شعار قسم ميدان

عنصري ودموي ومعجب بالنازية.. الوجه الآخر لتشرشل

مقدمة المترجم

بطل قومي، ووجه بريطانيا المشرق، وقائد النصر البريطاني في الحرب العالمية الثانية. هذا هو تشرشل الذي تحتفي به المملكة المتحدة، لكن وفي وسط موجة الاحتفاء والتصفيق تلك، تبرز أصوات ناقدة لحالة التقديس التي أحاطت ونستون، حيث يراه كثيرون بعيدا كل البعد عن دور البطولة، إذ كان متعصبا وعنصريا، متعطّشا للدماء وداعما للإمبريالية والحملات الاستعمارية.

نص التقرير

خلال احتجاجات الأول من مايو في انجلترا في عام 2000، الذي يصادف عيد العمّال، قام المتظاهرون بتشويه تمثال ونستن تشرشل في ساحة البرلمان بوسط لندن، مما أثار غضب النخب البريطانية من صحافيين وسياسيين ورأي عام "رصين". تم طلاء فم تشرشل بلون الدم، وتغطية رأسه بشريط من العشب الأخضر فظهر بمظهر الهنود الحمر، وتم تحويل "أب الأمّة" إلى شبيه شخصية الجوكر الشرّيرة. تخطّى المتظاهرون بذلك الكثير من المحرّمات، ففي حين أن تحطيم الأصنام جائز بل مشجّع، فإنه في حالة تشرشل والنخب الحاكمة في المملكة المتّحدة التي تقدّسه، اعتبر ما حدث من سبيل الكفر!

من الصعب التعبير عن مدى التقدير الذي تكنّه الطبقة الحاكمة في بريطانيا لتشرشل كرمز وطني ووجداني، والذي يكنّه أيضا عدد كبير ولكن متناقص من مواطنيها. فجزء كبير من أولئك الذين تشكل وعيهم الوطني من الذكريات الشعبية المتوارثة حول الحرب العالمية الثانية، وحول آخر لحظة من "العظمة" البريطانية (باستثناء فوز إنجلترا بكأس العالم في عام 1966) يرون تشرشل على أنه الرجل الذي سحق الخطر النازي .ترّأس تشرشل حكومة ائتلافية خلال الحرب وقاد دولة مترّهلة كانت قد تركت لتواجه مصيرها، إلى تحدّي العدو ومواجهته ثم الانتصار عليه على الرغم من كل العقبات. أنقذ تشرشل الدولة البريطانية خلال أحد أسوأ الأزمات التي واجهتها في تاريخها. بنتيجة ذلك كان تشرشل خلال حياته آخر الزعماء البريطانيين المحبوبين حقا؛ ومنذ ذلك الحين لم يقترب أي زعيم آخر من مستوى الشعبية التي تمتّع بها.

ونستون تشرشل، الذي وُلد فردا لعائلة دوقات مالبورو الأرستقراطية
ونستون تشرشل، الذي وُلد فردا لعائلة دوقات مالبورو الأرستقراطية

في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كنت في مقاعد الدراسة في أيرلندا الشمالية -الزمرّدة في تاج الإمبراطورية البريطانية كما كانت تعرف- كانت لا تزال مثل هذه المشاعر الجيّاشة تجاه تشرشل منتشرة. حتى أن أستاذ التاريخ في المدرسة أخبرنا قصة خيالية عن هتلر، وكيف أنّه عندما سمع أن تشرشل سوف يقود المجهود الحربي البريطاني، ارتعب قائلا: "ماذا سوف نفعل الآن؟!"

