شعار قسم ميدان

فيلم "الطريق الثوري" والثمن الباهظ للإرادة الحرة

فيلم Revolutionary Road ميدان
في منتصف الحلم الجميل يُطلّ الكابوس برأسه القبيح متهكمًا، ساخرًا من سذاجة الاعتقاد بأن ثمة سعادة لا تشوبها شائبة

"إننا وحدنا، دون مبررات؛ هذا ما أعنيه عندما أقول إن المرء محكوم عليه أن يظلّ حُرًا"

جان بول سارتر 

تمامًا في منتصف الحلم الجميل يُطلّ الكابوس برأسه القبيح متهكمًا، ساخرًا من سذاجة الاعتقاد بأن ثمة سعادة لا تشوبها شائبة، منتصرًا على كل الأحلام التي تتبعها "فرانك" و"إبريل" خطوة خطوة، من اللقاء الرومانسي في حفلة راقية، مرورًا بالحبّ المتوهّج، وانتهاءً بالزواج الذي ينبغي أن يكون سعيدًا، حجرًا حجرًا.. من منزليهما المنفصلين، إلى المنزل الذي جمعهما في البداية، انتهاءً بالجنة الصغيرة في الضاحية، تلك المحاطة بمروج بديعة، والمؤثثة بكل ما هو عصري، وهناك طفلان على ما يبدو، طفلان جميلان لا يظهرهما الفيلم كثيرًا.

 

يبدأ الفيلم بأداء "إبريل" على المسرح، إنها تقف هناك محاولة تحقيق رغبتها القديمة في أن تصبح ممثلة، بريق الحلم القديم كان يلمع أمام عينيها من جديد، في هذا السن، وبظروفها العائلية؛ ليس سهلًا أن تحصل على أدوار تبدأ بها مشوارها؛ لهذا تقبل دورًا مسرحيًا صغيرًا؛ لكنها حين أنهت الدور كانت تعلم أنها -أيضًا- تسدل الستار على الحلم الذي رافقها منذ طفولتها؛ تمامًا في اللحظة التي كانت تريد أن تجد تبريرًا لوجودها، ومعنىً لحياتها في تصفيق الجمهور، أو احتفائه، أو كلمات الثناء منه، تدرك "إبريل" أن قدراتها التمثيلية مريعة.  
 

 undefined

الزوج "فرانك" لديه تصورات مباشرة عن الحياة؛ حين يعاني المرء إحباطًا وفشلًا، يجب أن نقوم بمواساته، أليس كذلك؟ بهذه البساطة يحاول في طريق عودتهما التخفيف عنها ومواساتها، وهي تريده -فقط- أن يغلق فمه ويتوقف عن الثرثرة. حين يعلم المرء أنه كان مريعًا؛ كيف يمكن أن تبدو محاولات إقناعه بأنه كان متميزًا؟ لا شيء سوى ثرثرة سخيفة بالتأكيد، إنها تحاول أن تفهم الحقيقة التي انتصبت هائلة لتوّها في وجه رغبتها وحلمها القديمين، "إنها ليست موهوبة" كما أنها ليست ممثلة، خلاصها الذي كانت تبحث عنه ضاع للأبد، وهو لا يريد أن يعطيها لحظة صمت تدفن فيها حلمها بشكل لائق؛ يتشاجران ويهينان بعضهما، نهاية تناسب ليلة تدفن فيها الأحلام.

 undefined

نكسة تلو النكسة، شجار تلو الشجار، تتبع الكاميرات آل "ويلرز"، وتكشف للمُشاهد ما لا يعرفه عن العائلة المثالية. آل "ويلرز" نفسيهما يكتشفان ما لم يكونا يعرفانه عن نفسيهما. هما، الحالمان بحياة مثيرة من الطراز الرفيع، يعيشان الآن مثل أي زوج وزوجة، يقومان بالأدوار النمطية ذاتها، إنهما ليسا أفضل من الجميع كما يريان نفسيهما، تمامًا أمام أعينهما يختفي الوهم، ويدرك "فرانك" أنه يعمل عمل والده الذي كان يسخر منه، ويُفني عمره في نفس الشركة التي أفنى والده عمره فيها. "إبريل" ربة منزل الآن، ترعى طفلين وفي بطنها طفل ثالث، شيء لا تصدقه هي نفسها؛ كلما ثقلت عليهما الحقائق تشاجرا، وكلما تشاجرا تطلب "إبريل" من "فرانك" أن يصمت، وهو -مدفوعًا بخوفه أن يفقدها- لا يستطيع التوقف عن الكلام.

 

تبقى إبريل في المنزل كل يوم، مع أطفالها، وإحباطاتها، ومللها، وسجائرها التي تريدها عونًا لها في احتمال حياتها المُعتلة؛ لكنها تشعل المزيد من السجائر، وتنطفئ هي أكثر فأكثر؛ تصبح وزوجها وحيدين يعيشان سويًا، منعزلين في جزيرتين بعيدتين. على قرب المسافة بينهما؛ في فترة قاتمة كهذه، ما الذي يمكن أن يكون أفضل خيار لاستعادة السعادة؟ بالطبع محاولة تحقيق حلم قديم مرة أخرى!

