحتى الآن، على يد أمير بيت آل سعود واسع النفوذ "خالد بن فيصل آل سعود"، لم تهدف الجريدة بحال إلا لـ «نقل نبض الشارع السعودي ونمط حياة المملكة» كما تقول الرؤية المعلنة لها وهي رؤية "خالد بن فيصل" نفسه، لذا كانت الشروط السعودية المطلوبة ضمنًا للعمل فيها أو حتى الانتساب لها بالكتابة التقليدية: تأييد آل سعود بشكل شبه كامل، وتوقير الطبقة الدينية السعودية، والابتعاد عن أي سجالات دينية تخص تاريخ المملكة، وبالطبع معاداة إيران وأذرعها بشكل شبه كامل، ولم يكن "جمال خاشقجي" استثناءً خلال ثلاث سنوات من العمل فيها، ملتزمًا بكل الخطوط الحمراء المعتادة، قبل أن يرتكب لاحقا خطأه الذي أذاقه قوة قبضة طبقة رجال الدين بالمملكة، وبأوضح صورة ممكنة(1).

  

استمع للتقرير

كان "خاشقجي" وقتها بمثابة التعريف القاموسي للصحافي السعودي المثالي، مع سيرة ذاتية امتدت منذ الثمانينيات متضمنة عمله في أكثر صحف المملكة ذيوعًا كـ "عكاظ" و "الشرق الأوسط"، مرورًا بعمله في صحيفة "المدينة" إحدى أقدم الصحف السعودية لتسعة أعوام كاملة، من عام 1991 وحتى 1999(2)، وهي فترة تضمنت أيضًا حصوله على ثقة العائلة المالكة أثناء عمله كمراسل خارجي في أفغانستان والجزائر والسودان وبلدان أخرى، ثقة أكسبته علاقات واسعة مع أمراء آل سعود النافذين خاصة جناح الملك الراحل "فيصل"، فضلًا عن علاقات مرجحة مع الاستخبارات السعودية نظرًا لقربه وعمله كمستشار إعلامي لرئيسها التاريخي الأمير "تركي الفيصل آل سعود"، وليس انتهاءً بخبرة عميقة اشتملت على لقاءات متعددة وعلاقة "ودودة" مع "أسامة بن لادن" المؤسس الراحل لمنظومة "الجهاد العالمي" كما نعرفها. باختصار، لم يكن لصحافي بهذا الثقل أن تمسه دوائر الحكم والنفوذ السعودية بسوء، متقلدًا منتصف عام 2003 منصب رئيس تحرير "الوطن" للمرة الأولى، إلا أن وزير الداخلية السعودي ذائع الصيت الأمير "نايف بن عبد العزيز" كان له وقتئذٍ رأي آخر.

     

على الأرجح، لم يَدُر في بال "خاشقجي" وقتها، أثناء كتابته لمقالته الشهيرة، أنها ستؤلب عليه قبضة "المملكة الدينية" على هذه الشاكلة. حينها، وبدءًا من مايو/ أيار لنفس العام المذكور، ضربت عاصفة من التفجيرات "الانتحارية" العاصمة محولة شوارع الرياض لبحار من الدماء، بحار لم يلبث أن تبناها "تنظيم القاعدة" مستهدفًا بها مجمعات مساكن الأجانب المقيمين بالمملكة ومبنى الأمن العام، ومع حالة الغضب والاحتقان الشعبيين كتب "خاشقجي" منتقدًا "ابن تيمية"، الفقيه الحنبلي شديد الأهمية والمُفضل للوهابيين، وبالأخص فتواه المتضمنة لـ "جواز قتل المسلمين إن أعاقوا أو منعوا قتل الكافرين" كما قرأها خاشقجي، محملًا إياها وإياه النتيجة الدموية التي شهدتها المملكة على يد "القاعدة".

