شعار قسم ميدان

لماذا يستمر المبدعون بأعمالهم رغم اليأس والحزن والفشل؟

ميدان - فن 1
اضغط للاستماع
أمام إحدى نوافذ مشفى "سان بول دي موسول" النفسي يجلس رسام يسمى فنسنت في غرفته التي يخضع للعلاج بها، يراقب المارة والحقول الشاسعة والأشجار من نافذة الغرفة، وينتظر متلهفا أن يسمح له الطبيب بالاستمرار في رسم لوحاته مرة أخرى، إذ إن حاله استقرت كثيرا بعد نوبة الصرع الأخيرة التي عانى منها.
   

كان يشعر بالوحدة الشديدة، بعد معاناة مع الفشل المتكرر في عمله وفي الحب، والذي كان يعتقد أنه الشيء الوحيد القادر على منح حياته الفرح والمعنى، ورغم إصراره الشديد على الاستمرار في رسم اللوحات بغزارة إلا أنه لم يجد من يشتري لوحاته، لكنه بالرغم من ذلك استمر في الرسم، وعندما سمح له الطبيب بمعاودة الرسم، رسم من داخل المصحة لوحته "ليلة مرصعة بالنجوم" التي تعد في وقتنا الحالي إحدى أهم أيقونات الفن الحديث وأشهر لوحات فنسنت فان غوخ وأكثرها غموضا وإثارة(1).

 

كان يقضي الوقت في الرسم أو كتابة الرسائل إلى أخيه ثيو، صديقه ورفيقه الوحيد، تلك الرسائل التي تعتبر واحدة من أجمل النصوص الأدبية التي يمكن للمرء قراءتها، وبالرغم من حزنه ومرضه وفشله في بيع لوحاته إلا أنه كان يشعر أن ثمة شيئا ما مازال قادرا على أن يشعره بالحيوية، فكتب إلى أخيه ثيو يقول: "أنا لا أشعر أنني على قيد الحياة إلا عندما أرسم"، وفي عشر سنوات فقط هي المدة التي قضاها فنسنت في ممارسة الرسم منذ بدأ في السابعة والعشرين إلى أن توفي وهو في السابعة والثلاثين، ترك مئات الرسائل وأكثر من 800 لوحة غيرت وجه تاريخ الفن وأصبحت موضع بحث ودراسة من أهم العلماء والباحثين المهتمين بالإبداع(1).

تطرح تجربة فان غوخ سؤالا: لماذا استمرت رغبته في الرسم متقدة بلا توقف رغم اليأس والفشل والحزن الشديد؟ ربما ليست تجربة فان غوخ وحده التي تثير هذا التساؤل، في الحقيقة معظم الفنانين والمبدعين في جميع المجالات يتمتعون بقدرة لافتة على المبادرة ومواصلة الاتجاه بغض النظر عن مدى نجاحهم أو فشلهم، أو حتى عدم خروج أعمالهم إلى النور؛ فمثلا استمرت الشاعرة إيميلي ديكنسون في كتابة ما يزيد عن 1700 قصيدة لم ينشر منها سوى سبع قصائد ولم تنسب لها(2)، ولم تتوقف فيفيان ماير عن التقاط الصور البديعة التي لم يرها العالم أبدا إلا بعد وفاتها، والكثير من الأدباء والفنانين الأخرين الذين لم تقدر أعمالهم إلا في نهاية العمر أو حتى بعد أن فارقوا عالمنا(3).

الاستغراق… سر المزاج الإبداعي
بورتريه رسمه فان غوخ لنفسه وهو يحمل أدوات الرسم (مواقع التواصل)
بورتريه رسمه فان غوخ لنفسه وهو يحمل أدوات الرسم (مواقع التواصل)


"إنني أعمل كما لو كنت ممسوسا، في حالة أشبه بالجنون الصامت وبشكل يفوق إيقاع عملي في الماضي إنني أناضل بكل قواي للتمكن من فني وأقول لنفسي دائما إن النجاح سيكون هو الشعاع الذي يضيء خلال مرضي ومتاعبي، إن الفرشاة تجري بين أصابعي كما يجري القوس على الكمان"

(فان غوخ)

