الحرب كقدر نافذ.. نظرة تاريخية لقواعد الحروب بين البشر
يقدم زياد حياتلي تاريخا موجزا عن الفلسفة التي تستعمل لتبرير الحروب من العصور الوسطى إلى التاريخ الحديث، ويعرج على الحرب في سوريا حيث تهدّد تكتيكات النظام التقدّم القانوني الذي أحرزه العالم في مجال تقنين أساليب القتال لحماية المدنيين وذلك دون أي محاسبة حيث تطرح تنظيمات مثل داعش وأخواتها أسئلة مهمة حول ما إذا كان الإرهابيون يتمتعون بحقوق أم لا.
إن مصطلح مثل "قوانين الحرب" قد يبدو متناقضًا في طبيعته من حيث التضاد في الكلمات. فمن جهة، فإن القانون تعريفاً هو هيكل ثابت من القواعد المرتبطة بنظام معيّن؛ ومن جهة أخرى ، فإن الحرب هي عمل يتميز بالفوضى العارمة والدمار. ومع ذلك، هناك فهم معيّن اليوم بأنه عندما يذهب المرء إلى الحرب، فإنه يمكن توّقع بعض السلوكيات المعيّنة، بحيث عندما يتم انتهاك هذه المعايير، تظهر المطالبات الملّحة بتحقيق العدالة الدولية من على المنابر والصحف والمسيرات الغاضبة ويتم انتقاد مؤسسات مثل الأمم المتحدة واتهامها بالعجز والضعف وبأنها عديمة الجدوى بسبب القيود المفروضة على عملها. وكما تغرق المحكمة الجنائية الدولية اليوم في نقاشات حثيثة حول قوانين الحرب وشرعيتها، ومسائل مثل أخلاقية استعمال الطائرات بدون طيار في الحرب، والذكاء الاصطناعي ، والأضرار الجانبية (أي الضحايا المدنيين)، واستعمال الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، والحاجة إلى الردع النووي ، و فكرة التدخل العسكري الإنساني.
ستنظر هذه المقالة في قواعد وظروف القوانين التي تحكم الحرب من منظور فلسفي ، بدءاً بنظريات القانون الطبيعي في العصور الوسطى، التي ألهمت بشكل أساسي مفهوم الحرب المبرّرة ثم ننتقل إلى عصر التنوير، التي ظهرت فيها مفاهيم جديدة حول الدولة والسيادة مما غيّر بشكل جذري في كيفية التفكير بالحرب. هناك اعتباران أساسيان أود مراعاتهما هنا: أولاً، أن الحروب الكبيرة وعواقبها دائما ما تؤدي إلى تغيير النظرة الدولية لها. وثانيا ، أن الأفكار المتعلقة بطبيعة الحرب هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بمفهوم الدولة ، وكيف تتعامل الدول مع بعضها البعض.
قام هوغو غروتيوس بنشر كتابه الفائق الأهمية (De Jure Belli ac Pacis) (قانون الحرب والسلام) في عام 1629 ميلادية، في وقت كانت تشهد فيه أوروبا فترة من الاضطرابات عُرفت باسم حرب الثلاثين عاما، حيث كانت الدول الكاثوليكية والبروتستانتية تحارب بعضها البعض بشراسة. في هذا العمل وصف غروتيوس النظام السياسي بأنه مجتمع دولي متعاضد وقام باستكشاف مفهوم الدفاع عن النفس باعتباره استخدامًا قانونيًا للقوة، على المستوى الشخصي كما على مستوى الدول. أكسبته هذه الدراسات لقب "أب القانون الدولي". لكن الأهم من ذلك هو أن غروتيوس قدّم توصيات أظهرت قدرا كبيرا من التسامح بالنظر للمناخ السياسي في زمنه. إحدى هذه التوصيات هي أن الحرب التي تشنّ ضد الآخرين لمجرد أن لديهم تفسيرا مختلفا للمسيحية هي حرب غير مبرّرة. شهدت نهاية حرب الثلاثين عاما في عام 1648 تبني هذه التوصية وغيرها في ما أصبح يعرف باسم "سلام ويستفاليا" ، والذي تحولت فيه الكثير من الدول في أوروبا من مجموعة من الدول الهرمية التابعة عموديا لسلطة البابا والإمبراطور، إلى دول ذات تنظيم ندّي أفقي وسيادة متكافئة. كما غيّر هذا من طبيعة الحروب في أوروبا التي أصبحت بعدها حروبا "علمانية".
يمكن القول إن هذا لا ينطبق فقط على العهود بين المواطنين العاديين، بل أيضًا على النظام الدولي والمعاهدات بين الدول. هنا يتم الحفاظ على "قوة السيف" من خلال الردع وميزان القوى -فما يمنع الدول من الذهاب إلى الحرب هو الخوف من العواقب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لا أخلاقها. بمنطق هوبز نفسه، إذا قررت دولة ذات سيادة أن الدخول في حرب ضد دولة أخرى هو في مصلحتها، فستكون الحرب مبرّرة لدى هذه الدولة.