   

لم ينتظر "نايف" كثيرًا، وعلى الفور أطاح بـ "خاشقجي" من رئاسة تحرير "الوطن" في وقت ربما يعد قياسيًا لقصره، حيث لم يقض "خاشقجي" في رئاسة التحرير إلا 52 يومًا فقط، قبل أن يُفصل مع تساؤلات متتالية علنية من "نايف" عن «توجهات الصحيفة نفسها وأهدافها غير المعلنة»، بينما غادر "خاشقجي" الصحيفة مكونًا حزمة من العداوات المتربصة، كان من أبرزها عداوة "الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" المعروفة اختصارًا بـ "CPVPV"، وهي عداوة ظلت تطارده حتى أزاحته مرة أخرى، وبنفس أسلوب "نايف"، بعدها بسبعة أعوام في مايو/أيار 2010، عندما أطاحت به شرطة "المطاوعة" -رجال الهيئة- من "الوطن" مرة أخرى، ليغلق فصل آخر في حياة الصحفي السعودي الحافلة، رجل اتهمه أعداؤه بأنه ليس وطنيًا بما يكفي، ونظر إليه بعض من يعرفوه على أنه ملكي أكثر من الملك، وتعامل معه الأغلب في محاولات متتالية -على مر السنين- لفهم توجهاته المتقلبة حتى لحظة اختفائه بلا أثر.

      

الأمير نايف بن عبدالعزيز (مواقع التواصل)
الأمير نايف بن عبدالعزيز (مواقع التواصل)

   

"خاشقجي" القومي: "المملكة الرائعة"

نحمد الله أن قام بأمر بلادنا من يحكم بكتابه وسنة نبيه، عارف بحلاله وحرامه، فتح عقله وقلبه للعلماء والفضلاء والخبراء، قال للناس أشيروا علي، فلم يفرض رؤية رجل واحد حتى وإن غلبه الظن بحسن الاجتهاد فيه

من مقال(4) "خاشقجي" متحدثًا عن الملك "عبد الله".. افتتاحية صحيفة "الوطن".. 2009

   

ربما يُعد صدام "الشثري" و"خاشقجي" من أكثر ما لا يغيب عن ذاكرة السعوديين عند ذكر الأخير بأي حال، وهي محطة عنونت زمنا سابقا أيد فيه الصحفي المخضرم بشكل تام مشروع "النهضة" ومبادرة الإصلاح الكبرى التي قادها الملك الراحل "عبد الله بن عبد العزيز آل سعود" في النصف الثاني من العقد الماضي، بكل ما حملته تلكم المبادرة من "حملات على الفساد" -كما سميت وقتها- وإقالات عديدة، وأيضًا تغييرات ملحوظة للسياسة الخارجية السعودية.

 

كان الشيخ "سعد الشثري" حدثًا سعوديًا نادرًا في ذلك الوقت، فهو أحد أبرز المنضمين الجدد لـ "هيئة كبار العلماء"، الهيئة الدينية الأعلى في المملكة، حيث انضم لها بدعم من الملك عبد الله نفسه عام 2005، فضلًا عن أنه كان أصغر أعضائها على الإطلاق بعمر ناهز الـ 39 عامًا، وظل عضوًا صاعدًا في الهيئة في وقت كان الملك يتحرك فيه لخلخلة نفوذ الطبقة الدينية في المملكة، لكنه كان تحركًا بطيئًا يتناسب مع التفاهم التاريخي المعمول به في السعودية بين القصر ورجال الدين.

   

الشيخ
الشيخ "سعد الشثري" (مواقع التواصل)

      

تغيّر كل ذلك عام 2009 حين ظهر مشروع "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا" للنور، وهو مشروع على قدر ضخامته إلا أنه مثل هاجسًا ضخمًا لطبقة المملكة الدينية، حيث بدأت في إثارة اعتراضات وتخوفات من شيوع الاختلاط بين الجنسين في الجامعة، وهو الأمر الذي كان غريبًا وممنوعًا دومًا في الداخل السعودي، ولم يكن هناك أنسب من النجم الصاعد للهيئة، الشيخ "الشثري" ليعلن عن هذه المخاوف بوضوح تام، وليصرح بها في حديث متلفز له على قناة المجد الفضائية.

