شعار قسم ميدان

العمارة والفن.. كيف ارتبطت المدينة بروح الإنسان وجسده؟

ميدان - العمارة والإنسان رجل
اضغط للاستماع
  

"من يحتفظ بالقدرة على مشاهدة الجمال لا يشيخ أبدا"

(فرانس كافكا)

     

هناك، بعيدا، على شاطئ البحر أو أعلى جبل نشهد جميعا -بدون نقاش أو جدا بديع خلق الله، يعود عليك هذا الجمال بأفكار وتسابيح نساها عقلك وانطمست توقيعاته في زحام المدينة، إن لحظة إدراك الجمال هي لحظة توقف في الزمن، أو بتعبير آخر تخليد للموقف تحاول فيه جاهدا أن تتشبث بموروث الإنسانية الأشمل وتحتفظ بهذه الصورة في عينيك لتكون فيما بعد معيارا لكل جميل.

 

في فيلم "العمى" (The Blindness) الصادر عام 2012، والمستقى من رواية سيرجيو سراماغو بنفس الاسم يصف فكرة تجريدية تروي قصة مدينة بعدما فقد سكانها حاسة الإبصار فجأة، فكانت الفوضى من أهم التأثيرات التي حصلت في مدينة من العميان وصار القبح يتمدد في كل مكان وما تبعه من قبح في الأخلاق والمشاعر الإنسانية، وفي أفلام وروايات الديستوبيا التي تتخيل واقعا عمرانيا مظلما وفاسدا يحكمه الشر والقتل والسلطة الشمولية تخرج لنا المدينة بلونها الرمادي المتجرد من الإنسانية، تتوتر فيها العلاقة بين المدينة وساكنيها لتصبح في حالة قطيعة شعورية وعدم المقدرة على بناء أي من الذكريات أو حالات الانتماء للمكان بأي شكل.

 

من جانب آخر، فإن الكثير من النظريات الجغرافية ناقشت تأثير المكان على الإنسان أيضا، وكيف أن التجارب البصرية التي يتعرض لها الإنسان تنسج خبراته ومشاعره، عبّر عن ذلك العمراني المعماري ونيستن تشرشل: "نحن نصنع الأماكن، وبعد بنائها تصنعنا هي". إنّ السؤال حول العلاقة بين الفنون البصرية وبين ذات الإنسان سؤال يؤسس إطارا أصيلا لتعريف نطاقات الهوية والخبرات ورؤية الكون، إنّ أعيننا تعتبر مصدرا أوليا لتلقي معارفنا، لذا فإنّ تكرار نمط معين في الفن يؤصل حالة فلسفية تعكس تعريف الإنسان لنفسه في مرحلة زمنية معينة.(1)

  undefined

 

عندما نبحث في مجال يختص بنطاق الإنسان نبدأ من نقطة يمكننا بها فهم احتياجاته وتأصيل هذا الاحتياج علميا، غير أنّ الاحتياج للفن يعتبر احتياجا فريدا من نوعه من نواح مختلفة، يذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري قصة تلك المرأة التي احتاجت أن تصنع رداء يحميها من برد الشتاء في ظروف صعبة تكاد بها أن تهلك، لكنه تعجب شديد العجب عندما وجد أن المرأة لم تتنازل وهي في هذا الظرف أن تضع على هذا الرداء نقوشا ورموزا فنية بسيطة تعبر عن أشياء عزيزة عليها، إن هذه القصة رغم بساطتها قد تنقلنا إلى ملاحظات مهمة حول أصل الاحتياج الإنساني للفن.(2)

 

يذكر الدكتور رفعت جاردجي(3) الفيلسوف والمعماري العراقي أن العمران يقع تحت أحد احتياجات الإنسان الأساسية، فرأيه أن الإنسان يولد بنقص متأصل في كيانه البيولوجي، لذا لا بد له من إرضاء هذا النقص ليتمكن من تأمين بقاء آمن ومريح، فيقدم الفكر لابتكار مصنعات يسخرها لإرضاء متطلبات هذة الحاجة، والعمارة أحد المصنعات التي يبتدعها فكر الإنسان، لذا فإن رؤيتنا الشكلية للعمارة وتصورنا لها يقترن بوظيفة تحملها، كأننا نسخر أداة واحدة لإرضاء أكثر من قيمة، سواء كانت هذه القيمة حاجة متأصلة في نقصنا البيولوجي أم في قيمنا المجتمعية، سواء كان هذا البناء بيتا أم مصنعا أم معبدا فإننا نبحث في طياته عن بقايا نقص عندنا، هذه هي بداية قصة البناء.

 

لذا فإن التراث العمراني الذي تقع أعيننا عليه يعتبر وثيقة تاريخية شديدة الدقة تقرأها بين يديك ككتاب مفتوح، فالعمارة مرآة لحالة مجتمعية وسياسية وأخلاقية وعاطفية من جهة، وكفلسفة للحياة وتصورات للدين بل وللأساطير من جهة أخرى، في الأندلس والقاهرة الفاطمية والمدن الإيرانية كانت الزخارف الإسلامية مثالا لحالة من التشبع الجمالي باللغة العربية ومفرداتها، إنّ الحرفة التقليدية كانت تصر على الحفاظ على مكونات الجمال والخصوصية الثقافية التي تعبّر عنها في آن واحد.

