شعار قسم ميدان

بين أنقرة وطهران.. هل يمكن للغريمين تجنب المواجهة؟

midan - Iran
اضغط للاستماع
    

كانت تلك بداية ساخنة لعام 2013 بكل المقاييس، على الأقل بالنسبة لرجال الجمارك الأتراك، من اضطرهم الروتين لقضاء صبيحة اليوم الأول من العام الجديد في عملهم التقليدي، حيث كانوا مطالبين بتفتيش طائرة شحن قادمة من العاصمة الغانية "أكرا" -في طريقها إلى ميناء دبي- اضطرت للتوقف بشكل مفاجئ في إسطنبول بسبب الضباب، إلا أن أحدا لم يدرك في ذلك التوقيت أن التفتيش الروتيني سيستدعي متوالية طويلة من أحداث ساخنة ستظل أصداؤها تتردد بعد ذلك لأعوام عديدة.

     

كانت حمولة(1) الطائرة الغانية مفاجأة للجميع: ثلاثة آلاف رطل (نحو طن ونصف) من القضبان الذهبية تم تحميلها في أكرا متوجهة إلى دبي، لكن المفاجأة الأكبر كانت هي اسم المشتري الرئيس للشحنة الذي اكتُشف لاحقا، وهو رجل أعمال تركي الجنسية من أصول إيرانية يتمتع بصلات قريبة من الحكومة التركية ويدعى "رضا ضراب". أما الزلزال الذي هز الأوساط السياسية التركية كان الكشف عن قائمة الوسطاء الحكوميين الذين سهلوا مهمة ضراب، قائمة شملت وزير الاقتصاد "ظافر تشاغليان"، وعشرات من البيروقراطيين والمصرفيين البارزين في البلاد، وفي مقدمتهم الرئيس التنفيذي لأحد أكبر البنوك الحكومية التركية، من وجدت الشرطة التركية في منزله عبوات أحذية محشوة بمبلغ تخطى 4.5 مليون دولار.

  

لم يكن اسم "رضا ضراب" نفسه بعيدا عن الأضواء في تركيا على كل حال، حيث كان عشرون منزلا فخما وسبعة يخوت فارهة وطائرة خاصة، وعلاقة زواج تجمعه مع أكبر نجمات البوب ​​التركي، وصفحات طويلة سابقة من العلاقات الغرامية المثيرة، وبعض أغنيات البوب واسعة الانتشار التي كتبها بنفسه، كان كل ذلك كفيلا بوضع اسمه بين العناوين المثيرة لمجلات الفن والمال وحتى كبريات الصحف الصفراء في البلاد، لكن الصفقة الذهبية كانت كافية لنقل ضراب من صفحات الفن والمال إلى صفحات السياسة وربما كعنوان رئيس في قفزة واحدة.

      

رجل الأعمال التركي
رجل الأعمال التركي "رضا ضراب"  (غيتي)

  

لم يكن رجل الأعمال الشاب مجرد تاجر ذهب عادي واسع الثراء يتمتع بنفوذ حكومي، ولكن كما كشفت التحقيقات في وقت لاحق، كان ضراب يدير شبكة تهريب منظمة استغلت البنية التحتية للقطاع المالي وقطاع الشحن التركيين من أجل تحقيق الأرباح، ملتفّين على أكثر قضايا السياسة الدولية سخونة على الإطلاق وهي العقوبات الدولية المفروضة على إيران، حيث تلخّصت مهمة ضراب في مساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات من خلال استخدام الأموال المجمدة في الحسابات الإيرانية في البنوك التركية، والتي دفعتها الحكومة مقابل الغاز الإيراني، لشراء كميات كبيرة من الذهب وإعادة دفعها إلى طهران، عبر دبي في معظم الأحوال، بهدف دفع العملة الإيرانية والاقتصاد المنهار بفعل العقوبات، والحصول على عمولات سخية في المقابل.

    

خضع ضراب للتحقيق لفترة قصيرة في تركيا، ولكن قضيته سرعان ما تم إغلاقها وسط مزاعم بتدخل حكومي. إلا أن القضية تفجرت من جديد مطلع عام 2016 ولكن هذه المرة في الولايات المتحدة، حين أقدم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي على اعتقال "ضراب" أُثناء زيارته لقضاء إحدى العطلات هناك. ورغم بذل ضراب لجهود ضخمة وغير تقليدية، شملت استئجار 16 محاميا من أكبر وكلاء القانون في الولايات المتحدة، بمن في ذلك اثنان من المقربين من ترمب هما عمدة نيويورك السابق، والمدعي العام السابق "مايكل موكاسي"، من حاول عقد صفقة للإفراج عن "ضراب" عبر تبادل السجناء، إلا أن كل تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح، قبل أن يختفي "ضراب" تماما عن قاعدة بيانات المسجونين الأميركيين وتتم التعمية على مكانه بالكلية، وعنى ذلك قبوله التعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي وإدراجه في برنامج حماية الشهود.

