شعار قسم ميدان

تسريبات المخابرات الأميركية.. هل يستطيع ترمب حماية بن سلمان؟

midan - رئيسية خاشقجي

نادرا ما تنشر "واشنطن بوست"، إحدى كبرى الصحف الأميركية وأكثرها تأثيرا، باللغة العربية، وغالبا ما تكون هذه المواد العربية مقتصرة على بعض افتتاحياتها بجانب مقالات الرأي الهامة المرتبطة بشكل مباشر بالعالم العربي، مثل مقالات كاتبها الأسبوعي السعودي جمال خاشقجي، الذي قُتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول الشهر الماضي، إلا أنه يوم السبت، السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري؛ نشرت البوست، وربما للمرة الأولى في تاريخها، خبرا يوميا باللغة العربية، كان عنوانه: "وكالة الاستخبارات المركزية تستنتج أنّ ولي العهد السعودي أمر باغتيال جمال خاشقجي". [1]

 

لم تكن بادرة البوست إجراءً رمزيًا وحسب؛ خصوصًا إذا علمنا أن الخبر نفسه تم نشره نقلا عن مصادر في المخابرات المركزية الأميركية على "أسوشيتد برس"، أكبر الشبكات العالمية، بجانب عدد من الصحف الأميركية الكبرى الأخرى، وعلى رأسها "نيويورك تايمز"، بما يعكس إجراءً منظما من مصادر داخل الاستخبارات الأميركية يبدو أنها تعمدت تسريب اتهامات مباشرة لـ"محمد بن سلمان"، مرسلة بشكل غير مباشر رسائل باتجاهات عدة، أولها للرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه الذي ظل مدافعا حتى اللحظة الأخيرة عن ولي العهد السعودي وعن تحالف بلاده "الاستراتيجي" مع السعودية.

    

   

وكما يبدو، فإن رسالة الاستخبارات وصلت إلى وجهتها مباشرة، حيث أعلن ترامب في اليوم التالي [2] أنه تحدث مع مديرة المخابرات الأميركية جينا هاسبل – التي استمعت بشكل مباشر للتسجيلات التركية في أنقرة – حول النتائج التي توصلت إليها الوكالة، مؤكدا أنه سيقدم “تقريرا مليئا للغاية” حول القضية يوم الثلاثاء المقبل، رغم أنه ما زال متشككا بهذه النتائج، وفي الوقت نفسه يبدو أنه مازال يبحث عن طرق لتجنب إلقاء اللائمة على "ابن سلمان"، كما نقلت “البوست” عن مساعدين للرئيس الأميركي، وهو ما يعكس بوضوح حجم المعركة التي أثارها مقتل "خاشقجي" والتي باتت أكبر من ابن سلمان والسعودية نفسها، لتتحول كما يظهر للمراقب كمعركة داخلية بين مراكز القوى في واشنطن نفسها، بين إدارة ترامب ودوائره المقربة التي تستميت لحماية مصالحها مع ولي العهد السعودي، وبين أجهزة الاستخبارات والصحافة والنواب البارزين في الكونغرس الذين لا يتشاركون فيما يبدو نفس رؤية ترامب تجاه نهج المملكة الحالي.

 

التقييم النهائي

ومن أجل الوصول إلى هذا التقييم النهائي، والذي ربطت الاستخبارات بموجبه علاقة محمد بن سلمان بصورة مباشرة بحادثة قتل خاشقجي؛ فقد عملت المخابرات الأميركية على فحص عدة معلومات استخباراتية، على رأسها مكالمة أجراها خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد الأصغر والسفير السعودي في الولايات المتحدة مع خاشقجي، والتي يظهر أنها كانت لاستدراجه نحو القنصلية السعودية في إسطنبول بهدف حصوله على الوثائق المطلوبة لإتمام زواجه من خطيبته التركية خديجة جنكيز، تمهيدا لاغتياله الذي تم في الثاني من أكتوبر الماضي؛ وبينما لا يمكن الجزم ما إذا كان خالد بن سلمان يعلم نتيجة هذا الاستدراج وما سيؤول إليه من اغتيال خاشقجي؛ فإن مصادر المخابرات الأميركية تؤكد أن هذه المكالمة تمت بتوجيه من محمد بن سلمان نفسه، وهي رواية نفتها السفارة السعودية رسميا، ونفاها "خالد بن سلمان" عبر حسابه على تويتر قائلا إن آخر تواصل شخصي له مع خاشقجي كان يوم 26 أكتوبر عام 2017 عبر الرسائل النصية وأنه لم يوجهه أبدا للذهاب إلى تركيا.