 

كان ذلك إيذانًا بإطلاق موجة من الأقلام والمقالات التي استهدفت "الشثري" بشكل شخصي والهيئة بشكل ضمني، ووقتها، وكما هو متوقع في دولة تتحكم بشكل شبه كامل في الإعلام المحلي، خرجت بعد تصريحاته أكثر من 30 افتتاحية صحفية ومقالًا ينتقد على أفضل الأحوال ما صرح به، وكانت من أهمها افتتاحية الوطن التي كتبها "خاشقجي" نفسه، والذي لم يبخل على "الشثري" بكل ما جادت به قريحته، متهمًا إياه بـ «إثارة الفتنة»، وبأنه يقدم عن غير قصد مبررات للفصائل السعودية المتطرفة قاصدًا بقايا "تنظيم القاعدة" هناك، وواصفًا بعض مخاوفه بـ «صورة كوميدية»، ومذكرًا إياه ابتداءً أنه قد عين بتأييد ودعم الملك نفسه. وبالفعل لم يمر وقت طويل قبل أن يأتي الأمر الملكي بعزل "الشثري" وإخراجه من هيئة كبار العلماء، في سابقة تاريخية(5) لتدخل أي ملك سعودي لعزل أحد أعضائها منذ إنشائها عام 1971.

 

لطالما عرف العقد الماضي، ونهايته بالأخص، دفاعًا مستميتًا من "خاشقجي" عن سياسات المملكة والملك الراحل "عبد الله"، حيث كان مؤيدًا بشكل تام لصحوة الإصلاح وقتها، فضلًا عن عدم ادخاره جهدًا في تأييد والدفاع عن الحملة العسكرية التي شنها الملك في نفس العام _2009_ على جماعة "الحوثي" المسلحة في مدينة "صعدة" شمال اليمن على حدود المملكة، وهي حملة وقصف جوي رآهما "خاشقجي" ضروريين لتأمين المملكة من الداخل وردع ما سماه بـ «محاولات تسلسل مقاتلين حوثيين للعمق السعودي».

      

"مقابلة الجزيرة مع الحوثي بحضور خاشقجي – 2009"

         

لكن تأييده الأهم كان لحملة الإقالات واسعة النطاق وغير المألوفة والتي قام بها الملك "عبد الله" كخطوة رئيسة في أجندة الإصلاح السعودية وقتها، وهي حملة طالت قرابة 150(6) موقعًا مختلفًا نسبة كبيرة منها في الأروقة الملكية، حيث استثمر "خاشقجي" موقعه المفضل _بعد عودته مرة أخرى لرئاسة تحرير "الوطن"_ وبدأ في بناء دعاية إيجابية لمشروع الإصلاح في الإعلام الأجنبي، قائلًا إن «المعينين الجدد لا يجلبون دماءً جديدة فقط، وإنما أفكارًا جديدة أيضًا .. فهم أكثر اعتدالًا .. وهم ليسوا منفذين للمشروع وحسب، وإنما يؤمنون به». (7)

   

كانت تلك إذًا عناوين بارزة في مسيرة الصحفي المخضرم ولكن من زاوية وجهه شديد القومية، المؤمن تمام الإيمان بالبلاط الملكي وبالدولة السعودية، وربما وفي أعقاب الربيع العربي لم يعرف العالم خاشقجي بنفس حماسته الأولى تجاه العائلة المالكة، خاصة تجاه النظام السعودي الحالي الذي يقوده اسمًا الملك "سلمان بن عبد العزيز"، ويقوده فعلًا ولي عهده ووزير الدفاع "محمد بن سلمان"، إلا أنه وبكل تأكيد ظل محتفظًا بولائه المطلق للدولة نفسها حتى في بعض أخطائها الإقليمية الفادحة، على الأقل حتى عام مضى قبل أن يبدأ معارضته بشكل أكثر بروزًا وجرأة، إلا أنها ظلت معارضة متحفظة وإن كانت علنية للنظام ولـ "بن سلمان"، ولم تتعد على الأرجح خطوطه الحمراء الشخصية.