إلى جانب كونه أسطورة وطنية، أصبح تشرشل مصدرا لدرّ الأموال، ومصدرا لا ينضب من الحنين الى الماضي. تباع الكتب التي تحتفي بذكائه اللاذع، والأكواب المزيّنة بصوره والمناشف التي تحمل أقواله، فضلا عن سيل لا ينتهي من مؤرخي البلاط الذين يستذكرون أمجاده. وفي وقت الكتابة، يعرض فيلم جديد عن تشرشل من بطولة غاري أولدمان، منضمّا إلى كومة الأفلام عنه التي لعب فيها دوره النجوم من أمثال بريان كوكس وبريندان غليسون وألبرت فيني ومايكل غامبون. سلسلة الأفلام هذه هي بمثابة وكالة تشغيل للممثّلين الوطنيين، وقد ازدهرت هذه الظاهرة مؤخرّا بعد أن أدّى التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تغذية الحنين إلى عصر الإمبراطورية البائدة. لكن بالنسبة لي شخصيا، اختفت تلك الهالة المحيطة به منذ زمن طويل، حتى أنني وجدت نفسي في ساحة البرلمان معجبا بما فعله هؤلاء المتظاهرون بتمثاله. فكيف حدث ذلك؟

قد يكون عالم الثقافة والفن مكانا جيّدا لمعرفة المزيد عن تشرشل. الممثل الشهير ريتشارد بيرتون، خلال التحضير لدوره متقمّصا شخصية تشرشل في مسلسل درامي، كتب مقطعا شهيرا في صحيفة نيويورك تايمز قائلا: في سياق التحضير لدوري. . . أدركت مرة أخرى بأنني أكره تشرشل وأمثاله. أنا أكرههم بشراسة، أولئك الذين هيمنوا على دهاليز السلطة عبر التاريخ. . . .أيّ رجل عاقل يردّ عقب سماعه عن الفظائع التي ارتكبها اليابانيون ضد أسرى الحرب البريطانيين والأوستراليين والنيوزيلنديين: "سوف نبيدهم جميعا…كل واحد منهم، رجالا ونساء وأطفالا. لن يبقى هناك يابانيون على وجه الأرض"؟ هذه الرغبة الشديدة في الانتقام تترك في نفسي رعبا شديدا من انعدام الرحمة العنيد والشرس لديه.".

تمثال ونستون تشرشل في ساحة البرلمان بعد احتجاج لبعض المتظاهرين وهجومهم على المباني الحكومية (رويترز)
تمثال ونستون تشرشل في ساحة البرلمان بعد احتجاج لبعض المتظاهرين وهجومهم على المباني الحكومية (رويترز)

بسبب نقده اللاذع هذا لأيقونة تشرشل، مُنع بيرتون من العمل بعدها مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، واتهم بالتصرّف "بطريقة غير مهنية" وحتى بارتكاب فعل خياني. على الرغم من ذلك، فإن تساؤلاته ألقت الضوء على جانب من شخصية تشرشل لطالما أحرج الحساسيات البريطانية، بحيث أنه لا يتم الحديث عنها عموما، وأعني بهذا حماسته لسفك الدماء في سبيل إعلاء الإمبراطورية البريطانية. فأين ما بحث المرء سوف يجد الدم يقطر من فم تشرشل، المتعصب دوما للعنف.

تشرشل كان سليل الطبقة الأرستقراطية العليا، فهو ابن وزير الخزانة اللورد راندولف تشرشل، أي أنه ولد وقدره أن يتولّى منصبا رفيعا. لكن من المهم أن نلاحظ هنا أن تشرشل الشاب لم يكن رجعيّا بشكل صريح. فهو وإن كان عضوا في حزب المحافظين، اعتبر نفسه ليبراليا في كل شيء ما عدا الاسم. وقد عكست مواقفه -العلمانية، والمؤيّدة للتجارة والديمقراطية، ولبعض التحسينات الطفيفة في حقوق الطبقة العاملة- عكست أفكارا ليبرالية إصلاحية…( كان الاستثناء الوحيد لهذا الانتماء هو رفضه فكرة الحكم الذاتي الأيرلندي).

