شعار قسم ميدان

فشل أم مؤامرة.. لماذا لا تنجح الحملات العسكرية بسيناء؟

midan - sinai
دون أدنى مراعاة لمتطلبات السرية، وهي من أبجديات الحرب على الإرهاب، تسربت يوم 7 فبراير/شباط 2018 نسخة من قرار بإعلان حالة الطوارئ تم تعميمه على قطاع الصحة في محافظة الإسماعيلية، المدخل الرئيسي لمحافظة شمال سيناء. حملت وصايا القرار العشرة توصيات بمضاعفة عدد أطباء أقسام الطوارئ، والتأكيد على زيادة مخزون الأدوية وأكياس الدم والإبلاغ بعدد وحدات حفظ الموتى المتوفرة. حمل القرار ما يمكن وصفه بإعدادات الحرب. وللإمعان في عدم السرية، أعلن محافظ شمال سيناء حالة الطوارئ في عموم المحافظة وكل الإدارات المحلية التابعة له بعد ساعات من قرار الإدارات الصحية. 

     

في الساعات الأولى من صباح يوم 9 فبراير/شباط 2018 أعلنت القوات المسلحة المصرية، وطائراتها الحربية التي هزت أركان مدينة العريش، عن بدء حملة عسكرية موسعة وصفها المتحدث الرسمي للقوات المسلحة بأنها مختلفة عمَّا سبق، وبجانبه شاشة تعرض فيديوهات تشبه البروباغاندا العسكرية التي لا تحمل أي معنى غير حملة ترويجية لقوة غاشمة يتبناها نظام يعاني من فقر في الشعبية قبل أسابيع من انتخابات رئاسية. 

مشهد لم يعد بجديد ولا مفاجئ للمصريين أو العالم، فما أشبه إعدادات ما قبل انتخابات 2014 باليوم! 

   

بعد أيام من الإطاحة بالرئيس المصري السابق، محمد مرسي، في انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 الذي قاده الفريق عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري في ذلك الوقت ورئيس جهاز المخابرات الحربية قبلها، ظهر رجل المؤسسة العسكرية ببزة عسكرية كاملة، وفي خطاب غير مسبوق دعا الفريق السيسي الشعب المصري للنزول إلى الشوارع وإعلان تفويضهم الجيش والشرطة بمحاربة الإرهاب والعنف المحتمل(1)، أي تفويض مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية أن تقوم بعملها الذي أقسمت عليه وتتقاضى عليه مرتباتها من خزانة الدولة. 

    

بغضِّ النظر عن تفاصيل التفاعل الشعبي والسياسي مع هذا النداء المثير للجدل، فقد اعتبر الفريق السيسي أنه قد نال ما طلب وأكثر. ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى ارتكبت قوات الجيش والشرطة ما وُصِفت بأنها أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث بميدان رابعة العدوية في وضح نهار العاصمة، القاهرة(2)، بينما أطلقت مروحيات الجيش صواريخها على قرية المقاطعة جنوب الشيخ زويد في شبه جزيرة سيناء معلنة بذلك حملة عسكرية لم تشهد مصر مثيلًا لها منذ آخر حروبها مع الجيش الإسرائيلي(3)

       

ميدان رابعة العدوية 2014 (رويترز)
ميدان رابعة العدوية 2014 (رويترز)

   

اليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات على وعد السيسي بالقضاء على النشاطات الإرهابية والجماعات المسلحة في شبه جزيرة سيناء، وهو الوعد الذي بنى السيسي عليه خلاصة حكمه وقيل إنه سيطهِّر سيناء خلال أسابيع(4)، لم ينجح النظام المصري في الوفاء بما قطعه على نفسه أو على الأقل إرساء استراتيجية فعَّالة وقادرة على إيقاف التطورات المستمرة التي شهدت تحول جماعة أنصار بيت المقدس من جماعة محلية تسعى لإثبات قدراتها لأحد أكبر فروع تنظيم الدولة الإسلامية وأكثرها ظهورًا على شاشات التلفاز حول العالم بعد تنفيذ هجمات بالغة التعقيد لتصيب أهدافًا غير مسبوقة، سواء تلك التي استهدفتها في برِّ سيناء ووادي النيل أو في البحر المتوسط وحتى على ارتفاع آلاف الأقدام في السماء. 