 

إضافة لذلك، فحصت المخابرات الأميركية مكالمة أخرى صادرة من داخل القنصلية بعد حادثة القتل، والتي أجراها قائد فريق الاغتيال "ماهر عبد العزيز مطرب"، الذي ظهر عدة مرات مع محمد بن سلمان نفسه، بالإضافة لسعود القحطاني، كبير مستشاري ابن سلمان، والذي أخبره المطرب في مكالمة يعتقد أنها أعقبت عملية الاغتيال، ليخبره فيها أن “يبلغ رئيسه أن المهمة انتهت”، وقد زعمت مصادر صحفية تركية أن مطرب أجرى 19 مكالمة مع مسؤولين سعوديين من داخل مبنى السفارة يوم الاغتيال، 4 منها كانت مع سعود القحطاني، الموضوع مؤخرا على قائمة العقوبات الأميركية بسبب تورطه في مقتل خاشقجي، بصحبة نائب رئيس الاستخبارات السعودية أحمد عسيري.

 

الجانب الآخر من هذا التقييم، بحسب ما نقلته “واشنطن بوست” عن مسؤول مطلع على خلاصات الاستخبارات الأميركية، فإنه جاء مبنيا على تقييم الاستخبارات لولي العهد السعودي بوصفه “الحاكم الفعلي” حتى لأصغر الأمور في المملكة، ما يجعل “من المستحيل أن يكون هذا قد حصل دون معرفته أو مشاركته”.

 

حيث ترى الاستخبارات الأميركية أن ابن سلمان يمثل “تكنوقراط جيد”، لكنه “متقلب ومتعجرف”، و”لا يبدو أنه يدرك أن هناك أشياء لا يمكنه فعلها”، بحسب تعبير مصادر الوكالة للصحف الأميركية. أما ما يرتبط بمصير ولي العهد، فيعتقد محللو الاستخبارات أن ابن سلمان سيحكم قبضته على السلطة، وليس ثمة خطر يهدد وراثته للعرش السعودي، وأنه سينجو من “فضيحة خاشقجي”، كما أسموها، مؤكدين أن دوره المستقبلي كملك للسعودية “مضمون بلا شك”.

   

     

لم تكن تلك بالطبع هي المصادر التي اقتصرت الاستخبارات الأميركية عليها، حيث اعتمدت على الدليل الأكثر تداولا: التسجيلات التي يمتلكها الأتراك، والتي شاركوها بحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا، إضافة للسلطات السعودية، والأهم مع هاسبل، مديرة الاستخبارات الأميركية، التي سمعتها صبيحة الإعلان التركي الرسمي عن مقتل خاشقجي، على لسان الرئيس التركي أردوغان نفسه، والذي حمل عدة رسائل سياسية. [3] كما أن ترامب نفسه كان آخر المستمعين للتسجيل عقب اتهامات السي آي إيه، واصفا التسجيل ب"الوحشي والفظيع".

 

الشركاء الأجانب

في صبيحة خطاب أردوغان المشار إليه؛ كتب اللسان غير الرسمي للرئاسة التركية، إبراهيم كاراجول، رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" المقربة من السلطات التركية مقالا لمح فيه لاحتمالية تورط أطراف سعودية في عملية قتل خاشقجي قائلا: "إن هذه الجريمة ارتكبت كجزء من مخطط جديد يستهدف المنطقة ويديره ابن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد وصهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر" [4]، وهو نفس الأمر الذي كرره "كاراجول" في مقاله المنشور في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي حين حذر أن "أياما صعبة تنتظر ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد" بسبب مقتل خاشقجي أيضا [5].