لكن معنى أن تكون ليبراليا في تلك الحقبة لم يكن بأي حال من الأحوال يتناقض مع أشياء مثل الإمبريالية والعنصرية ومعاداة السامية، ومع تأييد برامج تحسين النسل البشري الإجبارية، والازدراء الذكوري لمناضلات من أجل إعطاء المرأة حق التصويت والترشّح. كما تقول كانديس ميلارد في كتابها "بطل الإمبراطورية" الذي يفصّل دور تشرشل في حرب البوير في جنوب أفريقيا، فلقد تشرّب الرجل كل مبادئ الإمبراطورية البريطانية فجبلت شخصيته عليها. فتشرشل وصل إلى مرحلة البلوغ وهو متأكّد من عظمته القادمة، بعد أن ذاع صيته لشجاعته في مواجهة الموت. أعطت الإمبراطورية البريطانية الملايين من أمثاله الذين هم على استعداد للسفر حول العالم  الفرصة لخوض المغامرات والتحكّم بمصائر شعوب بعيدة لا يعرفون شيئا عنها. تحكّمت الإمبراطورية البريطانية في حقبة تشرشل بأرواح ما يناهز 450 مليونا من البشر الرازحين تحت نيرها، وبدأت الثورات والصراعات بالاندلاع في حينه من الجنوب الأفريقي إلى مصر وإيرلندا.

كتبت ميلارد: "بالنسبة إلى تشرشل، فإن هذه الصراعات البعيدة وفرّت له فرصة لا تقاوم  لتحقيق للمجد الشخصي وارتقاء (السلّم المهني). فعندما انضم للجيش البريطاني وأصبح جنديا أخيرا، حيث كان يواجه احتمالا حقيقيا للموت في ساحات القتال، لم تخفت حماسة تشرشل للحرب. على العكس من ذلك، كتب رسالة لأمه قائلا إنه يتطلع إلى القتال ليس على الرغم من المخاطر التي سوف أواجهها  بل بفضلها!".undefined

نجح تشرشل في إثبات نفسه قياسا إلى تلك المعايير الإمبراطورية، فخاض معارك في الهند والسودان، وقدّم المساعدة لإسبانيا في قمع الكوبيين الذين قاتلوا من أجل الاستقلال، وبعد مسيرة برلمانية قصيرة في جنوب أفريقيا، قام بالقتال في حرب البوير الثانية. هذه التجربة أقنعت تشرشل بنجاعة السعي إلى حلول مماثلة للاضطرابات الداخلية في بريطانيا. فعندما انضم إلى الحكومة الليبرالية عام 1906، دعا إلى اتخاذ تدابير صارمة للحد من العصيان الاجتماعي. ثم جاءت ترقية تشرشل إلى منصب وزير الداخلية بعد مرور أربع سنوات في مرحلة طغت فيها الاضطرابات السياسية المتصاعدة في المملكة المتحدة: النضال الايرلندي للحكم الذاتي، والنضال من أجل حق تصويت المرأة في الانتخابات، وموجات الإضراب المتتالية. قام تشرشل بالتصدّي لجميع هذه الاضطرابات بعنف.

في سير تشرشل المدائحية، يجد القارئ الكثير من التركيز على دحض القول بأنه كان قد أمر قواته بمهاجمة عمال المناجم المضربين في جنوب ويلز (وهي حادثة لا يزال المجتمع المحلي يكرهه بسببها حتى يومنا هذا). ما حدث في الواقع هو أن تشرشل أرسل كتائب من الشرطة من لندن، فيما قام بتعبئة قوات الاحتياط في كارديف، في حال لم تتمكن الشرطة من إنجاز المهمة. لكنه لم يكن هناك أي شك في أن تشرشل وقف إلى جانب أصحاب العمل، وكان على استعداد لتعبئة القوة الكاملة للدولة البريطانية لحسم النزاع في صالحهم. وخلال مواجهة مع مجموعة من الفوضويين اللاتفيين المسلحين في مدينة ستيبني، قام تشرشل بخطوة غير اعتيادية فتولّى بنفسه قيادة الشرطة طيلة مدّة حصار المجموعة في تلك المنطقة، وفي نهاية المطاف اختار أن يدعهم يموتون عندما ترك المجموعة تلاقي مصرعها حرقا  في المنزل حيث كانوا محاصرين.