   

تجريب المجرَّب

بينما تقترب مصر من انتخابات رئاسية أخرى يبدو جليًّا أن الرئيس السيسي ينوي تحويلها لما يشبه الاستفتاء على بقائه في كرسي الرئاسة(5)؛ فخرج مرة أخرى مهدِّدًا ومتوعدًا بأنه على استعداد لأن يطلب تفويضًا آخر(6). ويبقى الإرهاب المستمر في شبه جزيرة سيناء ومئات القتلى بين مدنيين وعسكريين منذ يوليو/تموز 2013 خير دلالة على ما أنجزه التفويض الأول وما يمكن أن يحمله تفويض آخر بين طياته. 

      

تعكس لهجة الرئيس عبد الفتاح السيسي ووعوده التي لم تتغير منذ ظهوره، يوم 3 يوليو/تموز 2013، سياسات نظامه العسكرية التي أيضًا لم تتغير منذ نفس الوقت، بالرغم من أن هذه السياسات أثبتت إخفاقًا شديدًا وفي بعض الأحيان فشلًا تامًّا في مواجهة الإرهاب في سيناء خاصة وأيضًا في عموم مصر، كما أظهرت بوضوح أن لها تأثيرًا بالغ الخطورة على انتشار دعوات الجماعات المسلحة وفكرها المتطرف حتى تحت نظر وسيطرة الأجهزة الأمنية داخل السجون المصرية. فشل هذه السياسة العسكرية، التي لا يمكن وصفها بشيء أبلغ من "القوة الغاشمة"، كما قال الرئيس السيسي نصًّا(7)، ظهر بوضوح في آخر الضربات الإرهابية في سيناء وأكثرها إيلامًا للمصريين والمؤسسة العسكرية على حدٍّ سواء. 

     

في يوم الجمعة، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قام عشرات المسلحين بالهجوم على مسجد الروضة بمنطقة بئر العبد التي تبعد حوالي 50 كيلومترًا غرب مدينة العريش عاصمة إقليم شمال سيناء(8). الهجوم الذي استهدف أحد أكبر مساجد الطرق الصوفية في سيناء أثناء صلاة الجمعة أوقع أكثر من 300 قتيل وأكثر من 120 جريحًا. لم تتحرك أي قوات من الجيش أو الشرطة لنجدة الضحايا بينما استمرَّ المسلحون في حصد أرواحهم لأكثر من نصف الساعة. وبالرغم من الاعتقاد العام بأن بشاعة الهجوم، الذي صُنِّف كأكبر مذبحة إرهابية في تاريخ مصر الحديث، سيغيِّر من السياسات الأمنية والعسكرية في سيناء، إلا أن المتخصصين في شؤون سيناء والأزمة الأمنية المصرية أكدوا أن النظام المصري، الذي لم يغير سياساته قيد أنملة بعد مقتل مئات من جنوده وضباطه ومن بينهم قادة عسكريون ميدانيون في شبه الجزيرة، قطعًا لن يغير هذه السياسات بعد مقتل مدنيين(9)

     

صورة من مجزرة قرية الروضة شمال سيناء (رويترز)
صورة من مجزرة قرية الروضة شمال سيناء (رويترز)

  

لم تمر أيام على مذبحة الروضة حتى ضرب الإرهاب من جديد، يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2017، هذه المرة مستهدفًا وزيري الدفاع والداخلية في آن واحد(10)، أثناء زيارة سرية في قلب مطار العريش المفترض أنه من أكثر النقاط تحصينًا في الإقليم الأهم بعد العاصمة والأخطر في القُطر المصري برمته. وبالرغم من كونه هجومًا غير مسبوق مثل كثير من هجمات أنصار بيت المقدس وبعدها فرع تنظيم الدولة المسمى ولاية سيناء، إلا أنه كان بمثابة صفعة فريدة من نوعها في وجه مؤسسات مصر الأمنية والاستخباراتية مجتمعة. 