   

"خاشقجي" الإصلاحي: السعودية المُحتَلَّة

«قصة تعاطينا مع العمالة الأجنبية الرخيصة، والتي تحولت إلى إدمان، وأنا أستخدم دائمًا كلمة إدمان لأننا نعتقد أننا لا نستطيع ولا يقوم اقتصادنا بدونها، بدأت في سنوات الطفرة الأولى .. وتحديدًا بعد حرب أكتوبر الشهيرة عام 1973..»

(جمال خاشقجي، في محاضرة حول كتابه "احتلال السوق السعودي"، نادي "القصيم" الأدبي، السعودية عام 2014) 

   

‪الصحفي السعودي جمال خاشقجي‬ (الجزيرة)
‪الصحفي السعودي جمال خاشقجي‬ (الجزيرة)

     

كان "خاشقجي" من أوائل من وصفوا حال الاقتصاد السعودي بأنه «اقتصاد مُحتَل» في كتابه المعروف "احتلال السوق السعودي"، وهو لم يكن بالأمر اليسير في بلد حافظ دومًا على استقدام العمالة الأجنبية بشكل دوري وكثيف حتى الآن، وإن قلت تلك الكثافة مع تصاعد الرسوم المفروضة على تلك العمالة يومًا تلو الآخر بعد تولي "ابن سلمان" لولاية العهد، لكن "خاشقجي" كان متبنيًا لوجهة النظر كتلك لفترة طويلة سابقة، لذلك رأى دومًا أن علاج الاقتصاد السعودي لن يكون إلا بالصدمة.

  

يؤمن "خاشقجي" أن الاقتصاد السعودي هو اقتصاد قد «ضل طريقه»، فلا هو أصبح اقتصادًا حديثًا لبلد به طبقة وسطى كأغلب بلدان العالم، ولا أصبح اقتصادًا خليجيًا كاقتصاد قطر والإمارات، مستشهدًا بهما تحديدًا، وإنما تاه في منتصف رحلة النهضة مسببًا معدلات بطالة عالية بالإضافة إلى اقتصاد وصفه ضمنيًا بطفيلي، أي ينمو داخل وعلى ظهر اقتصاد المملكة، ولكن دون أن يعود عليها بأي فائدة من أي نوع.

  

لذلك ساق وجه "خاشقجي" الإصلاحي حلًا راديكاليًا قوامه ترحيل نسبة كبيرة من العمالة الأجنبية من المملكة وبشكل مفاجئ، كان هذا الحل بالنسبة له حلًا إصلاحيًا بامتياز، ففي تصوره سوف تخلق عملية الترحيل سلسلة من الأزمات وفوضى اقتصادية سماها هو «فوضى خلاقة»، مستعيرًا مصطلح "كونداليزا رايس" المفضل، لكنها أزمات ستخلص السعوديين من "إدمان" العمالة الأجنبية وإدمان عدم الفعل سريعًا، وسرعان ما سينخرطون في سوق العمل محتلين مساحة لا بأس بها من الفراغ العُمالي الصادم.

     

     

مع حل وقناعة اقتصادية كتلك، كان منطقيًا أن يقوم الصحفي المخضرم بالترحيب التام برؤية "بن سلمان" (السعودية 2030) والتي أطلقها ولي ولي العهد _وقتها_ في أوائل عام 2016، مشيرًا لما قاله الأمير الشاب -في لقاء جمعه به وبمجموعة من الصحفيين والمفكرين- من أن الصحافة عليها دور حماية ومراقبة تنفيذ الرؤية، ليكتب "خاشقجي" وقتها على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": «وسأحميها»، مرفقًا إياها بصورة لنسخة من الرؤية وقعها له "بن سلمان" نفسه. (8)

   