غير أن هذا الدور لم يدم طويلا. فتم تعيين تشرشل أول لورد للأدميرالية البحرية، وهو منصب عسكري رفيع، مما وضعه في موقع القيادة السياسية للبحرية الملكية. كان تشرشل متحمّسا للتكنولوجيات الحديثة، فدفع باتجاه تحديث البحرية، وبناء القدرات الحربية في الجو، وبعد ذلك، اهتم بسلاح الدبّابات الجديد. لكن لا شيء في تجربته كان ليحضّره لـ"أمجاد" الحرب العالمية الأولى: "يا إلهي!"، صدح تشرشل عام 1915. "هذا تاريخ حي، كل ما نقوم به ونقوله مثير، وستقرأ عنه الآلاف من الأجيال، فكّروا في ذلك! لن أرضى أن أترك هذه الحرب اللذيذة المجيدة  لأي شيء قد يمنحني إياه العالم".

قد تكون طبيعة تشرشل المتحمّسة للحرب هي سبب الكارثة العسكرية في غاليبولي في عام 1915. ففي محاولة منه للسيطرة على مضيق الدردنيل وبالتالي إخراج تركيا من الحرب، قاد تشرشل عملية  عسكرية أرسل بموجبها قوات بريطانية وفرنسية وأسترالية ونيوزيلندية -ومعظمهم من المتطوعين، نصف المدربين- لمحاصرة شبه جزيرة غاليبولي. لكن الكارثة التي حدثت بعد ذلك أدّت إلى محو تلك القوات عن بكرة أبيها، مما أدى إلى تنحية تشرشل من منصبه، فترك الحكومة، وانضم إلى الجيش كقائد لكتيبة.

معركة غاليبولي عام 1915 (مواقع التواصل)
معركة غاليبولي عام 1915 (مواقع التواصل)

لو لم ينتم تشرشل إلى الطبقة الحاكمة في بريطانيا بشكل حاسم، لربما كان فشله هذا قد أدّى إلى انتهاء حياته السياسية. لكنه بدلا من ذلك، عاد إلى البرلمان في عام 1916، ثم تسلّق مرة أخرى سلم الرتب في الدولة، قتم تعيينه وزيرا للذخائر، ثم وزيرا للحرب، فوزيرا للطيران. كان تشرشل أيضا داعما شرسا للتدخل العسكري لقمع الثورة الروسية، وكتب العديد من المقالات الغاضبة حول خطر "اليهود الدوليين" (الشيوعيين) و"تحالفهم الشرير"، وفاضل ضدّهم  بـ "اليهود القوميين" (الصهاينة)، مما تم تفسيره بشكل خادع من قبل المدّاحين مثل مارتن جيلبرت على أنه دليل على حبّه لليهود.

إلى جانب تمييزه بين "اليهودي السيء واليهودي الجيد" المعادي للسامية بشكل عميق، فإن الدوافع الاستعمارية وراء تأييد تشرشل للصهيونية توّضحت لاحقا عندما خاطب اللجنة الملكية حول فلسطين عن موضوع تقرير المصير الفلسطيني: بعد أن لجأ إلى التشبيهات مع عالم الحيوان، قارن الحكم الذاتي الفلسطيني بالكلب الذي يريد أن يتحكّم بالعلف الخاص به،. وقال "لن اعترف… إن خطأ كبيرا قد ارتكب بحق الهنود الحمر في أميركا أو السود في استراليا. . . بإحلال عرق أقوى، وأعلى نوعية.. مكانهما".