هل جربت من قبل الانخراط في مهمة إلى حد فقدان الإحساس بالزمن؟ أن تمر عليك الساعات دون أن تشعر بها، أن تظل هادئا ومستمتعا ومنتبها ومتحمسا وتشعر برضا داخلي عميق؟ يطلق علماء النفس على هذه الحال "الاستغراق" (flow) أو التدفق، فما هو الاستغراق وهل حال الاستغراق تلك هي سر المتعة التي يختبرها المبدعون؟

صاغ عالم النفس ميهاي تشكسيميهاي مصطلح "الاستغراق" أو "التدفق" (flow) عندما كان يجري دراساته وأبحاثه في علم نفس الإبداع، يقول تشكسيميهاي إن كثيرا من المبدعين والشعراء والفنانين والكتاب والمخترعين ورواد الأعمال وأصحاب الأعمال العادية، الذين شملتهم دراسته، كانوا يرون أن التدفق هو "الحال المثلى المكتملة من السعادة والشعور بالرضا والامتلاء"(4).

بحسب تشكسيميهاي، يحدث الاستغراق عندما نكون منخرطين في مهمات أو أنشطة قادرين على السيطرة عليها، لكنها في الوقت ذاته تتطلب مهارة عالية وتمثل تحديا محفزا لنا وتكون لها دوافع جوانية لدينا، "كما يتعين أن تكون هناك فرصة لانجاز المهمة إذا كان لحال الاستغراق أن تحدث، ويتعين أن يكون هناك أهداف واضحة وإرجاع أثر مباشر، تتطلب تلك المهمات تركيزا كاملا بحيث نصبح منخرطين فيها تلقائيا (من دون بذل جهد إرادي للانخراط) وبعمق، بحيث ننصرف عن التفكير في هموم الحياة اليومية وقضاياها"(5).
وهذا يشبه كثيرا ما قاله المخرج وودي آلن عندما سئل عن معنى الحياة، إذ قال إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعول عليه هو التشتيت، وأن ما يدفعه لصناعة الأفلام هو تشتيت نفسه عن هموم الحياة اليومية، عن طريق التركيز في صناعة الأفلام من خلال وضع بعض التحديات والانخراط في تحقيق النجاح بها.

يتلاشى شعورنا بأنفسنا أثناء الاستغراق، لكن هذا الشعور يعود بقوة عند إنهاء المهمة، فيشعر المرء بالنشوة والامتلاء الذاتي والرضا عن عمله وتثمينه، مع تحقق إنجازه وبروزه، ومما يميز حال الاستغراق والتدفق تلك هو الإحساس المختلف بالزمن، فالساعات يمكن أن تمر كأنها دقائق ويمكن أن يحدث العكس(6).

ومن شروط حال الاستغراق أن يكون لدى المرء دافع جواني لممارسة المهمة أو النشاط، وألا يكون مجبرا أو مضطرا للقيام بها لأسباب برانية وخارجية، وتتميز هذه الأنشطة بأنها مرغوبة في حد ذاتها حتى لو حفزت بشكل خارجي في البداية. "يمكن أن نعيش حال الاستغراق لأن هذه الأنشطة تصبح هدفا في حد ذاتها (وليست مجرد وسيلة للوصول إلى غاية) وتحمل مكافأتها الجوانية: حالة الكتاب، الشعراء، الباحثين المكرسين للبحث، ممارسة الهوايات المختلفة، ولو كانت تكلف الكثير من التضحيات، وخصوصا أصحاب القضايا الكبرى الذين يكرسون حياتهم من أجلها حيث لا حدود للبذل والعطاء والتضحية بحماسة"(7).

"أريد أن أعبر عن المشاعر الإنسانية الصادقة و هذا العمل هو الهدف الذي ينبغي أن أكرس له كل حياتي"

(فان غوخ)

شروط ومعوقات حال الاستغراق والتدفق
لوحة فان غوخ
لوحة فان غوخ "مارغريت غاشي في الحديقة" (مواقع التواصل)

وضع تشيكسميهاي مجموعة من الشروط التي يجب أن تكون متوفرة لكي يدخل الشخص في حال الاستغراق، تتمثل هذه الشروط في وجود هدف معين يسعى الشخص لتحقيقه ويمثل له تحديا لمهاراته وقدراته، لكن يظل في إطار إمكاناته وقدرته على إنجازه؛ وأن يمتلك المرء مهارات عالية ويمارسها بتركيز عال مما يجعله ينسى العالم من حوله، وهو ما يسمى بالدافعية الجوانية؛ ومن المهم أيضا أن يوجد أثر مباشر للممارسة في التطور والنمو في العمل؛ يشترط أيضا حضور المرء وتركيزه في اللحظة الآنية (هنا والآن) مما يجعل تركيزه مكثفا جدا نحو ما يقوم به(8).