  

أثار اختفاء ضراب حفيظة(2) المسؤولين الأتراك بشكل كبير، دافعا الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى اتهام الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على رجل الأعمال التركي للإدلاء بشهادة يمكن أن تدين الحكومة، وهو ما وقع بالفعل في وقت لاحق، وتحديدا في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين عاد "ضراب" للظهور من جديد للإدلاء بشهادته أمام المحققين، شهادة اعترف فيها بإدارته لشبكة كاملة للالتفاف على العقوبات الإيرانية، بالتعاون مع بعض المصارف التركية، زاعما حصوله على ضوء أخضر وتسهيلات من الحكومة ومن "أردوغان" شخصيا حين كان رئيسا للوزراء.

  

تبدأ(3) الدائرة بتحويل أموال النفط والغاز إلى حساب مملوك لشركة النفط الوطنية الإيرانية في بنك خلق التركي (Halk bank)، ولكن بسبب العقوبات المفروضة على إيران، فإن طهران لا تستطيع سحب أي من هذه الأموال التي يقوم البنك بتحويلها داخليا إلى حساب مملوك لشركة "سورينت"، وهي شركة يديرها ضراب حيث يستخدم هذه الأموال لشراء الذهب وشحنه إلى دبي. وفي دبي تتولى إحدى شركاته مسؤولية بيع الذهب بالدرهم، ثم تحويل الأموال إلى شركة "رستماني" للصرافة التي تقوم بدورها بضخه للكيانات التي تحددها إيران.

 

تُسلّط قضية ضراب وهويته أيضا الكثير من الأضواء على طبيعة العلاقات التي تربط بين أنقرة وطهران، تلك العلاقة التي يمكن أن ينطبق عليها وصف
تُسلّط قضية ضراب وهويته أيضا الكثير من الأضواء على طبيعة العلاقات التي تربط بين أنقرة وطهران، تلك العلاقة التي يمكن أن ينطبق عليها وصف "العلاقة المعقدة"
      

لم يقتصر(4) نشاط شبكة ضراب على الأموال الإيرانية المحتجزة في تركيا فحسب، لكنه وضع مخططات مماثلة للوصول إلى أموال إيران في بلدان أخرى، بما في ذلك الصين والهند وإيطاليا بدرجات متفاوتة من النجاح. وفي ذروة عمليته، يدّعي ضراب استخدامه لما يصل إلى 15 ساعيا في اليوم لنقل أكثر من ألف رطل من الذهب. وفي وقت لاحق حين مدّت الولايات المتحدة دائرة العقوبات لتشمل تصدير الذهب، فإن ضراب قام بإخفاء تدفقاته في صورة شحنات غذائية إنسانية وهمية. وفي نهاية المطاف كان ضراب قادرا على تحويل ما يقرب من 13 مليار دولار من أموال النفط الإيراني من خلال الذهب، وفق تقدير(5) مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي إحدى أبرز المؤسسات البحثية المناهضة لإيران في واشنطن العاصمة.

  

تُسلّط قضية ضراب وهويته أيضا الكثير من الأضواء على طبيعة العلاقات التي تربط بين أنقرة وطهران، تلك العلاقة التي يمكن أن ينطبق عليها وصف "العلاقة المعقدة" كأكثر ما ينطبق على علاقة بين دولتين ظلّتا عبر قرون متنافستين تاريخيتين ومتحاربتين لأوقات طويلة، مع تشابكات إثنية وعرقية وجيوسياسية تعلّم الطرفان بالتجربة المريرة أنها يجب أن تمنعهما دوما من الوصول إلى حافة الهاوية، حيث تعود أصول ضراب إلى فئة الآذريين الأتراك الذين يمثلون 25% تقريبا من سكان إيران ويتحدثون لغة أقرب ما تكون إلى التركية. وكنجل لقطب حديد إيراني، انتقل ضراب إلى تركيا وهو طفل صغير، وبدأ في تأسيس العديد من الشركات في سن المراهقة، وتركز نشاطه في تحويل العملات وتجارة الذهب، قبل أن يحصل على الجنسية التركية في نهاية المطاف عام 2005، حيث وضعته أنشطته في دائرة رجال الأعمال المقربين من دوائر الحكم في البلاد.

        

في ذلك التوقيت كان محمود أحمدي نجاد قد وصل إلى رئاسة إيران، وكان والد ضراب يعمل كمستشار له حول العقوبات الدولية التي انهالت على البلاد بسبب برنامجها النووي والصاروخي، ما فتح الباب أمام الكثير من العمل المربح لنجله. في ذلك التوقيت كانت التجارة بين تركيا وإيران تنمو باضطراد وصولا إلى 21 مليار دولار في عام 2012 من بداية متواضعة تقدر بمليار دولار فقط في عام 2000، وهو نمو اقتصادي سار مستقرا خلف موجات الشد والجذب السياسي التقليدية بين الغريمين، خاصة مع صعود الملف السوري للواجهة، إلا أن ذلك لم يمنع تركيا من الوقوف كبوابة شرعية وحيدة تقريبا للاقتصاد الإيراني المحاصر، فضلا عن عملها كباحة خلفية للتغلب على العقوبات، سواء كان ذلك بتسهيل من الحكومة التركية، أو حتى بالقليل من التغاضي الذي ربما تدفع أنقرة ثمنا سياسيا باهظا له في وقت لاحق.