قد يشير المتشائمون بيننا إلى أن الحال كانت دائمًا كذلك. فخلال فترة حرب الثلاثين عاما، على سبيل المثال، كانت المصلحة الذاتية السياسية تبرّر الكثير من تلك الحروب، على الرغم من الغطاء الديني لها. ومع ذلك، فإن هوبز أبرز مفهوم "المصلحة الذاتية" بشكل أكثر وضوحا ، وقدم وجهة نظر بديلة لرؤية غروتيوس "للمجتمع الدولي الطبيعي". من غير المفاجئ إذن أنه في حين يعتبر غروتيوس أب القانون الدولي ، فان هوبز يعتبر أب المدرسة الفكرية "الواقعية" في العلاقات الدولية.
القانون الطبيعي الذي يشير إليه هوبز في الاقتباس أعلاه ، أي " مُعاملة الآخرين المُعاملة نفسها التي نرتقبها منهم"، له أهمية خاصة. فالمجتمع الدولي المتعاضد لدى غروتيوس يكتسب بعض التماسك من هذا المبدأ، المعروف باسم "المعاملة بالمثل" في المجال القانوني الدولي. والتقليد العريق باحترام سفراء وممثلي دولة أخرى ، حتى لو كانوا من قوة معادية ، ينبثق من هذا الإرث. من ناحية أخرى ، فإن مقولة هوبز أن الخوف من السيف وتوازن القوى هو القوة الدافعة للسلوك السياسي هي أيضا مقولة صحيحة. بالنظر إلى الطبيعة الهشّة لهذا التوازن ، وبالنظر إلى أن مصالح الدولة خاضعة للتفسير من قبل حكامها بحسب ما يناسبهم، فإن الحروب هي دائما ظاهرة لا مفر منها.
نشبت معركة سولفرينو بين الإمبراطورية النمساوية وقوات فرنسية ومحلية في شمال إيطاليا. وقد وصفت بأنها معركة مليئة "بقصر النظر الكارثي والارتجال والإهمال". وقد أدت إلى مقتل 6000 شخص وجرح حوالي 40000 شخص بعد أن اشتبك الجيشان تحت وابل من نيران المدفعية. لم تحتمل الطواقم الطبية على كلا الجانبين عدد الجرحى الهائل، وظهر الإهمال الكارثي لفوج الإمدادات عندما قام بمصادرة وسائل النقل من الطاقم الطبي لنقل الذخيرة بدلا من المصابين! على الرغم من أن القتال قد استمر 15 ساعة فقط، فقد استغرق الأمر ستة أيام لاخلاء عشرات الآلاف من الجرحى، معظمهم نقلتهم عربات الفلاحين إلى القرى المجاورة على أمل أن يحصلوا على بعض الطعام والماء.
وصل هنري دونانت إلى قرية كاستيليوني القريبة من الموقعة في الرابع والعشرين من يونيو عام 1859 ، وكان في البدء قد قدم للقاء الإمبراطور نابليون الثالث. بدلاً من ذلك وجد فيضا من المعاناة الهائلة التي لم يكن أحد يعمل لوقفها؛ وهكذا أخذ على عاتقه تعبئة المتطوعين – ومعظمهم من النساء والفتيات المحليات – لتوفير الرعاية التي يمكن توفيرها للمصابين. وقد أرسل سائقه لشراء الإمدادات من مدينة بريشيا، مثل القماش والمواد اللازمة للضمادات. كما شجع المتطوعين على التعاطف مع النمساويين الجرحى والاهتمام بهم بنفس القدر على الرغم من كونهم من صفوف العدو، ووضع ترتيبات للإفراج عن الأطباء النمساويين حتى يتمكنوا من إسعاف الجرحى. نشر لاحقا شهادته عن ما حدث في الأسبوعين التاليين في كتابه، "ذكريات من سولفرينو". أدت شهادته وعمله اللاحق إلى تشكيل اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863.
من الناحية الفلسفية ، يتساءل كتاب دونانت كيف يمكن لدولة ما أن تهمل لهذه الدرجة جنودها بمجرد أن يصبحوا "بلا فائدة"، ودافع عن أهمية احترام المبادئ عند خوض الحروب. كما شدد دونانت على فكرة منع المعاناة التي لا مبرّر لها. بالنسبة إلى هنري دونانت ، فإن الجندي هو موظفا لدى الدولة، يؤدّي واجباً تفرضه تلك الدولة، وعندما يصاب ذلك الجندي إلى درجة أنه لا يعد قادراً على الوفاء بهذا الواجب، فإنه يفقد صفته كرتيب لدى دولته. بمعنى آخر لا توجد أي مصلحة في قتله أو تشويهه أو تعذيبه بعدها. ففي حين أن الحرب قد تكون غير قابلة للمنع، فإنه يجب الحدّ من المعاناة فيها وتقييدها.