  

     undefined

  

یذكر الدكتور إسماعیل راجي الفاروقي في كتابه التأسیسي "التوحید: مضامینه على الفكر والحیاة" أن المسلمين حول العالم استخدموا المفاھیم القیمیة النابعة من الدین لتطویر نماذج تخرج ھذه القیم في صورة تحمل الكثیر من الجمال، فمثلا تَجاوُبُ المسلمين حول العالم من صمیم قلوبھم مع نداء الصلاة والتلاوات القرآنیة المجوّدة حتى وإن كان المستمع لا یفھم معاني الكلمات فإنھم یتفاعلون معھا بملكة الحس والعاطفة لا ملكة التعقل والفھم، ویتمثل ھذا التفاعل الجمالي كدلالة على فھم أعمق للنصوص وارتباط وجودي بھا.

 

بلغت قوة القیمة الجمالیة للإسلام والوحدة الجمالیة التي شكّلت تولیفة الثقافات بالغة التنوع حدا یشعر معه الراصد لھا أنه یسیر في أرض واحدة مزینة بالزخارف العربیة وبفنون الخط العربي. إن التوحید كقیمة حاكمة بین علاقة الإنسان والطبیعة حتّمت على الإنسان التعامل مع الفن على أنه مخلوق وغیر متعال وخادع لسنن الزمان والمكان ولا یصله أي شيء منه أن یكون إلھیا من أي جانب، أي أنه لا یمكنه أن یكون شبیھا بالخالق أو حتى ممثلا له -عز وجل-. من ھنا لنا أن نفھم أن الطبیعة الجمالیة في الفن الإسلامي قائمة على محاكاة للاستكشاف والإیضاح لا محاكاة للمنافسة والتجسید والمطابقة كما نجد في الفنون الإغریقیة التي اعتبرت ذروة الفنون الجمالیة ھي تصویر الآلھة ورصد دراما الصراعات بین الآلھة كعمل فني.(4)

  

تبدو العمارة الحداثية محض مسوخ من الحجارة، حيث تغيب التصميمات التي تكفل الحق في الخصوصية والتمتع بها داخل الحيز المكاني للحياة الخاصة (رويترز)
تبدو العمارة الحداثية محض مسوخ من الحجارة، حيث تغيب التصميمات التي تكفل الحق في الخصوصية والتمتع بها داخل الحيز المكاني للحياة الخاصة (رويترز)

 

في المقابل كوجه آخر للعملة جاء القبح، ولا يعبر هنا عن حالة فقدان لمعايير الجمال البصرية فقط، بل فقدان لأصالة هوياتية وارتباط بالإنسان من الأساس، نعم بتنا نحيا ضمن دائرة جحيم العمارة المبتذلة والسوقية التي تفتقر إلى الروح الإنسانية أو حتى روح القومية، بحيث تبدو العمارة الحداثية وما بعدها محض مسوخ من الحجارة والرمل والإسمنت فاقدة الروح المعمارية وموسيقاها، أو عمارة مستنسخة من أنماط عولمية تتفق مع مجتمعاتها وعصرها وقد لا تتفق وتتناسق مع ثقافاتنا الوطنية والمحلية، حيث تغيب التصميمات التي تكفل الحق في الخصوصية والتمتع بها داخل الحيز المكاني للحياة الخاصة للشخص أو لأفراد الأسرة وتبرير ذلك بالعشوائية، وعدم احترام وإقرار الحق فى السكن الصحي إلى آخر هذه التبريرات التي ساهمت -مع غياب السكينة العامة في المدن- إلى أن يكون السكن ضيقا ومكتظا بأفراد الأسرة، وملتصقا بغيره من الوحدات السكنية، ومتداخلا مع المساكن والبيوت الأخرى إلى أن أصبح جحيما أرضيا بلا نزاع، حيث سهولة التنصت والتلصص من الجيران، وضوضاء الطرق الضيقة وأصوات الباعة الجائلين، ويعود السكن كفضاء للمجال الخاص جحيما وصخبا بديلا عن أن يكون فضاء للحرية الشخصية وتجلياتها بعيدا عن العيون المتلصصة والآذان المتنصتة، هذا بالإضافة إلى تنصت السلطات على هواتف المواطنين لا سيما من ذوي التوجهات السياسية أيا كانت!

 

إن الفكر الكامن وراء العمارة لا ينفك عن هيمنة السلطة في أي حال، والتطور التاريخي للسلطة في العالم -بعد ثورة الصناعة والشبكات وبعد إرث استعماري طويل في العالم العربي- أثر على كل المنظومات والوظائف التي يحتاجها المجتمع كالتعليم والصحة والبناء، وانتقلت العمارة من حالة فنية تعبر عن هوية ساكنه إلى مجرد فرصة جدية لاستغلال احتياج الإنسان للحصول على مسكن. إن الارتباك الذي أحدثته الدولة الحديثة في علاقة الإنسان بالأرض كان كافيا لانقلاب بنية العمارة من كونها وظيفة وفن يعبر عن الفرد داخل المدينة إلى كونها أداة سيطرة رمزية جديدة.

  

ما إن ترتبك هذه العلاقات بين احتياج الإنسان للسكن وبين حاجته للجمال يصل المجتمع بشكل عام إلى تعطيل قدرة الاستمتاع بالوجود، فتنتج حالات اجتماعية سيكولوجية مريضة تعجز فيه عن إنتاج تطور في التشكيل البصري المعبر عن الهوية وتلتزم بأشكال و نصوص معينة بشكل رديء تنتشر في المباني والمساجد بل وحتى نوع الطعام. يقول الدكتور رفعت جاردجي في كتابه "صفة الجمال في وعي الإنسان" أنه مع الثورة الصناعية وابتكار المكننة والمعاصرة؛ ظهر نوعٌ جديد من الأفراد وظهرت معه صيغ جديدة من الإنتاج تفتقد إلى التقييم وأصبح الجمال يقتصر على جمال المشتريات بأشكالها الخرقاء البعيدة عن أي هوية أو روح.(5)

المصدر : الجزيرة