     

القاسم المشترك بين الهجومين، بالرغم من اختلاف الأهداف ما بين مصلِّين عزل بداخل مسجد ووزيري دفاع وداخلية يتم تأمين تحركاتهما بملايين الدولارات داخل مطار محصن، هو فشل استخباراتي ممتد ومستمر منذ بداية الحملة العسكرية قبل أربع سنوات ولا تمر عدة أسابيع إلا وتظهر عواقبه في هجمات كبرى. قصور مستمر في مرحلة جمع المعلومات الاستخباراتية وأيضًا في مرحلة توظيفها، إن توفرت، لمنع هجمات محتملة أو التصدي لها حال وقوعها(11)

      

بالنسبة لهجوم مسجد الروضة في مركز بئر العبد، ظهر هذا الفشل جليًّا في عدم قدرة أجهزة الأمن المصرية على تتبع وكشف خطط الجماعات المسلحة التي تمتد لأيام وفي بعض الأحيان أسابيع قبل وقت الهجوم الفعلي، وتتضمن الحصول على، وتخزين، ومن ثم نقل الأسلحة المطلوبة لتنفيذ الهجوم بالتوازي مع تأمين انتقال المهاجمين أنفسهم إلى مناطق مسكونة وعلى بعد كيلومترات قليلة من نقاط تمركز للجيش والشرطة ومن بينها معسكرات كبرى(12). ويظل الأكثر وضوحًا هو عدم قدرة، أو بالأحرى عدم تحرك، قوات الجيش والشرطة الموجودة بأعداد وجهوزية عالية في نطاق الحادث لإنقاذ الموقف وحماية المدنيين العزل وأيضًا القبض على الإرهابيين أو إيقاع خسائر في صفوفهم(13)

    

أما بالنسبة لهجوم مطار العريش الذي استهدف خلاله مسلحو ولاية سيناء طائرة مروحية عسكرية بصاروخ موجه من نوع كورنيت، أثناء زيارة سرية للقائد العام للقوات المسلحة، الفريق صدقي صبحي، وبصحبته وزير الداخلية، اللواء مجدي عبدالغفار، فلم ينته الأمر عند مثال جديد من الفشل المعلوماتي في تتبع الأسلحة والمسلحين، وإنما ارتقى لمستوى اختراق صريح لعمل الأجهزة الأمنية المصرية وعمليات قوات النخبة المنوط بها تأمين تحركات الوزيرين، والنجاح في إفشاء سرية الزيارة واختراق نطاق مطار العريش على الأرض لتنفيذ هجوم صاروخي وتصويره ليراه العالم أجمع(14)

        

    

طبقًا لما جاء في حوار مع أحد المختصين في شأن سيناء الأمني والعسكري، وهو من سكان شمال سيناء المتابعين عن كثب، يوجد احتمالان كلاهما أسوأ من الآخر: الاحتمال الأول أنه تم رصد طائرات الوزيرين وهي تدخل شمال سيناء أو مدينة العريش، وهذا معناه أن ولاية سيناء لديها عناصر منتشرة وقادرة على الرصد والإبلاغ سريعًا بأي أمر ذي أهمية أو يمثِّل هدفًا. الاحتمال الثاني هو أن ولاية سيناء نجحت في اختراق نوعي وتتعامل مباشرة مع عناصر أمنية في مراكز حساسة تسمح لها بمعرفة معلومات مهمة وفي بعض الأحيان سرية، وهي التي أبلغتهم بالزيارة السرية للوزيرين. أضاف المصدر واصفًا الوضع بأن الاحتمال الأول مصيبة، والثاني مصيبة أكبر(15)

الهجومان السابقان هما الأحدث والأهم في الوقت الراهن، ولكنهما بالطبع ليسا الوحيدين اللذين وقعا نتيجة فشل استخباراتي. 