كان تشرشل قد أوصى بمحاربة التمرد في العراق ضد الانتداب البريطاني عن طريق ضربهم بالغاز السام. في الواقع، كان قد سبق أن اختبر هذه الأسلحة الفتاكة في روسيا، ضد البلاشفة. ومن المهم أن ندرك أنه، كما هو الحال مع دعمه للقصف الجوي، كان يميل إلى تبرير ذلك باعتباره بديلا إنسانيا وتكنولوجيا عن الأساليب الأكثر وحشية. فكان قد قال: "أنا أؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتحضرة"، قبل أن يشرح: "يجب أن يكون التأثير المعنوي قويا لدرجة بحيث يؤدي إلى تقليل الخسائر في الأرواح إلى أدنى حد ممكن".

عندما اعترض البعض في مكتب الهند ضد "استخدام الغاز ضد السكّان الأصليين" اعتبر اعتراضاتهم "غير معقولة". قال إن "الغاز سلاح أكثر رحمة من قذيفة شديدة الانفجار ويجبر العدو على قبول الحسم بخسارة أقل في الأرواح أكثر من أي طريقة أخرى للقتال". لقد أدّى هذا المنطق، كما يذكر المؤرخ سفين ليندكفيست، إلى بعض أبشع الابتكارات في مجال الحرب. فحتى استخدام الأسلحة النووية في هيروشيما وناغازاكي تم تبريره جزئيا على أنّه وسيلة لإنقاذ الأرواح.

كان على تشرشل، كعضو ليبرالي في حزب المحافظين، أن يشعر بالقلق إزاء صعود الفاشية في أوروبا. لكنه بدلا من ذلك، كان متفائلا بشكل كبير، فاعتبر أن موسوليني هو حاكم جيد لإيطاليا، وأن الفاشية تشكّل سدّا منيعا ضد الشيوعية. فقوميته، ونزعته العسكرية، وحبّه للنظام والتقالید الاجتماعیة، أثّرت على فهمه لدوافع الحركات الفاشية الناشئة.

أصبح تشرشل من أبرز المؤيدّين لفكرة إعادة التسلح البريطاني، وواصل تملّق موسوليني وعارض تقديم أي دعم للجمهورية الإسبانية
أصبح تشرشل من أبرز المؤيدّين لفكرة إعادة التسلح البريطاني، وواصل تملّق موسوليني وعارض تقديم أي دعم للجمهورية الإسبانية

 يقول المؤرخ بول أديسون: "لم يكن لديه أي مشكلة.. مع هذا التعريف للفاشية". "في فبراير 1933 أشاد تشرشل بموسوليني واصفا إياه بأنه "أعظم مشرّع بين الرجال". ويضيف بول ميسون أن تشرشل شكر موسوليني على "تقديم خدمة جليلة للعالم" في حربه ضد الشيوعية والنقابات واليسار. في زيارة إيطاليا في عام 1927، أعلن تشرشل: "لو كنت إيطاليا، لكنت أيّدتك بكل إخلاص من البداية إلى النهاية في الكفاح النبيل ضد الشهوات والعصبيات الحيوانية للأيديولوجية اللينينية". كما كتب عن علاقاته "الحميمة والسهلة" مع موسوليني، مضيفا "في الصراع بين الفاشية والبلشفية، ليس هناك أيّ شك أين تصبّ عاطفتي وقناعاتي".

في عام 1935، أعرب تشرشل عن "إعجابه" بهتلر و"الشجاعة والمثابرة والقوة الحيوية التي مكنته من التغلب على كل.. العقبات التي اعترضت طريقه". يشرح أديسون أنه في حين أن تشرشل لم يؤيد اضطهاد النظام النازي لليهود، فإن "الطموحات الخارجية للنازيين، وليس سياساتهم الداخلية، هي التي تسببت بالقلق الأكبر لدى تشرشل".