 

وبينما يمكن القول إن كلمات كاراجول المباشرة والحادة – كعادته – تعد جزءا من الحملة الإعلامية التي يخوضها الأتراك؛ فقد قادت بعض المعلومات المسربة نحو الاتجاه نفسه مؤخرا، حين كشفت صحيفة "يني شفق" نفسها صبيحة الثامن عشر من نوفمبر نقلا عن مصادر في الاستخبارات التركية أن محمد دحلان، القيادي المفصول من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) والمستشار المقرب لمحمد بن زايد، كان له علاقة ودور فاعل في العملية، حيث وصل فريق مكون من أربعة أشخاص مرتبطين بدحلان إلى تركيا قادمين من لبنان قبل يوم واحد من جريمة القتل، ودخلوا القنصلية في يوم مقتل خاشقجي، وقاموا بمحاولة طمس الأدلة المتعلقة بجريمة القتل، وبقوا في تركيا لمدة ثلاثة أيام. ومع ذلك الكشف الجديد المزعوم، امتدت ألسنة اللهب المتصاعدة منذ مقتل خاشقجي من الرياض إلى جارتها الصديقة أبو ظبي [6] مجددا بعد أن كانت صلة الإماراتيين بالقضية قد توقفت عند الهبوط الغامض لإحدى طائرتي فريق اغتيال خاشقجي في دبي لدى عودتهم من إسطنبول.

 

أما في واشنطن؛ فقد بدأت بعض الجهات تشعر بالقلق من أن تمس الأضرار الجانبية لمقتل خاشقجي دوائر مقربة من الرئيس الأميركي ترامب نفسه، وتحديدا صهره جاريد كوشنر المقرب من ولي العهد السعودي، والذي كان أول من حادثه ابن سلمان، في اليوم التالي مباشرة للحادثة، واصفا له خاشقجي بأنه: "خطير ويتعاطف مع الإخوان المسلمين"، قبل أن يظهر كوشنر رسميا ويعلن أنه "نصح" [7] ابن سلمان بإجراء "تحقيقات شفافة"، في الوقت الذي مارس فيه نفوذه للضغط على ترامب من أجل "دعم ابن سلمان في القضية"، [8] في موقف متوقع من كوشنر تجاه أحد شركائه في "الترويكا" غير الرسمية الحاكمة للشرق الأوسط التي تضم معهما أيضا ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، [9] ترويكا طالما أثارت غضب ما يمكن تسميته بـ"الدولة العميقة" [10] في الولايات المتحدة، أي المؤسسات التقليدية داخل الدولة، والتي شعرت بتهميش دورها لصالح الترتيبات والسياسات غير الرسمية التي يقودها عائلة ترامب ومستشاروه، ويبدو أن هذه المؤسسات، الناقمة على أساليب العمل الملتوية لإدارة ترامب، قد حازت دفعة قوية بعد الانتخابات النصفية الأخيرة التي حصل فيها الديمقراطيون على أغلبية في مجلس النواب.

   

     

الدولة العميقة

في ضوء ذلك، لم يكن تسريب المخابرات الأميركية الذي يُدين ابن سلمان ليمر هكذا في أورقة واشنطن السياسية مرور الكرام، حيث حفز عدّة مواقف وتصريحات ودعوات من مسؤولين كبار، كان على رأسهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بوب كوركر، الذي أعاد التأكيد على تسريبات "سي آي إيه"، بقوله "إن كل شيء يشير إلى أن ولي عهد السعودية محمد بن سلمان هو من أمر بقتل جمال خاشقجي"، داعيا إدارة الرئيس ترامب لـ"التوصل إلى تحديد موثوق للمسؤولية قبل أن يعدم محمد بن سلمان من يبدو أنهم نفذوا أوامره".