    

الألعاب الإيرانية

undefined

  

لدى تركيا جغرافيا سياسية مميزة ومعقدة في آن واحد، حيث ترتبط(6) بعلاقات جغرافية مع 12 دولة مجاورة موزعة، مقسمة على مجموعات تضم كل واحدة منها ثلاث دول: ففي الشرق الأوسط هناك إيران والعراق وسوريا، وفي القوقاز تقع أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، أما في أوروبا فتوجد قبرص واليونان وبلغاريا، إضافة إلى دول أخرى ساحلية على البحر الأسود هي روسيا ورومانيا وأوكرانيا، يتعيّن عليها المرور عبر المضائق التركية للنفاذ إلى المياه الدولية.

   

وطوال ستة قرون من الحكم العثماني (1299-1923)، تمكن الأتراك من هزيمة جميع جيرانهم وحكمهم، باستثناء بلدين فقط هما روسيا وإيران، حيث لم ينجح الأتراك في فرض حكمهم سوى على مساحات ضئيلة من الأراضي الفارسية لفترات قليلة، وقد انعكس ذلك مستقبلا على رؤية السياسة التركية التي طالما أخذت إيران على محمل الجد خاصة بعد 166 عاما من حروب التدمير المتبادل -بدوافع جيوسياسية وأيديولوجية- بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية، حروب امتدت بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر انتهت بإفلاس الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، قبل أن تصلا إلى تعادل تاريخي للقوى مع اتفاق ضمني تعلمتاه من درس التاريخ القاسي والدموي، وهو أن عليهما أن يتجنبا الاقتتال معا مهما طال الزمن.

    

ساهم انهيار الدولة العثمانية في وقت لاحق وتأسيس الجمهورية العلمانية الأتاتوركية في تخفيف حدة الصراع الجيوسياسي بين إيران وتركيا، ودفع البلدين إلى التقارب خاصة مع ذلك الإعجاب الذي لم يخفه شاه إيران رضا بهلوي بخطة التحديث الكمالية، حيث عمّق البلدان العلاقات الاقتصادية بينهما ووقعا(7) معاهدة صداقة أنهت الحروب الطويلة بينهما، ونصت على التعاون في مواجهة الأخطار الأمنية، كما اتفقا على معاهدة نهائية لترسيم الحدود، ودخلا معا في تحالف أمني إقليمي لمحاربة الشيوعية وهو حلف بغداد الذي تم تأسيسه برعاية الولايات المتحدة.

 

ولكن خطة التحديث الكمالي أثبتت في وقت لاحق أنها لم تكن ناجعة في إيران، حيث أنتجت في نهاية المطاف ردة فعل عكسية تسببت في قيام "الثورة الإسلامية" عام 1979، وهي ثورة سببت تراجعا كبيرا في العلاقات الإيرانية التركية لأسباب أيديولوجية في المقام الأول، حيث رأى النظام الإسلامي في إيران الأيديولوجية العلمانية التركية بوصفها تهديدا لعمقه الأيديولوجي، كما أن عقيدة تصدير الثورة التي انتهجتها إيران تسببت في إثارة قلق النخبة العسكرية في تركيا، وكانت أحد الأسباب التي دفعت إلى الانقلاب الذي قاده الجنرال "كنعان إيفرين" في تركيا عام 1980.

       

  

على الرغم من تلك التطورات الساخنة، حرصت تركيا وإيران على التزام درس التاريخ القاسي، وتجنبتا الدخول في أي شكل من أشكال المواجهة أو التجاذب مع بعضهما البعض، وفرضت تركيا على نفسها حيادا تاما خلال حرب ثماني السنوات الطويلة بين العراق وإيران، حياد لم يمنعها من السماح بمرور البضائع الإيرانية عبر الحدود التركية طوال سنوات الحرب. غير أن بوادر حسن النية التي أبدتها أنقرة لم تمنع إيران لاحقا من العمل على زعزعة استقرار تركيا، من خلال تقديم الدعم(8) لحزب العمال الكردستاني الماركسي بهدف تقويض النظام العسكري العلماني في تركيا، متجاهلة مخاوفها الخاصة من الأكراد، حتى إنها سمحت لـ "عبد الله أوجلان" بافتتاح مكتب لحزبه في طهران عام 1989، موفرة الملاذ له ولحزبه بعد ضغوط مارستها أنقرة على سوريا لتحجيم نشاط الحزب، قبل أن تسمح طهران للحزب في العام التالي بإنشاء 20 قاعدة لضرب الأهداف والمراكز السكانية عبر الحدود الإيرانية مع تركيا.

    

وقد تسبب اللعب الإيراني بالبطاقة الكردية والحرب بالوكالة مع تركيا في تغذية وقود الحرب الأهلية في كردستان العراق في نهاية المطاف، حيث قدمت كل من تركيا وإيران الدعم لأحد الطرفين المتحاربين. وحتى بعد انتهاء الحرب وتوقيع الاتحاد الوطني الكردستاني المدعوم من طهران والحزب الديمقراطي الكردستاني المدعوم من أنقرة على اتفاق سلام، فإن طهران واصلت دعمها لحزب العمال، ما تسبب في اندلاع القتال بين الاتحاد الوطني الكردستاني الحاكم وحزب العمال الكردستاني في منطقة قنديل شمال شرق العراق، بعد استيلاء الحزب على 50 قرية بمساعدة إيران، وفي المقابل تدخلت تركيا وقدمت الدعم السياسي والعسكري لخصمها السابق الاتحاد الوطني الكردستاني، في الوقت الذي استمر فيه الحرس الثوري في توفير الطعام والذخيرة لما يقرب من ثلاثة آلاف مقاتل من حزب العمال الكردستاني الذين تقطعت بهم السبل في المرتفعات إبان الحرب.