ولكن ما هي الطموحات الخارجية التي كانت مدعاة للقلق، وأيّها تلك التي لم تكن كذلك؟ فغزو ​​إيطاليا لإثيوبيا لم يسبّب أيّ إزعاج لتشرشل، إذ حدث ذلك في مكان ناء، في منطقة تعتبر مشرّعة للغزو الاستعماري. أما بالنسبة لألمانيا النازية، فإن العديد من مفاهيمها الاستراتيجية والإقليمية كانت قد استلهمت من الإمبراطورية البريطانية نفسها. في الواقع، فإن الهوس النازي الأساسي، أي مفهوم العرق الآري كان من اختراع البريطانيين، من قبل علماء  اللغات والآثار الذين عملوا في جنوب شرق آسيا. أراد هتلر فقط أن يأخذ أفكار الإمبراطورية ويطبّقها في أوروبا.

في حين أن ذلك كان سوف ينطوي على حرب إبادة ضد "البلشفية اليهودية"، فإنه من الصعب الاعتقاد بأن تشرشل أو أي شخص آخر في الطبقة الحاكمة البريطانية كان لديه مشكلة مع ذلك. ولكن التوسع الألماني في البر الأوروبي كان مسألة أخرى. أي أن الفاشية أصبحت مشكلة فقط عندما رآها تشرشل على أنها تهديدا للإمبراطورية البريطانية والنظام الأوروبي للدول القومية الذي كانت بريطانيا جزءا منه. حينها فقط أصبحت الفاشية لديه أسوأ من الشيوعية!

أجبر عدوان هتلر أغلبية في الطبقة الحاكمة البريطانية على التخلي عن تفضيل التعاون مع الرايخ الثالث، المعروف بسياسة
أجبر عدوان هتلر أغلبية في الطبقة الحاكمة البريطانية على التخلي عن تفضيل التعاون مع الرايخ الثالث، المعروف بسياسة "الاسترضاء"

أصبح تشرشل من أبرز المؤيدّين لفكرة إعادة التسلح البريطاني، وبالتالي استعدى غالبية أركان المؤسسة العسكرية والسياسية البريطانية، الذين أرادوا أن يكونوا الى جانب هتلر في حربه ضد روسيا. لكنه استمر في الاعتقاد أنه بالإمكان عزل النازيين، وأنه يمكن تشكيل محور مع الفاشية الإيطالية والإسبانية، وعلى هذا النحو واصل تملّق موسوليني وعارض تقديم أي دعم للجمهورية الإسبانية. خلال الحرب الأهلية الإسبانية، التي كانت من نواح كثيرة تمهيدا للحرب العالمية الثانية، اعتبر الجمهورية بمثابة "جبهة شيوعية" ورأى الفاشيين المدعومين من هتلر ردّا مناسبا "ضد الشيوعية". ومن المؤكد أن تشرشل لم يكن لديه أي مشكلة مع قيام فرانكو بقصف واستعمال الغاز السام ضد أعدائه، وغيرها من الأساليب الوحشية التي كانت قد تمت تجربتها في المغرب قبل استيرادها إلى إسبانيا، لأن هذه الأساليب بالنسبة لتشرشل كانت "إنسانية ومناسبة".

في نهاية المطاف، أجبر عدوان هتلر أغلبية في الطبقة الحاكمة البريطانية على التخلي عن تفضيل التعاون مع الرايخ الثالث (المعروف بسياسة "الاسترضاء"). أقنع غزو ​​النازيين لبولندا حكومة نيفيل تشامبرلين بالذهاب إلى الحرب، فتمت ترقية تشرشل مرة أخرى إلى الأدميرالية. لكن الأداء السيء للحكومة في الحرب سرعان ما أدى إلى انهيارها وتشكيل حكومة ائتلافية جديدة بقيادة تشرشل.

حتى بعد تعيينه، استمر تشرشل في السعي إلى التحالف مع الأنظمة الفاشية التي لم تكن لديها طموحات على مستوى العالم. بحسب المؤرخة جوانا بورك، وجّه تشرشل نداء يائسا لموسوليني في مايو 1940 قائلا: "هل فات الأوان لوقف نهر الدم الآتي بين الشعبين البريطاني والإيطالي؟ . . . فوق كل نداء وعبر الأزمنة والعصور،  تأتي صرخة لتقول إن الورثة المشتركين للحضارة اللاتينية والمسيحية يجب أن لا يتقاتلوا في ما بينهم في صراع مميت. أطلب منك، بكل شرف واحترام أن تلبّي النداء قبل أن تطلق إشارة الموت."