   

رهان القوة "الغاشمة"

بعد أكثر من أربع سنوات من العمل العسكري باهظ الكُلفة في سيناء، يتضح بلا شك أن هذه الأنواع من الفشل ليست نتيجة فقر الدولة المصرية في القدرات والإمكانيات ولكنه نتيجة إصرار مستمر على استراتيجية أثبتت عجزها على مرِّ أكثر من ثلاثة عقود في حروب دول مختلفة حول العالم على جماعات مسلحة وإرهابية، وهي سياسة الاعتماد على جيش نظامي تقليدي، مكبل بالبيروقراطية ومركزية القرار، يعمل بسياسة القوة المميتة والعقاب الجماعي، وتتحكم فيه الخيارات الأمنية سواء في بقائه في السلطة أو في التعامل مع مختلف التهديدات، وتؤثِّر هذه الاعتبارات في تسريح وإقالة القيادات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وتوجه الجنود الواقفين في نقاط تمركز ثابتة تطلق نيرانًا عشوائية لتُردي كل من يشكُّون فيه قتيلًا، سواء كان بشرًا أو إبلًا أو ماشية، بلا تحقق أو أدنى خوف من المساءلة(16)

    

اعتماد مصر على جيشها التقليدي متدني التدريب على مستوى الجنود، وهم القوام الأكبر لأي جيش نظامي، أظهر أنه لن يجدي في تحجيم أو دحر موجة الإرهاب في سيناء منذ انطلاقها صراحة في شهور يوليو/تموز وأغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2013. خلال هذه الشهور الثلاثة، قاد مسلحو تنظيم أنصار بيت المقدس حملة مستعرة من الهجمات المتزامنة والمنفردة على مئات الأهداف الثابتة منها وأيضًا معروفة التحركات من كمائن وتمركزات الجيش في قرى جنوب رفح والشيخ زويد والعريش وأيضًا مواكبه المدرعة أثناء تنقلاتها بين المعسكرات وخلال حملات المداهمة. خلال هذه الفترة لم يستطع الجيش المصري تسجيل أي نجاحات تُذكَر في صد الهجمات أو تفادي مئات الألغام الأرضية وكمائن المسلحين التي ضربت مدرعاته بشكل شبه يومي خلال تلك الفترة(17). وأخيرًا، حينما قررت المؤسسة العسكرية المصرية إطلاق رد فعلها الأول، تم هذا بشكل تقليدي أيضًا لا يتناسب مع طبيعة موقع المعركة ولا تفاصيلها. في يوم 4 سبتمبر/أيلول 2013، قامت مروحيات عسكرية مصرية بقصف قرية المقاطعة جنوب مدينة الشيخ زويد، لتوقع فقط خسائر في منازل مدنية ومسجد يرتاده بعض المسلحين وتصيب أربعة جرحى من المدنيين، لتجني بذلك غضبًا وخوفًا بين السكان المحليين بدلًا من أن تُظهر قدرة وفاعلية في التعامل مع غريمها(18)

  

وبالرغم من هذه البداية غير الموفقة، اتضح أن المؤسسة العسكرية المصرية وصُنَّاع قراراتها المتعلقة بسيناء لا يرون أي ضير أو حاجة لتغيير الاستراتيجية بالرغم من سيل النصائح والاستشارات التي قُدِّمت للنظام المصري من شركاء إقليميين ودوليين، حكوميين ومستقلين، بخصوص هذا الشأن والتحذيرات من عواقب اتباع هذا النهج في التعامل مع أزمة سيناء الأمنية(19)

      

