شعار قسم ميدان

لماذا يمد الأخطبوط الإثيوبي أذرعه لموانئ شرق أفريقيا؟

midan - main port
اضغط للاستماع
 

في الأول من شهر مايو/أيار من عامنا الحالي 2018، ظهر "سلطان أحمد بن سليم"، الرئيس والمدير التنفيذي لهيئة موانئ دبي العالمية، وعلى يمينه "أحمد شيدي" وزير النقل الإثيوبي، وعلى يساره "سعد الشير" وزير خارجية إقليم "صوماليالاند" أو "أرض الصومال"، في لقاء جمع ما بين أشخاص من النادر أن يجتمعوا في مكان واحد. حينها، ألقى بن سليم بيانا
(1) أعلن فيه عن اتفاقية تُمكّن إثيوبيا من الاستحواذ على حصة قدرها 19% في ميناء "بربرة" الصومالي، على أن تمتلك موانئ دبي 51%، والبقية لـ "أرض الصومال".

       

كان هذا التحرك الإستراتيجي غير مألوف بالنسبة للإثيوبيين خاصة في دولة أخرى كالصومال، لكن الهدف كان واضحا بشكل كبير، إذ تعتمد إثيوبيا في معظم تجارتها الخارجية على ميناء "جيبوتي"، ولأن ميناء "بربرة" يبعد عن أديس أبابا المسافة نفسها التي يبعدها ميناء جيبوتي عنها، لذا يحقق الاستحواذ على تلك الحصة في الميناء العديد من الفوائد لإثيوبيا، حتى إن إقليم "أرض الصومال" شرع على الفور في بناء ممر تجاري سيربط بربرة في نهاية المطاف مع أديس أبابا عن طريق البر(2)، لكن كل ذلك على بداهته لا ينفي التفاصيل الأهم، لذا يبدو أن وراء التهام إثيوبيا حصة ميناء بربرة ما يستحق أن يُروى.

   

قتال "الأصلعان"

في أبريل/نيسان لعام 1993، وفي شوارع أسمرة عاصمة منطقة "إريتريا" التابعة لإثيوبيا، كان الإريتريون يحتفلون عشية الاستفتاء لإعلان الاستقلال عن إثيوبيا بعد معارك استمرت ثلاثة عقود(3)، لتنفصل إريتريا وتصبح دولة ذات سيادة في مايو/أيار من العام نفسه.

   

لتخيل الوضع، تشكل إريتريا لسانا ساحليا يفصل بين الأراضي الإثيوبية والبحر الأحمر، وهو تمركز جغرافي ستعاني منه إثيوبيا بعد بضع سنوات، بينما لم يكن يمثل لها مشكلة كبيرة بعد استقلال إريتريا كما كان يبدو أوائل الاستقلال، فبعد الاستقلال بدت العلاقات الإريترية الإثيوبية أكثر قربا من ذي قبل، خاصة بعد صعود تحالف الجماعات المتمردة المسمى بـ "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" بقيادة "ملس زيناوي" عام 1991، وهو تحالف كان مساندا للثوار الإرتريين في نضالهم ضد الحكومة الماركسية الإثيوبية، وكان من ثمار هذا التفاهم أن الاستفتاء كان معترفا به من قبل أديس أبابا.

        

undefined

   

امتد التفاهم بين الدولتين إلى ما بعد الاستقلال الإريتري، وأرادت إريتريا على ما يبدو أن ترد الجميل للقيادة الإثيوبية التي سمحت بالاستفتاء مع الاعتراف الكامل بنتائجه، فتنازلت عن مطالبتها بتعويضات الحرب، وتم توقيع الاتفاقيات التجارية بين الدولتين، وواصلت إريتريا استخدام العملة الإثيوبية "بر" (Birr) في البداية، وفتحت أسواقها أمام الشركات الإثيوبية، لكن الأهم من كل ما سبق هو اعتبار ميناء عصب الإريتري ميناء مجانيا لإثيوبيا، والسماح للبضائع الإثيوبية سواء صادراتها أو وارداتها بالمرور من الميناء بدون دفع أي رسوم(4).