 

كان صعود حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا إيذانا بتحول في دفة العلاقات بين البلدين. في بادئ الأمر، نظرت طهران إلى صعود الحزب الإسلامي في تركيا بارتياح كبير(9)، حيث أمّلت أن تتجه الحكومة الجديدة اتجاها أقرب إلى طهران، وجادل المعلقون الإيرانيون بأن هدف أردوغان كان "الوصول إلى جمهورية إسلامية"، حتى لو تم تحقيقها من خلال الانتخابات بدلا من الثورة حد قولهم. وفي الوقت نفسه، نظرت إيران إلى العلاقة الخاصة لتركيا الجديدة مع الغرب ليس كتهديد، ولكن كأداة محتملة للحد من عزلة طهران وحماية مصالحها.

 

كان موقف أنقرة المرحب تجاه أردوغان مدفوعا(10) بنتائج تلك التجربة القصيرة لحكم أستاذه الروحي ورئيس الوزراء الأسبق "نجم الدين أربكان" عام 1996، من اختار طهران وقتها محطة أولى لسياسته الخارجية، موقعا على اتفاق لاستيراد الغاز بقيمة 23 مليار دولار لمدة 25 عاما، وهو ما أغضب النخبة العسكرية العلمانية في تركيا، وكان أحد الأسباب التي دفعتها إلى إزاحة أربكان سريعا عبر انقلاب أبيض في العام التالي. غير أن تجربة أربكان القصيرة انطبعت في أذهان النخبة الحاكمة في إيران، وهو ما جعلها ربما تُعلّق آمالا كبيرة على صعود أردوغان الذي استخدم الإعلام الإيراني لغة خطاب ودودة في الحديث عنه، خاصة بعد موقفه الشهير المدافع عن قطاع غزة وإهانته للرئيس الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز أثناء منتدى دافوس الاقتصادي مطلع عام 2009. وفي لقائه اللاحق مع أردوغان، أشاد المرشد الأعلى الإيراني "آية الله علي خامنئي" بموقف تركيا من القضية الفلسطينية وتصعيدها الأخير ضد إسرائيل، مشيرا إلى أنه "يزيد من شعبية تركيا في العالم الإسلامي".

   

صورة تجمع رجب طيب أردوغان مع رئيس الوزراء السابق 
صورة تجمع رجب طيب أردوغان مع رئيس الوزراء السابق "نجم الدين أربكان"
  

لفترة طويلة، سببت العلاقات الأمنية والاستخباراتية بين تركيا وإسرائيل صداعا في رأس "الجمهورية الإسلامية"، وكان ذلك بسبب سوريا أحيانا، حيث ظلت إيران تخشى(11) من أن أي تقارب بين تركيا وإسرائيل من شأنه أن يضع نظام الأسد في موقف حساس، كما شعرت إيران بالقلق من إمكانية أن تقوم إسرائيل باستخدام المجال الجوي التركي من أجل توجيه ضربة لإيران. لذلك فإنها شعرت بالكثير من الارتياح لتدهور العلاقات بين تركيا وإسرائيل، مع زوال إمكانية استخدام أنقرة كوسيط لتهديد الأمن الإيراني.

   

غير أن ذلك الارتياح الإيراني لم يكن كاملا على أي حال، وسرعان ما بدأ المشهد في التحول دافعا البلدين إلى مواقعهما التقليدية التاريخية، بعدما اتضح أن تركيا الجديدة تحولت هي الأخرى إلى منافس إقليمي أكثر خطورة لطهران، بعد أن طورت أنقرة أنموذجها الجديد للقوة الناعمة المتمثل في سياستها الإسلامية المعتدلة التي أصبحت أكثر شعبية من نهج إيران المتشدد.

  

وحتى مواقف تركيا الداعمة للقضية الفلسطينية صار يُنظر إليها في طهران من عدسة التنافس الجيوسياسي، فعلى سبيل المثال، بعد اعتداء الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية المدعوم من تركيا في مايو/أيار عام 2010، حرصت طهران على إظهار دعمها للفلسطينيين، ولكنها التزمت الصمت تقريبا حول الدور القيادي التركي في تلك الجولة، وبدلا من ذلك، عبرت وسائل الإعلام الإيرانية والمسؤولون عن مخاوفهم من أن دور إيران في الحادث لم يكن بارزا. وحرصا على تدارك الأمر، أعلنت بعض المنظمات الحكومية أن إيران سترسل قريبا سفنها الإنسانية إلى غزة، حتى إن جمعية الهلال الأحمر الإيراني حددت موعد المغادرة، لكن السفن لم تنطلق أبدا، حيث لم تكن طهران تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.