كان "خاشقجي" دومًا من أنصار الربيع العربي، وحفلت مقالاته في تلكم الفترة والمجموعة في كتاب "ربيع العرب: زمن الإخوان المسلمين"، بالكثير من مظاهر ذلك التأييد، إلا أنه في الوقت نفسه، واتساقًا مع قوميته، حافظ على وجهه الإصلاحي مع الملك سلمان وابنه حين توليا مقاليد البلاد بشكل فعلي، وبدأ علاقته بهما بمكالمة هاتفية تلقاها من "سلمان" ليثني الأخير عليه بعدما قام "خاشقجي" بالدفاع عن نظام الرياض في زمن الجهاد الأفغاني في لقاء متلفز(9)، ثم أيد الصحفي الخبير الملك الجديد بعدها بأيام قليلة في حملته شديدة الاتساع(10) التي قام فيها باستبدال مراكز قوى سلفه "عبد الله" أواخر يناير/كانون الثاني عام 2015، وأيد عاصفة الحزم عند انطلاقها في مارس التالي مباشرة لنفس العام، ودافع عنها بقوة خاصة عندما انتقدها القيادي الشيعي المصري "أحمد النفيس" ملقبًا إياها بـ «عواصف الخذلان»، وطالب الإعلام المصري بالكف عن الإساءة للمملكة، قبل أن ينضم لركب الأمير الشاب في رؤيته الاقتصادية حتى نهاية 2016 وبدايات العام الماضي 2017، عندما بدأ وجه "خاشقجي" الأخير في الظهور وبشدة.

   

"خاشقجي" الثوري: مملكة القمع

«هذه المرة، اتخذت خيارا مختلفا. لقد تركت بيتي، وعائلتي، ووظيفتي، ورفعت صوتي، ولو فعلت خلاف ذلك، يعني أني أخون أولئك الذين يقبعون في السجن. أنا أستطيع أن أرفع صوتي عندما لا يستطيع الكثيرون ذلك. أريد أن تعرفوا أن هذا لم يكن حال السعودية على الدوام، نحن السعوديون نستحق أفضل من الذي يحدث»

(جمال خاشقجي، من مقاله المعنون بـ "السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد.. حاليًا غير محتملة" .. واشنطن بوست، 18 سبتمبر/أيلول 2017. (12))

  

         

لم يكن لأحد أن يتخيل، خاصة من تابعوا خاشقجي لسنوات طويلة، أن يرفع الصحفي السعودي الشهير صوته، حتى من منفاه الفعلي، بكلمات كالتي واظب على قولها وكتابتها طوال الربع الأخير من العام الماضي وعامنا الحالي. كانت تلك الكلمات محملة بمعارضة سعودية يندر أن يشاهدها العامة لدى السعوديين بحال، وهي معارضة على الرغم من تحفظها وتفرقة صاحبها الخبير بين انتقاده للنظام الملكي وللدولة، إلا أنها تشبعت بنسمات عام الربيع العربي إن جاز القول، ويبدو أن "خاشقجي" تذكر، وكما كتب أعلاه فقد رفع صوته، أكثر مما يتحمل قصر الرياض الملكي على ما يبدو.

   

ورغم أن بداية التوترات الفعلية بينه وبين بلاط بلاده الملكي أتى أعقاب انتخاب دونالد ترامب مباشرة، عندما حذر "خاشقجي" من الترحيب الزائد من بلاده بـ "ترامب"، الأمر الذي أدى لمعاقبته والتضييق عليه في منابره الإعلامية ووقف مقالاته لجريدة الحياة، رغم ذلك فإن عاما تقريبًا على كتابته في "واشنطن بوست" يبقى هو الأكثر أهمية كونه حفل بكل أنواع النقد والمعارضة السياسية تقريبًا، وهي الفترة التي حظيت بأهمية خاصة نظرًا لشهرة الصحيفة العالمية وتأثيرها البالغ.