موسوليني وسيانو (على يمين الصورة بالزي الرسمي) مع هتلر (مواقع التواصل)
موسوليني وسيانو (على يمين الصورة بالزي الرسمي) مع هتلر (مواقع التواصل)

وفي العام نفسه، خاطب فرانكو بنبرة مماثلة قائلا: "تستند المصالح والسياسة البريطانية على استقلال ووحدة إسبانيا، ونحن نتطلع إلى رؤيتها تأخذ مكانها المستحقّ كقوة كبيرة في البحر المتوسط ​​و كعضو بارز في الأسرة الأوروبية والعالم المسيحي". في حين أن هذا النداء لم يلق آذانا صاغية في إيطاليا، نجح تشرشل في التحالف مع فرانكو فأطال من عمر نظامه.

في الحقيقة، كما أشار كثير من الناس، فإن الحرب العالمية الثانية لم تكن مجرد حرب واحدة. بحسب إرنست ماندل كانت هناك خمس حروب على الأقل: فإلى جانب الحرب بين القوى الإمبريالية، كانت هناك أيضا حرب شعبية ضد الاستعمار شملت سكّان جنوب آسيا وأفريقيا، وحرب الدفاع عن النفس في روسيا، والنضال الصيني ضد الإمبريالية اليابانية، والحرب الشعبية ضد الفاشية. كما كانت هناك انتفاضات شعبية ضد الفاشية في اليونان وإسبانيا ويوغوسلافيا وبولندا وفرنسا، في حين قاوم الجنود في الصين وفيتنام والهند وإندونيسيا الإمبريالية اليابانية. حتى في بريطانيا، كان هناك تجييشا ملحوظا بعد عام 1940، وبذلت جهود متضافرة لتحويل المجهود الحربي للدولة إلى حرب شعبية مناهضة للفاشية.

لكن بالنسبة إلى تشرشل، كانت الحرب إمبريالية بامتياز وهو خاضها على هذا النحو، فالبريطانيون كانوا أوّل من قصف المدنيين خلال هذا النزاع، وقاموا بمهاجمتهم في ضواحي برلين. أعلن تشرشل أنه ليس بمقدور بريطانيا إلحاق الهزيمة بألمانيا من خلال جيش قاري ضخم، فـ "يجب أن يدمر النظام النازي من خلال هجوم فتّاك وماحق من قبل القاذفات الثقيلة".استهدفت الغالبية العظمى من القنابل المناطق السكنية، بدلا من البنية التحتية الاستراتيجية. ووفقا لمدير الاستخبارات الجوية، كما نقل قوله المؤرخ ريتشارد أوفيري، فقد استهدفت القاذفات "سبل العيش والمنازل ووسائل الطهو والتدفئة والإضاءة والحياة الأسرية لشريحة معيّنة من السكان تلك التي تكون في أي بلد الأقل قادرة على الحركة والأكثر تعرضا للموت من هجوم جوي شامل -أي الطبقة العاملة". هذه السياسة بلغت ذروتها الإجرامية عند قصف وحرق مدينة دريسدن.

كانت تكتيكات حرق المدنيين تراهن بشكل عبثي على فكرة أن هذا من شأنه أن يضعف معنويات السكان ويضعف المقاومة -على الرغم من أنه كان ثبت مرارا خطؤها بالنسبة للإمبراطورية البريطانية خلال الحروب الاستعمارية-. لو كانت الحرب ليست إمبريالية ولكن مناهضة للفاشية لربما كانت قد حرصت على الابتعاد عن استهداف المدنيين،  ساعية إلى بناء دعم لحركة مقاومة للفاشية من شأنها أن تسرع انهيار النظام النازي من الداخل. ولكن بالنسبة لتشرشل، كان هذا ببساطة شيئا لا يمكن تصوره. فهذا الرجل هو نفسه الذي انضم إلى هجوم في أم درمان للانتقام للجنرال غوردون، وهو الرجل نفسه الذي تميزت حياته العسكرية كلها بحب جمّ للخطر والموت. هذا هو الرجل الذي قاتل لقمع المتمردين في كل مكان، الرجل الذي رأى من المناسب استخدام الغاز السام وقصف "السكان الأصليين" حيثما رفضوا السياسات البريطانية. لذلك كانت الحرب الشاملة تتويجا منطقيا لمسيرته.