إن طريقة التفكير هذه هي أصل مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف غير العسكرية. إن هذه القاعدة كانت موجودة أصلا في التقاليد الحربية المسيحية والإسلامية، وشهدها التاريخ مع حركة السلام في القرن العاشر في فرنسا، وإعلان سانت بطرسبورغ، والأحكام الإسلامية السنيّة بشكل عام. إلا أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر جددت هذا المبدأ وكرّست فكرة التمييز بين العسكريين وغير العسكريين في سياق أكثر حداثة وعالمية وترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الآن أنها مبدأ أساسي وثابت.
تنظر فلسفة الحرب هذه إلى الدولة على أنها كيان غير ملموس يتألف من عملاء يحققون مصالحها على كل المستويات، من الجنود إلى الموظفين المدنيين والمشرّعين. لكن بالنظر إلى أن مفهوم الدولة كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بفلسفات الحرب، فإن حروب النصف الثاني من القرن العشرين قد خلقت تحديات جديدة.
بعده الحرب العالمية الثانية، ظهرت في العالم الجديد الذي نشأ بعد مرحلة إنهاء الاستعمار، مفاهيم مثل التحرير الوطني، ومعاهدات حقوق الإنسان ، ومبدأ تقرير المصير السيادي للدول. في هذا العالم، ظهر نوع جديد من الكيانات في المجال الدولي – ألا وهي الجهات الفاعلة غير التابعة لدول Non-state actors. هذه المنظمات تشبه الدول ، لكنها ليست بدول. وشكّلت هذه الكيانات فرصة مثالية للدول لخوض حروب بالوكالة، حيث لا تحارب أي دولة أخرى مباشرة.
لفترة طويلة ، ارتبط مفهوم الحرب بشكل وثيق بمفهوم الدولة، لكن الارتباط هذا خفّ بعد أن أصبحت الجهات الفاعلة غير التابعة لدول جزءًا مهمًا من عالم الحرب. فدخلت مصطلحات مثل "الإرهاب" و"المناضل من أجل الحرية" المعجم العالمي وقد لا يكتمل أي نقاش حول الحرب دون ذكر "الحرب على الإرهاب". يتمثّل التحدي هنا في تطوير فلسفة حرب جديدة لا تقتصر على ممارسات وحقوق الجنود النظاميين فحسب، بل تشمل أيضا ما يسمّى بالإرهابيين أو المقاتلين من أجل الحرية. وقد أطلق الباحث القانوني الدولي الراحل أنطونيو كاسيسي على ذلك اسم "مسألة المقاتلين من أجل الحرية" (انظر كتابه حول القانون الجنائي الدولي ، 2013 ، الطبعة الثالثة ، وخاصة الفصل 8 المتعلق بالإرهاب). فهل يختلف الإرهابيون أو "المقاتلون من الجهات الفاعلة غير التابعة لدول" عن جنود الجيش النظاميين؟ لو كانوا فعلا كذلك، فكيف و لماذا؟ هل يجب أن نقوم بتعطيل مبادئ حقوق الإنسان في مواجهة مثل هذا العدو، من أجل حماية الأمن القومي؟ أم هل قد يؤدي ذلك الى مفاقمة المشكلة؟ هذه هي الأسئلة التي نواجهها اليوم. بالفعل فلقد قام كاسيسي ببحث كيف يستخدم مصطلح ‘الإرهاب’ أحيانًا بطريقة استغلالية تعكس فقط مصالح الدولة وإن كان ذلك لا يعني أن الإرهاب ليس تهديدًا حقيقيًا أو ظاهرة حقيقية.
إن الصراع في سوريا هو مثال جيّد عن عالم الحروب الجديدة. فلقد اختبرت هذه الحرب بشكل عميق أخلاقيات المقاتلين والمراقبين والمعلقين السياسيين على حدّ سواء في خضم الاتهامات حول انتهاكات حقوق الإنسان، وتجنيد الأطفال، والحرب بالوكالة، وفيما تحاصر سوريا من قبل طاغية مستبد لا يرحم؛ ومتمرّدين بعضهم لديهم معتقدات مخيفة ورعاة إقليميين ذو دوافع مريبة. بحسب سردية الأول، فالطاغية يقاوم الإمبريالية العالمية والحرب بالوكالة من قبل "الغرب المنافق" فيما يقول المتمردون أنهم يحاربون "الطغيان" و "الاستبداد".
على الرغم من أنه نادرا ما قام الجنود أو السياسيون في التاريخ باحترام قوانين الحرب، يمكننا أن نقرّ أن هذه القوانين قد تشكلت بمرور الوقت إما لمصلحة الدول أو لأن هناك بالفعل مجتمع دولي لديه نوع من الضمير. هذه القوانين والاتفاقيات كما هي موجودة في وثائق مثل اتفاقية جنيف هي بالتالي إرث قانوني مهم للعالم ونأمل أن نكون قادرين على مواجهة التحدي الفلسفي الناشئ عن المفاهيم الجديدة للحرب دون خيانة هذا الإرث.
____________________________________________________
مترجم عن (فيلوسوفي ناو)