   

بدأ "معارض الربيع العربي" رحلته بحلته الجديدة مع الصحيفة الأمريكية بمقال وصف في عنوانه المملكة بأنها أصبحت «قمعية لحد لا يحتمل»، ثم رفع سقف النقد في مقاله الثاني منتقدًا بن سلمان في حربه على «المتطرفين»، قائلًا إن الأمير الشاب يطارد الأطراف الخطأ، منتقدًا إياه لسماحه بحملات اعتقالات نشطاء الرأي والحقوقيين السعوديين المتتالية في سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/تشرين الأول للعام الماضي، ولافتًا انتباهه -بسلوك ليبرالي جدير بالملاحظة- أن بعض أهم أعضاء "هيئة كبار العلماء" المقربين من ولي العهد يمتلكون «أفكارًا متطرفة» حد تعبيره، إلا أن مقاله الثالث كان شديد المباشرة، مشبهًا "بن سلمان" بالرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في محاولته جمع مفاتيح قوة البلاط الملكي السعودي كاملة في يديه. 

     

undefined

    

كان مقال "بوتين" إشعارًا شديد الوضوح بأن "خاشقجي" قد انتقل لخانة معارضة الرأي بشكل فعلي متجاوزًا خطوط البلاط الملكي السعودي الحمراء بمسافة واسعة، ولم يتوقف المفكر السعودي عند هذا الحد، منتقدًا في المقال التالي مباشرة سياسة الرياض في بيروت، متهمًا إياها بأنها «تخلق فوضى عارمة في لبنان» حد تعبيره، ثم مقال آخر حمل وصفًا لما فعلته المملكة باليمن بأنها «دمرته» بالكامل، ناصحًا ولي العهد بالتعلم مما فعله الملك فيصل عام 1965 عندما رعى مفاوضات السلام التي أنهت حرب اليمن الأهلية الأولى، ومرشدًا إياه لأن ينهي "عاصفة الحزم"، وينهي حملته على الإسلام السياسي، وأن ينهي أيضًا عدم تسامحه مع حرية التعبير والرأي.

  

إذن، تحول "خاشقجي" بشكل فعلي لمعارض بآراء وبكلمات لا يمكن إساءة فهمها أو تأويلها، ورغم أن أستاذ الصحافة الشهير قد أظهر وجهه "الثوري" إن جاز القول بكل وضوح، فإنه حافظ -حتى مقتله في قنصلية المملكة في مدينة إسطنبول التركية- على شعرة معاوية، فلم يتجاوز مع الملك السعودي أو "بن سلمان"، وظل موازنًا ببراعة بين معارضته عالية الصوت وربما التأثير وبين قوميته التي تحترم البلاط الملكي دومًا، وفي كل ذلك مثل "خاشقجي" مزيجًا مركبًا من المعارضة السياسية الحادة والرصينة في نفس الوقت. إلا أن ذلك كله، يبدو أنه لم يكن كافيا لدى سلطة بدأت تأسيس شرعيتها باعتقال وإسكات أي احتمال لأي صوت "معارض" ومخالف، حتى وإن كانت معارضته تلك، ناعمة.

     

     

وبعد مرور عام كامل على اغتيال خاشقجي، وما طفا على السطح من معلومات حول ملابسات اغتياله، وخروج ولي العهد قبل أيام فقط ليعلن تحمل "الدولة" السعودية مسؤولية الجريمة، وهو الاعتراف الذي بدا إيذانا بإزاحة ولي العهد السعودي لنفسه من أي مسؤولية مباشرة لتلك الجريمة البشعة، فإن تمييع السلطات السعودية لقضية الاغتيال، ومحاسبة وتقديم المسؤولين المباشرين للعلن، أمران يبدو أنهما لن يكونا قريبين بحال، إلا إن قررت السلطات السعودية تحت وطأة الضغط الدولي، تقديم أكباش فداء، لحماية الضّالعين الحقيقيين وراء أحد أبشع الجرائم وأكثرها ضجة، في الأعوام القليلة الماضية.