" تعلم أن تحب أشياء كثيرة، فهنا تكمن القوة الحقيقية! فمن يحب كثيرا، ينتج كثيراً، ويحقق كثيرا، وما يُفعل بحب يُفعل دوما بإتقان"

(فان غوخ)

ربما البشر جميعهم يشتركون في إمكانية الدخول في حال الاستغراق، كل في مجاله المفضل، "ويرتبط الاستغراق أساسا بالشخصية ذات الدافعية الجوانية للانخراط في أنشطة تشكل ممارستها غاية في حد ذاتها، وتحمل متعتها الخاصة"، وتتميز هذه الشخصية بالفضول والانفتاح على الحياة والعالم، والقدرة على المثابرة ومواصلة الاتجاه، ودرجة منخفضة من التمحور حول الذات(9).
ويقول مصطفى حجازي إنه "بالإضافة إلى الاستغراق الفردي فهناك الاستغراق الجماعي، وهناك حالات الوجد في الصلوات، وحلقات الذكر والتأمل والروحانيات، وخصوصا الانخراط الجماعي في القضايا النضالية الكبرى، حيث يذوب الأفراد في القضية التي تصبح هويتهم الذاتية المتسامية، وهو ما يولد حالات الحماسة والعطاء الجماعي بلا حدود"(10).

لوحة لفان غوخ تظهر فيها فتاة منخرطة في القراءة (مواقع التواصل)
لوحة لفان غوخ تظهر فيها فتاة منخرطة في القراءة (مواقع التواصل)

ووضع تشيكسميهاي مصفوفة من أربعة مربعات تشرح الحال المثالية التي يختبر فيها الفرد التدفق، يعبر المربع الأول عن حال من الروتين والحد الأدنى من العمل فهناك قدر ضئيل من التحدي ومن المهارة، أما في المربع الثاني فهناك مهارات عالية لكنها غير مستغلة بسبب قلة وجود الفرص والتحديات، مما يجعل الفرد يشعر بأن عمله في هذه الحال هو مضيعة للوقت وإمكاناته غير قادرة، أما المربع الثالث فهو عكس المربع الثاني حيث الكثير من التحديات مع مهارات متواضعة مما يؤدي بالفرد إلى الاحتراق الوظيفي بسبب الضغوط المرتفعة، أما المربع الرابع فهو الحال المثالية التي يختبر المرء خلالها التدفق، فهنا يوجد التحديات المرتفعة، وفي الوقت نفسه المهارات القادرة على إنجازها مما يجعل إنجاز المهام متعة في حد ذاته(11).

أما ما يعيق الاستغراق فهو الكسل ونقص الهمة والركون للراحة والخمول، وتفضيل حال الراحة على مواجهة التحديات، هذا من ناحية الفرد أما من جانب المجتمع فإن عدم الاهتمام بالطاقات الحية والتنكر للعطاء والاجتهاد يقتل الدافعية الجوانية ويولد مشاعر اللامبالاة والتبلد ويعزز الدافعية البرانية التي تعتمد على القيام بالحد الأدنى الذي يعفي المسؤول من المساءلة(12).

كذلك فإن الثقافة الاجتماعية وفلسفة الإدارة وطرق التنظيم، هي التي تعرض المهارات وتشجعها وتوفر الفرص والتحديات الإنتاجية، كما تعزز الدافعية الجوانية لدى الأفراد، والتي تعد مكوناتها هي (الاستقلال، السيطرة، الإحساس بالدور أو المكانة)، فبدلا من الروتين القاتل والأعباء التي تكسر الظهر،  توجد مهمات متحدية توظف مهارات الناس وطاقاتهم إلى حدها الأقصى(13).

"أكون في أحسن حال حين أهب كل ذاتي للعمل، رغم اعتقادي أنني سأظل وعلى الرغم من كل شيء نصف عاقل ونصف مجنون"

(فان غوخ)

المصدر : الجزيرة