   

الأحجية السورية

في خلفية تلك الموجات المتصاعدة من الشد والجذب، كانت حرب العراق تلعب هي الأخرى دورها في رسم إطار آخر للعلاقة بين الغريمين بهدوء في خلفية المشهد. جاءت الحرب متزامنة تقريبا مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وعودة التفاعلات المباشرة بين طهران وأنقرة، حيث لعب النفوذ القوي الذي حازه الأكراد في عراق ما بعد الاحتلال كقوة دافعة لطهران وأنقرة لتعزيز علاقة أمنية واستخباراتية، علاقة تمحورت حول مواجهة حزب العمال الكردستاني في المقام الأول، بعد أن ذاقت إيران من كأس التمرد الكردي -الذي أذاقت منه أنقرة مرارا وتكرارا- في صورة التمرد المتنامي لحزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني، إلا أن الحرب في وجهها الآخر أسهمت في تبديل موازين القوى الميدانية في بغداد لصالح طهران بشكل واضح، وجددت الكثير من المخاوف القديمة للأتراك.

    

مقاتلات من حزب
مقاتلات من حزب "الحياة الحرة" الكردستاني (غيتي إيميجز)

   

قوض الاحتلال الأميركي الدولة العراقية التي عملت لفترة طويلة كموازن إقليمي للثقل الإيراني، وفتحت الحدود أمام إيران من جديد لتفعيل طموحاتهما القديمة لاكتساب النفوذ الإقليمي، بداية من النفوذ الديني المتمثل في استعادة إيران لدورها القديم كمهيمنة على الأماكن المقدسة الشيعية في العراق، وصولا إلى النفوذ السياسي الذي مارسته طهران على القوى الشيعية والكردية في البلاد، في مقابل خيارات محدودة للنفوذ التركي متمثلة في التركمان، أو الأحزاب السنية العراقية التي اقتسمت تركيا النفوذ عليها مع دول الخليج العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ومع سيطرة الأحزاب الشيعية على العراق، والقوة الناعمة التي اكتسبها حزب الله في لبنان بعد انتصاره على إسرائيل في حرب عام 2006، وسيطرة حركة حماس السنية المدعومة من إيران على قطاع غزة، فقد بدى للوهلة الأولى أن شرق المتوسط في طريقه لارتداء العمامة الإيرانية تدريجيا، مع قليل من التشغيب التركي الذي يقطع مشهدا إيرانيا صافيا بين الحين والآخر.

 

ثم جاء الربيع العربي، الذي كانت تسميته خاطئة بحسب إيران التي رأته "ربيعا إسلاميا" وليس ربيعا عربيا. وبالنسبة لخامنئي كان الربيع العربي هو في الواقع "صحوة إسلامية" متأخرة أثمرتها البذور النابضة التي زرعتها الثورة الإيرانية قبل ثلاثة عقود. أما بالنسبة لتركيا، فقد كان الربيع العربي توقا إلى الديمقراطية وأنظمة حكم أكثر تمثيلية، ورأت أنقرة في هذا التحول فرصة كامنة لتعزيز قوة تركيا الناعمة من خلال تصدير نموذجها السياسي.

   

بدا أن تركيا، وليس إيران، هي التي قرأت المشهد بعناية للوهلة الأولى، وقد راقبت طهران جولات أردوغان المكوكية في دول الربيع العربي ودفاعه عن التفسيرات العلمانية للإسلام، ما أطلق أجراس الإنذار في طهران، حيث انبرت المؤسسات الدينية والسياسية الإيرانية لمهاجمة التفسيرات التركية الإسلامية واصفة إياها كونها "خروجا عن تعاليم الإسلام الصحيح"، مع حرب باردة جديدة تلوح في الأفق بين النموذج "الثوري الإيراني" والنموذج "العلماني الديمقراطي" الذي تتبناه تركيا.

 

لكن ما دفع الصبر الإيراني إلى حافته حقا كان التحول التركي إلى سوريا تزامنا مع وصول الربيع العربي إلى أعتابها، وانقلاب رئيس الوزراء التركي أردوغان من كونه صديقا جيدا سابقا لبشار الأسد إلى غريم له، يخيّره بين الإصلاح أو الإطاحة به في وقت قريب، في وقت فتحت فيه أنقرة أبوابها لاستضافة المعارضين السياسيين للأسد وحتى تقديم الدعم المالي والعسكري للفصائل المقاتلة ضده، في وقت لم تكن فيه الهزيمة في سوريا أحد السيناريوهات المقبولة لطهران، التي طالما اعتبرت دمشق ظهيرا سياسيا في منطقة متخمة تاريخيا بالخصوم والأعداء.

   

مجموعة من مقاتلي الجيش الحر (رويترز)
مجموعة من مقاتلي الجيش الحر (رويترز)

   

يعود التحالف الإستراتيجي بين إيران وسوريا في صورته الحالية إلى بدايات "الثورة الإسلامية" عام 1979، حيث كان الرئيس السوري حافظ الأسد هو أول رئيس عربي يعترف بالنظام الجديد في إيران، اعتراف كان إيذانا بالنهاية الرسمية للتحالف الإستراتيجي القومي بين مصر وسوريا إثر توقيع مصر لاتفاقية سلام مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، مثّل التحالف مع سوريا فرصة للخميني لمد نفوذه عبر سوريا وصولا إلى الطائفة الشيعية في لبنان، رغم أن الخميني ورجال الدين الإيرانيين لم يروا أبدا حافظ الأسد وأنصاره العلويين "مؤمنين حقيقيين".