   

ظلت العلاقات دافئة بين البلدين حتى عاد القمر محاقا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1997، حينما شرعت إريتريا فيما كانت تخشاه إثيوبيا وبدأت بفرض رسوم على التجارة الإثيوبية، وأصدرت عملتها المحلية الخاصة "ناكفا" (Nakfa)، لتستيقظ إثيوبيا على دفع رسوم لأول مرة في تاريخها، ولتؤدي محاولات إريتريا فرض سيادتها والخروج من العباءة الإثيوبية إلى عودة التوترات بين البلدين من جديد(5). ولم يمض وقت طويل حتى بلغ الاحتكاك أشده حينما سيطرت القوات الإريترية على بلدة حدودية متنازع عليها مع إثيوبيا تدعى "بادمي"، وهي بلدة كانت تحت السيطرة الإثيوبية أوائل عام 1998. كانت "بادمي" بلدة صغيرة متواضعة بلا أي أهمية ولم يكن لها أي مكانة إستراتيجية تُذكر، فلم تكن تمتلك نفطا أو ماسا أو أي شيء يمكن نشوب صراع حوله، لكن الأمر كان معركة فرض سيادة وأمر واقع بين أسمرة وأديس أبابا أكثر من أي شيء آخر.

   

تطور النزاع الصغير حتى وصل إلى حرب شاملة بين البلدين في مايو/أيار من العام نفسه، حرب وُصفت محليا بتعبير دارج بأنها "رجلان أصلعان يتقاتلان على مشط" لعدم أهمية البلدة المتنازع عليها بالنظر إلى نتائج الحرب التي استمرت عامين وخلفت وراءها آلاف القتلى وخسائر بمليارات الدولارات(6). وبينما كان الاقتصاد الإثيوبي الشاب يزيل ركام الحرب ويحصي خسائره، فقد استفاق على حقيقة قاسية هي أنه أصبح فعليا غير قادر على الوصول بتجارته إلى البحر بعد إغلاق ميناء "عصب" في وجهه، ما يعني أن استيراد المواد الأساسية والسلع التصديرية أصبحت أكثر تكلفة بكثير، وأن إثيوبيا أصبحت دولة حبيسة.

   

لذا، وفي محاولة لتناسي تلك الحقيقة أو التقليل منها، وربما تهدئة الإثيوبيين أيضا، أعلن رئيس الوزراء وقتها "ملس زيناوي" بشكل مفاجئ أن إثيوبيا يمكنها التخلي عن الموانئ، وأن عدم وجود موانئ لن يضر بالاقتصاد طالما أن البلاد تمكنت من الحصول على دخل من الموارد المتاحة لها، ودعم قوله بأوغندا كمثال لبلد غير ساحلي بأداء اقتصادي جيد.

       

  

لكن زيناوي كان يعلم على الأرجح أن الحقيقة عكس ذلك، وأنه لا يمكن لإثيوبيا تحقيق طموحاتها المحلية والإقليمية من غير موانئ حرة ومتاحة وهو ما سيظهر جليا بعد عدة سنوات، لذا لم يتردد في مداعبة شهية الإريتريين للمال من أجل السماح لأديس أبابا بالعودة إلى ميناء "عصب" من جديد، لذا قال تصريحه الشهير عام 2000 "إذا استخدمنا ميناء عصب، فإن الفائدة لن تعود علينا فقط وإنما على إريتريا أيضا، وإذا قررنا عدم استخدام عصب، سيبقى مصيره مجرد مصدر لمياه الشرب للإبل. لقد أوضحت ذلك للدبلوماسيين. لا أكثر ولا أقل. إذا لم نستخدم ميناء عصب، فلن تحصل الحكومة الإريترية على سنت واحد" (7)، وهو تصريح حمل قوة افتراضية أكثر من الواقع الإثيوبي الهش بكثير.

      

يؤكد الاقتصاديون دوما لإثيوبيا، ولغيرها من الدول ال 44 غير الساحلية الأخرى في العالم، على الصعوبات التي تفرضها الجغرافيا على اقتصاداتها، ما يحتم عليها سلوك مسارات استثنائية عاجلة. فتوصل اقتصاديون مخضرمون كفرانكلين ورومر إلى نظريات تفصيلية كانت نتيجتها البديهية أن جغرافيا الدول لها تأثير على تجارتها وبنسبة أكبر على دخلها(8). أما الاقتصاديون مثل "موكيلار" ورفاقه فأكّدوا على أن الدول غير الساحلية تشهد نموا اقتصاديا أبطأ من الدول غير الحبيسة(9). ويمكن للمتابع للشؤون الاقتصادية الإثيوبية أن يدهشه رؤية كلمتي "الاقتصاد الإثيوبي" بجوار "نمو اقتصادي أبطأ"، وللحق فالدهشة في محلها تماما، فالدولة الشرق أفريقية بعيدا عن النظريات الاقتصادية ظلت لأكثر من عقد ماض ضمن المتصدرين لقائمة أسرع معدلات النمو الاقتصادي، لا في القارة وحدها، وإنما في العالم.