 

وفي رد فعل مماثل، قال عضو مجلس الشيوخ الأميركي ريتشارد بلومنثال إن "على ترامب أن يقبل خلاصة وكالة الاستخبارات التي لا جدال فيها، وهي أن ولي العهد السعودي مذنب في القتل الوحشي لخاشقجي"، مضيفا أنه "ينبغي أن تكون هناك عواقب لقتل خاشقجي، داعيا إلى فرض عقوبات ومحاكمة وإزاحة محمد بن سلمان بدلا من الاستمرار في التستر عليه من قبل ترامب".

 

حتى السيناتور الجمهوري راند باول، الشهير بدعمه السابق للسعودية وولي العهد محمد بن سلمان، أكد هو الآخر أن الأدلة تتكاتف لتؤكد تورط ابن سلمان، داعيا لإلغاء صفقات السلاح مع السعودية، "التي لا تفهم إلا لغة القوة"، بحسب تعبيره، لينضم بذلك لقائمة طويلة من المسؤولين الأمريكيين الذين باتوا أكثر حزما بموقفهم من السعودية ودعوتهم ترامب لرفعه الحماية عنها، وتحديدا عن ولي العهد.

 

بذلك، ضربت تسريبات الاستخبارات دوائر صنع القرار في واشنطن بقوة فيما يبدو، [11] وباتت كبريات هذه الدوائر تدعو ترامب أن يتخلى عن حماية حليفه ابن سلمان في قضية باتت أكبر من أن يتم التستر عليها، حتى وإن كانت تلك هي رغبة الرئيس الأميركي نفسه، وصار لزاما بالتبعية على المؤسسات الأميركية التدخل بلطف لحماية صورة واشنطن والامتناع عن تشويهها أكثر مما حدث بالفعل، في قضية باتت في حكم الخاسرة، وتنتظر إدانة حاسمة يبدو أن مستواها سيتحدد وفقا لحجم الأدلة والتسجيلات التي يحوزها الأتراك، والمدى الذي يرغبون في الذهاب إليه في الإفصاح عن هذه الأدلة.

 

على الجانب الآخر؛ باتت تركيا، باستخدامها إستراتيجية التسريبات التدريجية البطيئة، صاحبة اليد العليا في قضية خاشقجي، لا مع السعودية وحسب؛ بل مع الولايات المتحدة، حيث نجحت أنقرة في استغلال نفوذها في قضية خاشقجي لحسم العديد من القضايا العالقة مع واشنطن، وعلى رأسها قضية القس الأمريكي أندرو برانسون، واستثناء تركيا من العقوبات الأميركية المفروضة على الكيانات التي تتعامل على إيران، وتسيير دوريات مشتركة في منبج، وتدشين معركة تل أبيض ضد "وحدات حماية الشعب" المدعومة أميركيا، بل ووصولا إلى حديث الصحف الأميركية حول بحث طرق قانونية لتسليم عدو أردوغان الأول، فتح الله جولن، المقيم في الولايات المتحدة والمتهم بالتخطيط للانقلاب الفاشل منتصف عام 2016، [12] رغم نفي ترامب لذلك في نهاية المطاف [13].

   

    

وبين ضغوط أنقرة وتسريباتها المتواترة؛ والضغوط الأميركية الداخلية على حلف ترامب الصغير داخل البيت الأبيض من ناحية أخرى؛ يبدو ابن سلمان نفسه ورقة تتدهور أهميتها حين مقارنتها بلعبة جيوسياسية كبرى بدأت أصداؤها تتجاوز الرياض وصولا إلى حليفتها أبو ظبي، إلى واشنطن نفسها، لعبة يبدو أن نتائجها ستتجاوز وقائع جريمة بشعة وقعت في إسطنبول إلى عملية إعادة ترتيب لمراكز القوى والنفوذ في الشرق الأوسط المضطرب.