    
هدم جسور الثقة

يظل أكبر وأخطر عواقب استخدام الجيش للقوة المفرطة وعدم مراعاة أدنى حقوق المواطنين في العيش الآمن والحماية من الإرهاب، وأيضًا من الخسائر الناتجة عن الحملة العسكرية بالإضافة لسياسة العقوبة الجماعية التي تنطلق من اتهام الدولة وأجهزتها الإعلامية لأهالي سيناء بإيواء الجماعات المسلحة ودعمها، أنها دمرت جسور الثقة التي كانت بالفعل ضعيفة جدًّا مع المجتمع المهمَّش منذ عقود وأتت على ما تبقَّى من فرص لنشر رُوح التعاون ضد عدو مشترك بين أفراد المجتمع القبلي، الرُّوح التي من غيرها يستحيل بناء منظومة استخباراتية ممتدة في كل ربوع شبه الجزيرة من قرى وتجمعات بدوية ومدن وحتى في الصحراء الممتدة والمناطق الجبلية. الحملة العسكرية في سيناء كانت وما زالت ترى في أحسن الأحوال أن المجتمع والمدنيين لا يستحقون اهتمامًا أو حماية أو تعويضًا عن خسائرهم، وفي أغلب الأوقات تراهم إمَّا عائقًا أمام عمل الجيش وقوات الأمن أو عدوًّا متعاونًا وشريكًا مع الإرهاب المسلح. 

 

بين العام 2011 وحتى بداية الحملة العسكرية في 2013، رفضت المؤسسة العسكرية المصرية ثلاث دعوات، طُرحت علنًا وأيضًا في لقاءات مغلقة، من شيوخ وعواقل قبائل السواركة والترابين، كبرى قبائل سيناء، للبدء في تخطيط استراتيجية تنسيق وتعاون مشترك على مستوى المعلومات والعمل العسكري بين القبائل والعشائر البدوية والقوات المسلحة، وأن يتم هذا العمل تحت مظلة الجيش المصري الرسمية وأن يُراعَى أن تشترك فيه كل قبائل شبه الجزيرة. لم يعلن النظام المصري ولا المؤسسة العسكرية أسباب الرفض، ولكن الواضح أن كليهما لم يعِيا أبدًا مدى أهمية هذه الدعوات ولا تأثيرها المؤكد على نجاح الحملة العسكرية في سيناء(20)

   

لم تمر أسابيع على بدء الحملة العسكرية حتى ظهرت الأسباب التي لم يعلنها الجيش صراحة لرفضه التعاون المنظم والقانوني مع قبائل سيناء، فقد كان يستهدف نوعًا محددًا من المتعاونين. 

 

قال أحد عواقل قبيلة السواركة ممن كان لهم جهد في محاولات إقناع الجيش بالتعاون مع القبائل أن "النظام المصري يريدنا أن نكون مخبرين معدومي الكرامة، يتجسس كل منَّا على أهله وأبناء عمِّه، ونحن لن نرضى بذلك تحت أي ظروف أو ضغط". مضيفًا أن الغالبية العظمى من المتعاونين مع الحملة العسكرية عليهم شبهات مختلفة أو ذوو سجلات جنائية وفي بعض الأحيان أحكام قضائية وتاريخهم معروف للمجتمع كله "يريدون شخصًا يخدمهم بلا معارضة أو حتى نقاش وبدون أن يعير أي اهتمام لما يمكن أن ينتج عن هذا التعاون"(21)

   

وبالرغم من انتشار وتوثيق عشرات الشهادات من السكان المحليين عن استغلال المخبرين المحليين لصلاتهم الأمنية في تسيير أعمال تهريب وبلطجة، واعتقال العشرات لمجرد أن مخبرًا ادَّعى أن أيًّا منهم على صلات بالجماعات المسلحة أو عليه شبهات إجرامية بلا دليل أو حتى مؤشرات منطقية، إلا أن ظهور فيديو في العام 2017 أكد روايات عدة اتهمت هؤلاء المخبرين بتنفيذ أعمال قتل وتصفية لمدنيين عزل ومن بينهم قُصَّر خارج نطاق القانون، ليس في الخفاء وتحت جنح ليل الصحراء ولكن بزي الجيش المصري وتحت إشراف ضباطه وجنوده بينما نقلتهم عرباته الحربية(22)

      

  

وبينما يستمر الجيش المصري وقياداته في الاعتقاد بأن هذا نهج أمني فعَّال، بالرغم من كونه خرقًا صريحًا للقانون المدني والعسكري، إلا أن المصادر المحلية تعتبره السبب الرئيسي في فشل الحملة العسكرية في جمع المعلومات الاستخباراتية وخسارة ثقة وتعاون الغالبية الساحقة من السكان المحليين، "بعد تعرض المواطنين للأذى والاعتقال وتدمير بيوتهم ومزارعهم لن يحاول أي منهم معاونة الجيش بسبب الخوف الشديد وأيضًا الغضب، وفوق هذا قناعتهم بأن الدولة لن توفر لهم أي حماية من مسلحي ولاية سيناء وهم يذبحون المتعاونين علنًا"، هكذا تكلم أحد سكان قرى جنوب الشيخ زويد وقد دُمِّر منزله ومنازل إخوته وأبناء عمومته المتراصَّة بجانب بعضها حتى أزيل آخرها في العام 2014 على يد قوات الجيش، "إذا رأى شخص أحد المسلحين يقوم بزرع لغم أرضي لن يجرؤ على فعل شيء بسبب الخوف من طرفي المعركة، الإرهابيين وقوات الدولة، وسيدير وجهه ويصمت خوفًا على سلامته وسلامة أهله"(23)

 

لا يتطلب شأن سيناء الأمني والعسكري كثيرًا من الخبرة أو التحري لمعرفة أن أي فراغ أمني سيملؤه الإرهاب، وأي تزعزع في الثقة بين المجتمع وقوات الدولة وأي نقاط ضعف في السياسة الأمنية والعسكرية سيستغلها المسلحون فورًا ويعملون عليها بلا كلل لتحقيق مكاسب ترويجية لفكرهم ولتجنيد مسلحين جدد وتعبئة نفوس المواطنين ضد الدولة، وأيضًا لتخطيط هجمات رأيناها تنجح في إصابة أهدافها واحدًا تلو الآخر. 

   

وقد كان، منذ العام 2013 والجماعة المسلحة في سيناء تتأقلم يوميًّا، بل على مدار الساعة، مع قصور القدرة المخابراتية والمعلوماتية للحملة العسكرية المصرية بل وتتخذ منها عنصرًا أساسيًّا في التخطيط سواء لسبل التخفي والتنقل أو الإعداد للهجمات وتنفيذها. ولم يجد تنظيم أنصار بيت المقدس خلال مرحلة إثبات قدراته العالية، قبل أن يبايع تنظيم الدولة الإسلامية، عنصرًا معاونًا أكثر من مداهمات الجيش المصري للقرى الممتدة جنوب رفح والشيخ زويد وضربها بقوة مميتة سواء من الجو أو على الأرض. وبينما كان الجيش يدمر القرى ويعتقل أهلها نهارًا كان المسلحون يظهرون ليلًا ليهاجموا كمائن وتمركزات الدولة ويزرعون ألغامهم وهم على يقين أن كل من يراهم، إن رآهم أحد وهذا أمر نادر الحدوث، سيدير وجهه خوفًا على حياته. 

   

لم يتوقف المسلحون عند ذلك، ولكن خرجوا ليوزعوا أموالًا ومواد غذائية على المواطنين ممن لم تتوفر لديهم القدرة على النزوح بعيدًا عن وطأة المواجهات المستعرة ومداهمات الجيش المستمرة(24). وبينما اعتقل الجيش آلافًا من السكان المحليين لمجرد هوياتهم التي تدل على موطنهم في المناطق الملتهبة، خرج المسلحون في محاولة لكسب ود المواطنين برسائل ترويجية عن قصف الجيش المستمر وعن ملاحقتهم المتعاونين فقط دون المساس بالسكان العاديين. وبالرغم من أن أفعال الجماعات المسلحة ورسائلها لم تكن لتنطلي على مجتمع قبلي عريق وله خبرات طويلة مع الحرب والتهميش والقمع البوليسي، إلا أن القمع المستمر وأيضًا الخسائر المتوالية كانت كفيلة بإقناع العديد بالانضمام لصفوف المسلحين. 

     

undefined

  

لو لم يكن لهذا الفراغ المتسع بين النظام وقواته والمجتمع أثر سلبي حاد ومباشر على الوضع الأمني، ولو لم يمثِّل الفشل والقصور المعلوماتي والاستخباراتي فجوة ينفذ من خلالها الإرهابيون بسهولة متناهية، لما كان لفرع تنظيم الدولة المسمى ولاية سيناء أن يحرك أكثر من مئة مقاتل مدججين بأسلحة ومتفجرات يوم 1 يوليو/تموز 2015، وينجحوا في احتلال مدينة الشيخ زويد، ثاني كبرى مدن إقليم شمال سيناء، وأخذ سكانها رهائن لمدة عشر ساعات وأن يجبروا القوات المسلحة المصرية على قصف أرضها بالطائرات الحربية بعد تكبيل قدرتها على التحرك على الأرض، وهو أيضًا ما لم يحدث في تاريخ جمهورية مصر العربية منذ إعلانها عام 1952 باستثناء حالات الحرب والاحتلال الإسرائيلي لسيناء(25)

    

حملة سيناء 2018 التي يقودها الجيش المصري الآن هي مثال آخر يشرح باستفاضة كيف أن النظام المصري والمؤسسة العسكرية وأيضًا الإدارات المحلية على استعداد لأن ترصد مئات الملايين من الجنيهات للإنفاق العسكري والحكومي ولكنها تغفل أي إجراءات مهما كانت أهميتها لحماية المجتمع وضمان وتلبية متطلباته. منذ بدأت الحملة، عُلِّقت الدراسة في إقليم شمال سيناء لأمد غير مسمى، وأُغلقت محطات الوقود بأمر من السلطات الأمنية، بينما يقوم أعضاء مجلس الشعب بمفاوضات مع القيادات العسكرية والأمنية للسماح لبعض ناقلات المواد الغذائية بالدخول لمدن شمال ووسط سيناء للتخفيف من موجة الغلاء التي تبعت إطلاق الحملة العسكرية وإغلاق الإقليم على من فيه. أما المواطنون، فمشهد وقوفهم في انتظار كراتين المواد الغذائية التي توزعها قوات الجيش أبلغ تعبير عن موقعهم المتدني في سلم أولويات انظام المصري. 

    

إعادة إنتاج الفشل

منذ أن قام مسلحو سيناء بأول تفجير لخط أنابيب الغاز الواصلة بين مصر ودول شرق المتوسط، يوم 5 فبراير/شباط 2011، وقبل أن تجبر الثورة المصرية حسني مبارك على التنحي، والعلاقة الطردية بين السلطات المصرية والجماعات المسلحة تثبت نفسها مع كل هجوم بغضِّ النظر عن الأهداف وحجمها. فكلما تراجعت فعالية السياسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية كانت ضربات الإرهاب أكثر عددًا وأكبر حجمًا، وكلما زادت الفجوة بين السلطات والمجتمع زادت معها حرية الجماعات المسلحة في التحرك والتخطيط والتنفيذ. وبالرغم من هذا النسق الممتد لسنين كافية لتحليله وفهمه وتأكيد معطياته، إلا أن النظام المصري يصر على نظرية لم يعرفها العالم خارج بيانات المتحدثين العسكريين المصريين التي تقول: إن كبرى ضربات الإرهاب كانت "نتيجة للنجاحات المتوالية للعملية العسكرية في سيناء". 

—————————–

(الرابط الأصلي)