     

لامست نتائج أطروحة "راميش باودل" التي ناقشها في جامعة "كانبيرا" الواقعة في أستراليا إحدى أكثر أدوات تحقيق النهضة الإثيوبية "الصادرات"، وتوصل باودل من خلال أطروحته حول الأداء التصديري للبلدان الساحلية إلى أن عدم وجود سواحل لدولة ما تظل مشكلة كبيرة، وتشكل عائقا محددا لأداء الصادرات ونموها(10)، لذا وتبعا لشبه الإجماع بين المدارس الاقتصادية المختلفة، قامت أديس أبابا بوضع إستراتيجيات وطنية نافذة لا تتأثر بتغير أنظمة الحكم حتى تقيها جميع ما سبق.

      

التهام الموانئ.. كل الموانئ

منذ الحرب الإريترية قبل عقدين، حولت إثيوبيا تجارتها الخارجية من ميناء عصب إلى ميناء جيبوتي، وعنى ذلك للدولة الأفريقية الصغيرة أن هناك 13 مليار دولار واردات ونحو 3 مليارات دولار صادرات تمر عبر مينائها سنويا، وباستثناء الزهور وبعض الأغذية الزراعية المعالجة كاللحوم التي يتم تصديرها عبر الخطوط الجوية الإثيوبية، تعتمد إثيوبيا على ميناء جيبوتي في 95% من وارداتها وصادراتها، لكن ذلك لم يكن أبدا ملائما لما تطمح إليه.

    

ميناء جيبوتي (الجزيرة)
ميناء جيبوتي (الجزيرة)

   

لذا، واستنادا إلى الإستراتيجية الإثيوبية للتحول إلى مركز تصنيع مزدهر، كان لزاما على الحكومة الإثيوبية معالجة إحدى أكبر مشاكلها ممثلة في الموانئ، فأطلقت إستراتيجية لوجستية وطنية في أبريل/نيسان عام 2015، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من أجل استخدام موانئ متعددة في البلدان المجاورة، وهي إستراتيجية لخصها وزير النقل الإثيوبي "ووركنا جبيهيو" حينما قال: "سننظر في استخدام جميع الموانئ في المنطقة"(11).

     

ورغم تحول تجارتها إلى ميناء جيبوتي، لم تستطع إثيوبيا إبعاد ميناء "مومباسا" الواقع شرق كينيا عن ناظريها. كان الأمر أكثر إغراء من أن يتم تجاهله من قبل الحكومات الإثيوبية، ففضلا عن الطرق السريعة الممهدة لتربط بلدات مارسابيت وتوربي الكينية مع مدينة مويالي الإثيوبية على الحدود الإثيوبية الكينية، ثم تعديل الطريق السريع من أديس أبابا إلى مويالي ليتم إيصاله بالطريق الكيني، هناك أيضا خطوط السكك الحديدية التي يجري إنشاؤها لتربط المدن الإثيوبية بالكينية.

      

عانت إثيوبيا على مدار سنوات طويلة من التكاليف الباهظة لمرور تجارتها عن طريق ميناء جيبوتي، حيث سببت الرسوم الباهظة التي تحملتها أديس أبابا في جيبوتي لدفع اقتصادها إلى الركود بشكل أكبر، فبلغت إجمالي تكاليف النقل العابر أكثر من 16% من قيمة التجارة الخارجية لإثيوبيا والتي تبلغ نحو مليوني دولار يوميا، وهو ما يشكل نزيفا فعليا لاقتصاد الدولة لا يمكن تركه طويلا(12).

   

لكن العائق بين تحول إثيوبيا إلى ميناء مومباسا بدلا من جيبوتي ظل موجودا حتى وقت قريب وهو عدم وجود طرق جيدة. بيد أن ذلك قد تغير كثيرا الآن، لذا فقد بدأت الحكومة الإثيوبية في إطار إستراتيجيتها اللوجستية في استخدام ميناء مومباسا ليخدم الجزء الجنوبي من إثيوبيا، ويربط البلاد بسوق شرق أفريقيا، لا سيما مع توسعة الميناء ومضاعفة الحارات في الطرق القديمة بين البلدين، وافتتاح كينيا لميناء جديد للحاويات في مومباسا في سبتمبر/أيلول عام 2016 ليزيد حجم البضائع التي يتعامل معها الميناء بنسبة 50%(13).

          

undefined

   

على نهج أسلافه، ولتأكيد استمرار إثيوبيا في التعامل مع ميناء جيبوتي وطمأنة مسؤولي الدولة، قام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أول زيارة خارجية له بالتوجه إلى جيبوتي العاصمة في نهاية أبريل/نيسان الماضي، وتوقيع اتفاق جديد لتنمية وتشغيل ميناء جيبوتي. كانت جيبوتي تبحث عن مستثمرين لمينائها منذ أن أنهت امتياز شركة موانئ دبي العالمية لإدارة الميناء منذ شهرين، قائلة إن الشركة "حصلت على العقد بطريقة فاسدة" (14).

   

تستحوذ إثيوبيا على حصة في الميناء الذي لطالما عانت من رسومه الباهظة، إذ تدفع لجيبوتي سنويا من 1.5 إلى ملياري دولار كرسوم موانئ فقط(15)، ويأتي الاستحواذ الإثيوبي مقابل إتاحة الفرصة لجيبوتي في الاستحواذ على حصص في شركات حكومية إثيوبية مثل شركة الطاقة الكهربائية، وهو عين ما أكد عليه وزير المالية الجيبوتي "إلياس دوالي" عندما قال إن الصفقة ستشمل تبادل أسهم بين حكومته وأديس أبابا في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، أكبر شركة طيران أفريقية من حيث الإيرادات، وفي شركة الاتصالات الإثيوبية مع محطة حاويات دوراليه، ومحطة النفط الجديدة، وجيبوتي تليكوم سا(16).

   

في الشهر الماضي مايو/أيار واصلت إثيوبيا التهام حصص أخرى من موانئ شرق أفريقيا أيضا، ولكن هذه المرة كانت للشمال قليلا حيث ميناء بورتسودان أكبر بوابة بحرية في السودان، وتم الاتفاق على الصفقة بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس السوداني عمر البشير، لتصبح بذلك إثيوبيا مساهما في الميناء ومن ثم لها حق المشاركة بتحديد رسوم مناولة الميناء. وجدير بالذكر أيضا أن قطر كانت قد وافقت على استثمار أربعة مليارات دولار في الميناء نفسه مما سيرفع من كفاءته (17)، لذا تأتي أهمية الوجود الإثيوبي في ميناء بورتسودان كونه يخدم في المقام الأول التصدير من شمال إثيوبيا إلى أسواق الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا.

   

دليل الاستعمال الصيني

عند التدقيق في شبكة موانئ شرق وجنوب أفريقيا الإثيوبية الناشئة حديثا نجدها تتخذ شكل هلال كامل، وهو ما يثير تساؤلا مهما عن تكوين أديس أبابا لتلك الشبكة على هذه الشاكلة، في وقت تقف فيه دول ساحلية كبرى في القارة -وذات اقتصادات أكثر قوة من إثيوبيا- موقف المشاهد الصامت.

       

undefined

   

تتميز إثيوبيا دون غيرها من الدول النامية غير الساحلية بكونها تسير بخطى حثيثة فوق آثار أقدام النموذج الجنوب شرق آسيوي في التنمية، ذلك النموذج الذي أثنى عليه زيناوي كثيرا، مرجعا نجاحه إلى مزيج معتدل من تدخل الدولة وقوى السوق، بحيث لا تكتفي الدولة بتوفير البنية التحتية والخدمات الأساسية فحسب، وإنما تخلق بيئة مواتية للقطاع الخاص لتطوير القدرات الإنتاجية(18)، وهو ثناء واعتقاد تجاوزا كتاباته ليجدا صداهما على الأرض الإثيوبية، وإن كانا مخلوطين بالاستبداد كما يرى البعض.

   

لكن ما يجعل البلاد في طريقها للحاق بركب الدول الآسيوية، وبالتالي التحول الهيكلي نحو التصنيع كما أراد زيناوي، يمكن اختصاره في سببين رئيسين؛ أحدهما هو التوجه التنموي للبلاد، فكما يشير "اركبي أوكباي"، المستشار الخاص لرئيس الوزراء الإثيوبي وأحد مهندسي السياسة الاقتصادية الإثيوبية، في كتابه "صنع في أفريقيا: السياسة الصناعية في إثيوبيا" الذي نشرته جامعة أكسفورد(19)، فإن إثيوبيا تتميز بكونها تركز بشكل حصري حول التنمية والالتزام بتحسين قدرة النظام نفسه على الإنتاج. أما الآخر فيتعلق بقدرة أديس أبابا على خلق سياسة صناعية مدهشة تراكمت منذ وصول "الجبهة الديمقراطية الثورية الإثيوبية" إلى السلطة عام 1991، وهو ما ظهر جليا في "خطة النمو والتحول 1″ التي غطت الفترة من 2010 إلى 2015.