 

ورغم ذلك الخلاف الجوهري بين طبيعة النظام الديني الإسلامي الحاكم في إيران والنظام العلماني في سوريا، فإن ذلك لم يمنع نشوء تحالف إستراتيجي بينهما توطد إبان الحرب العراقية الإيرانية، حيث كانت سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي قدم دعما غير مشروط لإيران خلال تلك الحرب، واستمر التحالف صامدا بعدها رغم دخول البلدين في عدة مناوشات، خاصة خلال حرب الأشقاء في لبنان، والتي شهدت اقتتالا بين حركة أمل المؤيدة من سوريا وحزب الله المؤيد من إيران.

   

كان وصول الربيع العربي إلى سوريا إيذانا بنهاية مفاجئة للتفاؤل الإيراني حول ثورات العرب، حيث ألقت إيران بثقلها السياسي والعسكري مبكرا لدعم حليفها بشار الأسد في سوريا، ما تسبب في خسارة إيران لكثير من رأس مالها الرمزي وشعبيتها في البلدان العربية، في مقابل تحسن ملحوظ في صورة تركيا ورئيس وزرائها أردوغان، وخاصة في مصر التي راهنت عليها تركيا لتشكيل محور إقليمي جديد.

 

غير أن الانتكاسة المفاجئة في مسار الربيع العربي مع الانقلاب العسكري في مصر منتصف عام 2013، والتعامل العنيف لقوات الأمن التركية مع المحتجين على تغيير تصميم حديقة "غيزي" المجاورة لميدان تقسيم في إسطنبول، وما تلا ذلك من نهج تركي داخلي بدأ يتشبه(12) بالعرب، قد أسهم بدوره في تراجع جاذبية النموذج التركي، في وقت كانت إيران قد حسمت فيه أمرها باللجوء إلى القوة الخشنة، حيث دفعت ميليشياتها العسكرية إلى سوريا لخوض المعارك على الأرض، وتعزيز المواقف الميدانية للنظام في مواجهة سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة.

   

شرطة مكافحة الشغب تقوم بتفريق المتظاهرين في ساحة تقسيم (رويترز)
شرطة مكافحة الشغب تقوم بتفريق المتظاهرين في ساحة تقسيم (رويترز)

  

بدورها كانت الثورة السورية حدثا فارقا(16) بالنسبة لتركيا، ليس فقط بسبب مشروع أنقرة الخاص للربيع العربي، ولكن لأسباب جيوسياسية في المقام الأول أيضا، حيث يشترك البلَدان في حدود جغرافية طويلة ذات إرث عميق من الاضطراب والقلق، إرث يعود تاريخه إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وترسيم الحدود عام 1923، وهو ترسيم خطّ رسما حدوديا قسّم أراضي طالما رُعيت بشكل مشترك من قِبل الأتراك والسوريين. فقبل قرابة قرن من الزمان، كانت مدينة عينتاب التركية مثلا جزءا من ولاية حلب، غير أن ذلك لم يكن يمثل فارقا يذكر بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، إلا أنه كان يعني فيما بعد أن تلك المناطق الجنوبية سوف تمثل تحديا لا يستهان به في وجه الهوية التركية الجديدة، حيث فشلت الدولة التركية على مدار عقود في السيطرة على حدودها الجنوبية مع سوريا بسبب التداخل العرقي والثقافي في تلك المنطقة.

    

في ضوء ذلك، شكلت تلك المنطقة صداعا مزمنا في رأس الدولة التركية الحديثة، وبلورت أهم معضلات الأمن القومي الخاصة بها، وأسهم تحول الثورة السورية إلى حرب إقليمية، وما أثمره من تزايد لنفوذ الأكراد كعدو عرقي تاريخي للدولة التركية الحديثة، في تحويل نظرة تركيا للثورة السورية من كونها فرصة ديمقراطية هيأها الربيع العربي إلى معضلة أمنية(14) حدودية حقيقية، وتحولت أولويات تركيا من تقديم الدعم غير المباشر للمعارضة السورية إلى موازنة نفوذ إيران الداعمة للنظام، إلى التدخل المباشر من أجل منع قيام دولة كردية معادية متاخمة لتركيا على ثلث الأراضي السورية، وهي المساحة التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، الحليف المفضل للولايات المتحدة في سوريا.

  

سياسة تركية تبلورت في شكلها الأكثر وضوحا خلال عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في عامي 2017 والحالي 2018 على الترتيب، حيث توغلت القوات التركية داخل الأراضي السورية لمواجهة "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف بـ "داعش"، والأهم منع الوحدات الكردية من تأسيس وجود فعال لها على الأراضي التركية، وهي خطوة طالما أحجمت عنها أنقرة خوفا من أن تضع نفسها على مسار تصادمي مع حلفاء النظام السوري في موسكو وبالطبع أيضا في طهران.