تضاءل نفوذ تشرشل بعد الحرب إلى حد كبير. خلالها، تمتّع بشعبية كبيرة، وظل يحظى باحترام واسع لقراره بالمواجهة، وثباته طوال الحرب
تضاءل نفوذ تشرشل بعد الحرب إلى حد كبير. خلالها، تمتّع بشعبية كبيرة، وظل يحظى باحترام واسع لقراره بالمواجهة، وثباته طوال الحرب
بعد الحرب، جرى نقاش بين الحلفاء حول استخدام سلاح النفط لاجبار نظام فرانكو على اتبّاع مسار معتدل، لكن تشرشل شجب هذا بغضب، قائلا إن هذه السياسة تكاد تكون "إشعالا لثورة في اسبانيا، تبدأ مع النفط، وتنتهي بسرعة بإراقة الدماء". قال إن الشيوعيين "سيصبحون سادة إسبانيا" وإن "العدوى" ستنتشر بسرعة كبيرة من خلال إيطاليا وفرنسا". فبعد هزيمة العدوان النازي، عادت الشيوعية مرة أخرى العدو الرئيسي لديه، كما قال تشرشل في خطابه حول "الستار الحديدي" في مارس 1946 الذي بشّر بقدوم الحرب الباردة.

تضاءل نفوذ تشرشل بعد الحرب إلى حد كبير. خلالها، تمتّع بشعبية كبيرة، وظل يحظى باحترام واسع لقراره بالمواجهة، وثباته طوال الحرب. ولكن كانت هناك مطالب كبيرة للإصلاح الاجتماعي، مما عنى فوزا ساحقا لحزب العمال في الانتخابات وهزيمة تشرشل. عاد تشرشل رئيسا للوزراء لفترة قصيرة في عام 1951، لكنّه حافظ على معظم الإصلاحات التي كان قد أجراها حزب العمال. ثم خاض حربا وحشية لا هوادة فيها -بدعم كل الأحزاب- ضد انتفاضة الـ "ماو ماو" في كينيا والتمرد في مالايا. في الحالة الأخيرة، كان تشرشل مرة أخرى "مبتكرا" فكانت بريطانيا أول دولة تستخدم عامل أورانج ومبيدات الأعشاب ضد البشر، واعتمدت بلذّة سياسة القصف المشبع التي سوف تتبناها الولايات المتحدة لاحقا في فيتنام. بعد ذلك، تدهورت صحّة تشرشل، فقرّر التقاعد.

بعد أن قضى الكثير من حياته في صد التهديدات من السكان "الأصليين" ضد الإمبراطورية البريطانية، ساعد في إنقاذ بريطانيا من ألمانيا النازية، ولكن الشعوب الذين اعتقد تشرشل بأن بريطانيا تستحق أن تحكمهم، نجحوا في معظم الحالات في الإطاحة بالحكم البريطاني، ويرجع ذلك جزئيا إلى التحركات العالمية التي نشأت في سياق النضال ضد هتلر.

من المنطقي، إذن، أن تقوم الدولة البريطانية بتقديس ونستون تشرشل. فتاريخه هو من تاريخها. ولكن عندما يدرك المرء طبيعة ذلك التاريخ، فهل من الجائز له بعد ذلك أن ينضم إلى جوقة التقديس؟

 __________________________________________________

ترجمة: كريم طرابلسي

هذا التقرير مترجم عن Jacobin ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة