شعار قسم ميدان

كيف غزت المسلسلات التركية العالم؟

ميدان - فن

في الـثلاثين من (أغسطس/آب) عام 2008، تحلّق 85 مليون عربي حوّل أجهزة التلفاز الخاصة بهم، وفي صمت مهيب، أخذوا يتابعون الحلقتين الأخيرتين من مسلسل "نور"(1). وفي 2014، كان مسلسل "ألف ليلة وليلة" التركي الأكثر مُشاهدة في تشيلي، حتى صار آلاف الآباء الجدد يطلقون اسمي "أنور" وشهرزاد" على أبنائهم حديثي الولادة تيمنًا ببطلي المسلسل(2). أما في باكستان، فقد صارت الدراما التركية تُشكل تهديدًا حقيقيًا لصناعة الدراما الوطنية..(3)

 

 قفزت الدراما التركية قفزة هائلة في وقت قصير نسبيًا، فبينما وقفت عوائدها من تصدير المسلسلات للخارج عند رقم هزيل في 2004-10 آلاف دولار(4)، استطاعت أن تضاعف هذا الرقم مئات المرات لتحقق صادراتها للدراما 350 مليون دولار عام (5)2016. أتت تركيا بهذا وراء الولايات المتحدة مباشرة وصارت ثاني أكثر بلد تصديرًا لمسلسلاته للخارج(6).

 

بدا كما لو أن الشهرة الفائقة التي لاقتها المسلسلات التركية المُدبلجة باللهجة السورية في العالم العربي النواة التي انطلقت منها لتسافر للعالم أجمع، وتجد مثل تلك الشهرة في مختلف البلدان. لكن، وعلى اختلاف الثقافات التي حلقت إليها المسلسلات التركية، بقت أسباب رواجها واحدة، وهي ما جذبت في الأساس المشاهدون في الوطن العربي إليها. فما هي تلك الأسباب؟

    

دراما بالنكهة الشرقية
undefined
  
أحد أهم أسباب الانتشار الواسع الذي حققته الدراما التركية هو كوّنها وليدة لمجتمع شرقي، تنعكس عاداته وتقليده على حبكاتها وأحداثها. فقبل أن تدخل الدراما التركية لدائرة الضوء، ظلت الدراما الأميركية وحدها المهيمنة لعقود بلا مُنافس أو بديل. وبالرغم من القدرة العالية التي امتلكتها تلك الدراما على اجتذاب جمهور عالمي، إلا أنها ظلت في الوقت نفسه تقف على مسافة بعيدة من فئات عريضة من الجماهير. فالمُنتمين لمجتمعات شرقية\دينية\محافظة، يتابعونها بهدف المُتعة وحدها، دون أن يجدوا بها انعكاسًا لهم أو تعبيرًا عنهم. وذلك لأن خلطة تلك الدراما المُعتمدة بشكل أساسي على جرعات عالية من العُنف والجنس، وإن نجحت في اجتذابهم إليها، إلا أنها ظلت في الوقت نفسه تشعرهم بالاغتراب عنها. (7)(8)

 

في تقرير الـBBC عن شهرة الدراما التركية في أميركا الجنوبية، تحدثت امرأة من تشيلي تُدعى ميرا عن هذا. يروي عنها المقال: "تقول ميرا إن فهم هذه المسلسلات والتفاعل معها أسهل عليها من التفاعل مع المسلسلات الأميركية، كما أنها تحب الطريقة التي تركز بها المسلسلات التركية على الرومانسية القديمة، وذلك مقارنة بما تصفها بالمبالغة الدرامية التي تنتجها هوليوود، والتي ترى أنها تحمل العديد من المضامين الجنسية."

 

وتقول ميرا: "رغم أن تركيا بعيدة جداً، إلا أنني أجد تشابهاً بين ثقافة أهلها وثقافتنا. وعندما بدأت في مشاهدة هذه المسلسلات، أدركت كم كانت ترهقني مشاهد العنف والجنس في المسلسلات الأميركية".(9) وكمثال على الأشياء التي يطالعها الشرقي في الدراما الأميركية دون أن يجدها في مجتمعه، هو تصوير تلك الدراما الدائم لما تقوم عليه مجتمعاتها الغربية من فردانية. فغالبًا ما تدور أحداثها حول البطل الفرد، أو البطل الفرد مع عائلته النووية*، مع غياب تام للأسرة المُمتدة** الموجودة في القلب من كل مجتمع شرقي.

 

وعلى العكس من الدراما الأميركية، نجحت الدراما التركية في نقل نسيج المجتمع الشرقي، المُحافظ، الديني على الشاشة، ليجد بها المنتمون لتلك المجتمعات انعكاس لهم. فبدل من العُنف والجنس، تعتمد تلك الدراما على الرومانسية المُحببة التي كثيرًا ما يكون بطليها زوج وزوجة في إطار الزواج الشرعي. كان هذا أحد أهم الأسباب التي أدت لنجاح مسلسل "نور" في المجتمعات الشرقية، حيث صور علاقة الحب القائمة بين زوجين وما بها من لحظات رومانسية.(10)

   

أبطال مسلسل
أبطال مسلسل "نور" التركي
   

كما يأتي في نفس المسلسل نموذج للأسرة الممتدة، ومفهوم "كبير العائلة". تقول الباحثة أليكسندرا بوتشيانتي عن هذا: "في المسلسلات التركية، يفرض الشكل البطريركي للعائلة نفسه بقوة عبر مشاهد عدّة تَبرُز فيها السيطرة التي يمتلكها كبير العائلة. في مسلسل "نور"، يُمثل هذا الدور جد مُهند "فكري بيه". فتوجد بكل الحلقات مشاهد لغذاء عائلي يترأسه فكري بيه، وفي التجمعات التي تتشارك فيها العائلة احتساء القهوة، نجده يلعب على العود."(11) وتقول أحد متابعات الدراما التركية من اليونان: "تُذكرني المسلسلات التركية بما كان عليه المجتمع اليوناني مُنذ عشرين أو ثلاثين عامًا. هكذا كبرنا هنا أيضًا. نفس الحس العائلي، مُساعدتنا لبعضنا البعض ولجيراننا، كل الأشياء التي ميزت المجتمع اليوناني وأخذت شيئًا فشيء في التلاشي."(12)

 

إنتاج ضخم ينأى بالمشاهد عن واقعه المضطرب
جاء انتشار المسلسلات التركية في المنطقة العربية بالذات في وقت يموج بالاضطرابات والقلاقل. وقد أخذ التلفاز يعكس ذلك الوقع وما به من عدم استقرار: فمن نشرات اخبار تفيض بصور المظاهرات والقتلى، لبرامج حوارية تُنّظر للأيديولجيات السياسية المُتناحرة، لأعمال درامية امتلأت هي الأخرى بالعُنف، بدا أن لا مفر أمام المُشاهد من الأشياء التي تثير ضغوطه النفسية. حينها، أتت الدراما التركية لتكون بمثابة الملاذ الآمن. فمن المناظر الطبيعية الجميلة التي تصورها، للبيوت الواسعة الفخمة التي تدور في كثير منها الأحداث، لأبطالها من رجال وسيمين ونساء الجميلات، للعلاقات الموجودة بينهم وما تفيض به من رومانسية، بدت الدراما التركية بكل هذا بعيدة كل البُعد عما يدور في الشارع العربي من اضطرابات يود المشاهد لو يستريح منها ولو ساعة واحدة في اليوم. (13)

 

تقول أحد مُتابعات المسلسلات التركية من مصر عن هذا : " القصة اللي شدتنا أو شدت مُعظم المصريين للمسلسلات التركي هي نور. لأن المسلسل بتاع نور في الوقت اللي جه فيه كان المسلسلات المصرية معظمها عن العنف والحرب والظلم. نور كان فيه شيء من رومانسية المصريين كانوا في حاجة أنه يشوفوها."(14) وتقول عهود سالم من العراق عن سر حبها للمسلسلات التركية: "تلك المسلسلات تُرينا أجزاء من الحياة مفقودة في أوطاننا".(15) 

    undefined

  

كما ترددت بعض الأنباء عن وقف إطلاق النيران بين فتح وحماس في موعد أحد المسلسلات التركية ليتمكن كلا الفريقين من مُتابعته. يقول دانيال عبد الفتاح مُمثل قنوات الـMBC في تركيا عن هذا: "لو كان في مسلسل أو فيلم ما قصة حب أو رومانسية، يستطيع في تلك الحالة وضع هدنة للعراك وإراقة الدماء."(16) ذاك الشكل الجميل الذي تخرج به المسلسلات التركية والذي صار مع الوقت من أهم عوامل الجذب إليها ثمنه باهظ للغاية. فتصل تكلفة انتاج الساعة الواحدة في بعض الأحيان لمائة ألف دولار، بينما لا تزيد التكلفة الإنتاجية للمسلسلات العربية في أي حال من الأحوال عن أربعين ألف دولار. (17)

من نساءٍ إلى نساء
من الـ85 مليون عربي الذين شاهدوا الحلقتين الأخيرتين من مسلسل "نور"، كان عدد النساء 50 مليون(18). الغالبية التي تشكلها الإناث من حيث المُشَاهدات ليست بالشيء الجديد، فالمسلسلات التلفزيونية في الولايات المُتحدة ببدايتها كانت موّجهة أصلًا لربّات البيوت. لكن في حالة المسلسلات التركية، فالقائمون على كتابة المسلسلات التي لاقت رواجًا كبيرًا في المجتمع العربي- سواء "نور" أو "فاطمة" أو "حريم السلطان"- كُن أيضًا من النساء.(19)

 

خلق هذا حالة خاصة صانع المُحتوى والمُتلقي فيها من نفس النوع، ما كوّن رابط من الصدق والحميمية بين المُشاهِدات وبطلات الأعمال، كانت فيه البطلات ترجمة فعلية لما تحلم بأن تكونه كثير من النساء، وأعطت الشجاعة لبعض المُشاهِدات على السعي وراء ما يُحلمن به بعد أن رأينه مُتحققًا عبر البطلة التي تُشبههن. فبطلات "نور" و"فاطمة" و"حريم السلطان" تبدأ بهن القصص مُنكسرات ولا تنتهي إلا وقد انتصرن، ما يجعل مُتابعتهن يُردن لأنفسهن نفس هذا النصر في حيواتهن الفعلية.(21)(20)

     undefined     

يرصد الوثائقي "قسمت" هذه الحالة، فيُجري مُقابلات عدّة مع كاتبات المُسلسلات وبطلاتها وبعض من المُشاهِدات اللواتي أثرت بهن تلك المُسلسلات تأثيرًا كبيرًا. تقول مريم أوزيرلي بطلة "حريم السلطان" عن تأثير المُسلسلات: "يخطر ببال كثير من المُشاهدِات خاطر: "كان من الممكن أن أكون أقوى…المُسلسل ألهمني" فالمسلسل يُشبه الكتاب، تقرأ الكتاب وتُخرج منه برسالة، وكنتيجة لهذا قد تتغير كثير من الأشياء في حياتك."".

 

وتروي أحد السيدات في الوثائقي قصتها وتقول: " أنا امرأة متزوجة لي 13 سنة حياتي كانت تعب وعذاب، وكان ممنوع عليا لا أروح ولا أجي، وحتى الأصدقاء ممنوع يفوتوا عليّ عندي بالبيت إلا باستشارة شخص.  كتير اتأثرت بمسلسل فاطمة، كيف كانت مظلومة لحتى  إجي مين ساندها ووقفت أخدت حقوقها ورفعت قضايا وراحت محاكم. والمسلسل التركي هو اللي خلاني آخد الخطوة لاتجرأت اني أطلع عالمحكمة وأرفع دعوة طلاق والحمد لله كسبتها".

 

كما تُمثل البطلة التركية في تلك المُسلسلات المرأة العربية وما تحلم بأن تكونه. فلا هي في مُتحررة تمامًا ومُتنصلة في هذا عن دينها كالمرأة الغربية التي تعجز الشرقية عن رؤية نفسها فيها، ولا هي في الوقت ذاته مقموعة محرومة من حقوقها الأساسية كبعض النساء في المُجتمعات المُتزمتة. تحقق البطلة التركية في هذا المُعادلة الصعبة، فتصل إلى ما تُريد وتحافظ في الوقت نفسه على عادات وتقاليد مُجتمعها.

 

 تَقول الممثلة التركية "بيرين سات" بطلة مُسلسل فاطمة عن هذا: "تعرف المشاهدات أننا دولة مسلمة، يَروّن البوسفور، والنساء العصريات يرتدين ملابس يطقن لارتدائها، يرون المساجد، ويبدو المزيج كله رائع. كما يجدن الكثير من الألفة مع فاطمة التي تشبههن، فتوقظ امكانية أن يصبحن هن صاحبات القرار بقلوبهن الأمل." وتقول إيليم كانبولاط احدى مؤلفات مُسلسل "نور": "تُمثل "نور" المرأة التُركية العصرية، فهي ناجحة ومُحتفظة بقيمها الأخلاقية في الآن نفسه." (22)

المصدر : الجزيرة