 

الطريق إلى الحرب

تسببت المواقف المتباينة في الحرب السورية في وضع تركيا وإيران على طرفي نقيض، وجددت الحرب بالوكالة بينهما، ووضعت البلدين على شفير أزمة دبلوماسية وتصعيد خطابي في أكثر من مناسبة. فمع بدايات التصعيد التركي ضد نظام الأسد عام 2012، شنت وسائل الإعلام المقربة من النظام الإيراني هجوما حادا ضد تركيا وأردوغان، واتهمتهما بـ "التآمر ضد الحكومة السورية"، ومع بلوغ عام 2015 بلغ أردوغان ذروة تصعيده الخطابي ضد طهران باتهامها (15) بالوقوف خلف الأسد لأسباب طائفية، إلا أن ذلك التصعيد في المواقف لم يمنع تركيا أن تكون أحد المرحبين بالاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع القوى الكبرى، وما تبعه من رفع للعقوبات الاقتصادية الغربية على طهران.

     

  

كان تطوير برنامج للأسلحة النووية هو الطريقة التي اختارت إيران أن تستجيب بها للتهديدات الأميركية، في أعقاب إقدام الولايات المتحدة بالقوة العسكرية فائقة الفاعلية على الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان عام 2001، ثم نظام صدام حسين في العراق عام 2003، لتشعر طهران أنها الهدف القادم على قائمة الغزو الأميركية، خاصة مع تصعيد نظام جورج دبليو بوش ضدها، وتصنيفها ضمن محور الشر. وقد ازداد هذا الإصرار الإيراني في أعقاب إقدام إسرائيل على قصف المنشآت النووية السورية في دير الزور عام 2007، ما أوصل النظام الإيراني إلى قناعة بأن امتلاك السلاح النووي يمكن أن يكون الوسيلة الوحيدة لردع "غرور القوة" الأميركي الإسرائيلي.

  

وعلى الرغم مما يحمله البرنامج النووي الإيراني من مخاطر كامنة(16) على الأمن القومي التركي، كانت أنقرة مصرة منذ اللحظة الأولى أن التفاوض يبقى الوسيلة الوحيدة لحل المعضلة، ورفضت منذ الوهلة الأولى العقوبات المفروضة على طهران، وأطلقت عملية تفاوضية بالتعاون مع البرازيل لحل الأزمة النووية الإيرانية، عملية أثمرت في عام 2010 عن توقيع اتفاق طهران الذي رفضته الولايات المتحدة، ما دفع تركيا إلى استغلال عضويتها المؤقتة في مجلس الأمن لرفض العقوبات الأميركية والأوروبية على إيران.

 

كان الترحيب التركي بالاتفاق النووي عامي 2013 و2015 متسقا مع سياسة أنقرة طويلة الأمد تجاه برنامج إيران النووي، حيث بقيت أنقرة حريصة على منع إيران من امتلاك السلاح النووي شريطة أن يتم ذلك بشكل سلمي، كما جاء موقفها متسقا مع مبادئها الرافضة للعقوبات الاقتصادية بشكل عام، حيث عانت تركيا من تداعيات العقوبات التي فرضت على نظام صدام حسين في أعقاب حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات، وهو ذات ما عانته بفعل العقوبات على إيران التي تسببت في انخفاض حجم الصادرات التركية للأخيرة من نحو 10 مليارات دولار عام 2012 إلى نحو 3.9 مليارات دولار عام 2014؛ ما يعني خسارة تركيا لستة مليارات دولار كاملة من النقد نتيجة تداعيات العقوبات على "الجمهورية الإسلامية".

   

في ضوء ذلك لا يعد من المستغرب أن تُتَّهم تركيا بتسهيل قنوات خلفية للنظام الإيراني للالتفاف على العقوبات، رغم إصرار أنقرة على نفي ذلك جملة وتفصيلا، ولا يصبح مستغربا أن تسارع تركيا إلى الترحيب بالاتفاق الذي سيمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، وفي الوقت نفسه سيفتح لها آفاقا اقتصادية كبرى للعمل مع طهران سواء على الصعيد الطاقوي، حيث تعتمد أنقرة على استيراد النفط والغاز، أو حتى على صعيد الاستثمارات التركية في إيران، حيث توجد أكثر من مئة شركة تركية تعمل في مجالات الاستيراد والتصدير والمقاولات.

   

   

تتعامل تركيا إذن مع إيران ببراغماتية شديدة تعلّمها الأتراك من لعبتهم المعقدة في تحقيق التوازن بين الشرق والغرب، وهي لغة أثبت النظام الإيراني مرارا وتكرارا أنه يفهمها بشدة ويجيدها أيضا على الرغم من ردائه الأيديولوجي الذي يوحي بغير ذلك، رغم أن سوريا لم تكن هي ميدان الخلاف الوحيد بين أنقرة وطهران، مع الصراع المحتدم بين البلدين في آسيا الوسطى وحول الطاقة في بحر قزوين، صراع قدمت إيران فيه البراغماتي على الأيديولوجي بوقوفها في صف أرمينيا المسيحية على حساب أذربيجان المسلمة الشيعية -في صراعهما حول إقليم ناغورنو كاراباخ- خوفا من تمدد النفوذ التركي، وخشية من نشوب تمرد محتمل للأذريين الأتراك الذين يشكلون 25% من سكان إيران، ويعانون من التمييز الثقافي والاجتماعي من قبل الحكومة.