       

undefined

       

ولما كان 80% من سكان إثيوبيا يعتمدون على الزراعة لكسب رزقهم، استمرت السياسة الصناعية المحلية بطبيعة الحال في التركيز على تشجيع الصناعات التحويلية التي توفر روابط وثيقة بالقطاع الزراعي، فصُنّف كل من قطاع المنتجات الجلدية وقطاع المنسوجات والملابس كإحدى الصناعات التحويلية ذات الأولوية في "خطة النمو والتحول 2″ الإثيوبية التي تغطي الفترة من 2015 إلى 2020.

   

بالتدقيق في تلك الصناعات، نجد أنها لا ترتبط بالقطاع الزراعي لذلك السبب فحسب، حيث يستخدم الإثيوبيون مدخلات من القطن والثروة الحيوانية التي توفر إمكانات هائلة لصناعة الجلود، تبعا لامتلاك إثيوبيا واحدة من أكبر مجموعات الثروة الحيوانية في العالم(20)، وإنما لأن كلا منها ذو طبيعة كثيفة العمالة بحيث يستوعب العمالة من القطاع الزراعي في بلد يتجاوز عدد سكانه 100 مليون نسمة، كما أنها صناعات لها أهمية تصديرية كبيرة، ولديها حواجز دخول منخفضة(21).

   

ولا تقتصر رأس حربة القاعدة الصناعية في إثيوبيا على تلك الصناعات فقط، وإنما هناك صناعات أخرى حققت طفرات هائلة على مستوى التصدير كصناعة الأسمنت، حتى تحولت إثيوبيا بحلول عام 2012 إلى ثالث أكبر منتج للأسمنت في القارة، وكذا قطاع زراعة الزهور الذي شكل عنصرا جاذبا لكسب العملات الأجنبية وتوليد العمالة المباشرة.

        

undefined

     

استوعبت إثيوبيا الدرس سريعا إذا، ولم تمكث كثيرا تحت وطأة معضلة عدم القدرة على الوصول إلى البحر كغيرها من الدول النامية غير الساحلية، ورغم وجود معاهدات دولية تتعهد بالوصول إلى المحيطات فإن تنفيذها يقع في المقام الأول على عاتق حكومات دول العبور. وفي كثير من الأحوال يكون لدى تلك الدول القليل من الحوافز لإنشاء بنية تحتية من شأنها مساعدة جيرانها. وكثيرا ما يتقاضى مسؤولو الحدود في كل من الدول الساحلية وبلدان المرور العابر رشاوى مقابل تسهيل المرور أو يسببون عوائق قانونية تضر بالتجارة، ويمكن لدول العبور أن تقطع حتى المرور تماما(22)، ولأن هذا النوع من المخاطر المتوقعة يشكل تأثيرات بالغة الخطورة على اقتصادات الدول المختلفة، ومع انتشار الصراعات الأهلية في كل مكان، فغالبا ما تضطر الدول غير الساحلية لإعادة توجيه التجارة بأي تكلفة ممكنة مهما كانت غير منطقية أو معتادة، لذا تمتلك الشركات في تلك البلاد، مخزونات أكبر للتحوط ضد مثل هذه الاضطرابات، مما يقلل من قدرتها التنافسية.

        

undefined

     

بناء على ما تقدم، يمكن القول إنه بعد أن وضعت إثيوبيا قدمها في جميع الموانئ التي تحيط بها، باستثناء ميناء عصب الإريتري، الذي ربما يحين دوره عما قريب رغم خصوصيته مقارنة بباقي الموانئ؛ فإن أديس أبابا قد نجحت بدرجة كبيرة في تنفيذ إستراتيجيتها اللوجستية من أجل تنويع منافذها البحرية وإشعال المنافسة بين الموانئ وبعضها البعض، ومن ثم خفض رسومها، فيكفي الآن مجرد التلويح بتحويل تجارتها إلى أي من تلك الموانئ إذا لم تحصل على رسوم ترضيها، لتتمكن في نهاية المطاف من السير مطمئنة في إستراتيجيتها الصناعية الأخرى دون أن يعوقها عائق، وفي تقليص تحدياتها التجارية الدولية للمنافسة بمنتجاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.