 

تبقى سوريا ساحة الصراع الأبرز إذن، لكن ذلك التنافس التركي الإيراني في سوريا كقطبين إقليميين رئيسين في ظل تراجع دول الخليج العربية، وما يجلبه ذلك التنافس من موجات من التصعيد بين الحين والآخر، لم يمنع أن يحل(17) رئيس الأركان الإيراني الجنرال "محمد باقري" ضيفا على أنقرة في أغسطس/آب الماضي في أول زيارة من نوعها لمسؤول عسكري إيراني بهذا المستوى لتركيا منذ الثورة الإسلامية، وهي زيارة للمفارقة جاءت بعد أشهر قليلة من قرار تركيا المتأخر بالتوغل عسكريا في سوريا ضمن عملية درع الفرات، ما مثل إشارة واضحة من كل من طهران وأنقرة أن لديهما القدرة على تغليب التعاون في الوقت الذي يظن الجميع أنهما في طريقهما للاشتباك.

  

بشكل عام، ترى طهران أنها حققت هدفها الأساسي من اشتباكها مع الملف السوري في المقام الأول: تأمين بقاء نظام الأسد في السلطة وتأمين سيطرته على المناطق الإستراتيجية لسياسة طهران الإقليمية، وأهمها فتح خط إمداد متصل لحزب الله وشواطئ البحر المتوسط في لبنان، وهي تبدي استعدادا أكبر -وإن لم يظهر ذلك في موقفها الرسمي الرافض للتدخل التركي- لتفهم مواقف أنقرة الأمنية تجاه الأكراد، في ظل وجود قناعة مشتركة لدى البلدين بأهمية الحيلولة دون تمكين القوى المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني في سوريا.

     

      

كان صعود الأكراد في سوريا راجعا(18) في جزء كبير منه إلى قرار واعٍ من قِبل الحكومة السورية ومستشاريها الإيرانيين بالانسحاب من المناطق ذات الكثافة السكانية في البلاد عام 2012. وكان القرار السوري مبنيا على منطق بسيط: فبدلا من إهدار الموارد في المناطق التي يقطنها الأكراد، فإنه يجب توجيه موارد النظام العسكرية إلى المناطق التي تتركز فيها المعارضة، خاصة أن النظام السوري يتمتع بتاريخ طويل من العلاقة مع الأكراد -والفصائل المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني- خلال 15 عاما كاملة استضافت فيها سوريا عبد الله أوجلان على أراضيها قبل تهديد تركيا بعمل عسكري. ولكن النفوذ الكبير الذي حازه الأكراد في سوريا خلال الأعوام الفائتة، وتحالفهم الوثيق مع الولايات المتحدة، يمثل اليوم صداعا في رأس إيران والنظام السوري في ذيلها، طامحة كما هي إلى بسط سيطرتها الكاملة على الأراضي السورية.

     

وفقا لهذا المنطق، ربما لا يكون تدخل تركي يستهدف الأكراد على وجه الخصوص أمرا بذلك السوء بالنسبة لطهران، خاصة مع ما يحمله من فرص لصدام بين تركيا وبين الولايات المتحدة، الداعم الأكبر لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، الفصيل الكردي الأبرز في سوريا اليوم، وهو صدام يصب في مصلحة طهران بكل تأكيد، ويقرب(19) أنقرة أكثر من المحور الروسي الإيراني، وهو الإطار الثلاثي الذي تم تفعيله بالفعل في مناطق خفض التصعيد.

    

مقاتلي أتراك في بلدة عفرين في سوريا (رويترز)
مقاتلي أتراك في بلدة عفرين في سوريا (رويترز)

   

من ناحية أخرى، تدرك طهران أن تدخل أنقرة الأخير في سوريا جاء مدفوعا بشكل رئيس بسوء التقدير الإستراتيجي لحزب الاتحاد الكردستاني العراقي، الذي أصر على المضي قدما في استفتاء للانفصال نهاية العام الفائت، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة طهران وأنقرة معا ووضعتهما مع بغداد على خط واحد للمرة الأولى.

  

لا شك أن الوجود العسكري لكل من تركيا وإيران في سوريا ربما يضع البلدين على مسار تصادمي(20) قابل للانفجار في أي لحظة، لكنّ الطرفين يتفقان ضمنيا أن عليهما الحفاظ على أقصى درجة ممكنة من التغاضي وضبط النفس، في وقت لم يعد فيه خيار العودة إلى الوراء مطروحا على طاولة أي منهما، مع توجيه القدر الأكبر من التركيز على المصالح المشتركة وفوائد الشراكة في ظل بيئة إقليمية متقلبة، رغم أن كلا الطرفين يدرك في قرارة نفسه أن كل لحظة تحمل في جعبتها فرصة جديدة للاشتباك، وأن كل ما يتطلبه الأمر هو خطأ واحد قد يدفع البلدين إلى مواجهة قد لا يكون بالإمكان تفاديها مهما تعاظمت المصالح وحسنت النيّات.