 

إنهما يعيشان الحياة الخاطئة، ويبحثان على الدوام عن خلاص ممكن، كيف يمكن أن يكون الخلاص أكثر شاعرية؟
إنهما يعيشان الحياة الخاطئة، ويبحثان على الدوام عن خلاص ممكن، كيف يمكن أن يكون الخلاص أكثر شاعرية؟
 

قرار يليق بشابين مقبلين على منتصفي عمريهما، ساذجين بما يكفي للذهاب في رحلة للبحث عن السعادة، عاقلين بما يكفي ليحتاجا مجنونًا يصرخ بالحقائق الصادمة أمام أعينهما المذهولة.
 

نعم؛ إنهما يعيشان الحياة الخاطئة، ويبحثان على الدوام عن خلاص ممكن، كيف يمكن أن يكون الخلاص أكثر شاعرية؟ إنها باريس، سيسافران إليها، وكل شيء سيلتزم -بالتأكيد- بأن يحقق لهما الحلم المثالي؛ لأن الحياة يومًا ما يجب أن تصبح أفضل. على "إبريل" أن تتحمل مسؤولية ذلك إذن، وأن تقود رغباتها الأصيلة نحو فعل يخرجهما من بؤسهما. تُقدم في سبيل إقناع "فرانك" كل ما تستطيع، ستكون الحياة وردية تمامًا، سيقرأ ويمشي ويستمتع؛ ريثما يكتشف ماذا يريد حقًا، يقتنع في البداية، تنتشي بخطتها، حماسها مشتعل لإخبار الجميع، ثم يصدمها الواقع، ويعطيها التفاؤل درسًا عن مدى قسوته.

 

"فرانك" يبدو مرعوبًا، إنه يتذمر من الملل في وظيفته؛ لكنه يكتشف استمتاعه بنكات المكتب السخيفة، نعم الروتين مملّ؛ لكنّه يناسبه تمامًا، في "سيل القبعات المتشابهة والبذلات ذات اللون ذاته" (كما يصفهم "نيك ديكاريو" في مراجعته للفيلم) لا يحتاج المرء أن يتخذ أي قرارات، عليه أن يستمر في طريق بلا معنى؛ لينجز عملًا بلا معنى، مع آلات بلا معنى، ربما يتحول إلى إحداها في العمل فعلًا، ثم يحاول العثور على المعاني على هامش تلك الوظيفة، وتلك الحياة. علاقة حمقاء هنا، أو نكتة مضحكة هناك، أو سخرية دائمة من عمله؛ إنه يشعر بالراحة حيث هو، ليس عليه أن يتحمل نتائج خيارات قاسية كترك حياته وبدء حياة جديدة في مكان آخر، لا يحتاج أن يعاني بسبب حريته في اتخاذ القرارات، لا قرارات هنا، ولا مسؤولية مباشرة، ولا احتياج لتبني موقف أصيل من الحياة.

 

كيف يواجه نفسه بأن السفر ومغامرة باريس الجميلة ليس حقًا ما يريد؟ كيف يخبر زوجته أن ابتهاجه الحذر قد انتهى، وأنه باقٍ هنا، في عمله المملّ وجيرانه الغرباء عنه؟ تأتيه الفرصة على طبق من ذهب، في أشد لحظات احتياجه لشيء يسمح له بأن يقول مرتاحًا "أنا خائف" دون أن يبدو جبانًا، تُعرض عليه الترقية؛ إذن هذا هو الخيار العاقل، أليس كذلك؟ الخيار الناضج، النضج يحتم عليه أن يبقى، إنه أب لطفلين في النهاية، ولا يستطيع المغامرة بالسفر وبدء حياة جديدة، ثمة راتب أعلى هنا، لا يمكن التفريط فيه بالتأكيد.

 

يصر "سام ميندز" على استخراج لحظات القبح والضعف مما يبدو مثاليًا، شجارات مريرة، وإهانات، وعلاقات فاقدة للمعنى، ومحاولة لإسقاط الطفل؛ لكن ذلك كله لم يكن كافيًا. الصراحة الأكبر والأكثر جرحًا تأتي على لسان "جون" المريض نفسيًا؛ لقد رحب كثيرًا بخطتهما للذهاب إلى باريس، والآن لا يجد حَمل "إبريل" سببًا كافيًا لعدم الذهاب، "ألا ينجبون الأطفال في أوروبا؟" يسأل ساخرًا طالبًا معرفة السبب الحقيقي؛ لكنه يخبرهما به بنفسه، "اكتشفتما أنكما تحبان هذا المكان؟ تجدانه أكثر راحة بكل ما فيه من خواء وفقدان للمعنى؟ تجدان نفسيكما أجبن من هذا القرار.؟"

 

الطفلان لا يظهران كثيرًا، إنهما موجودان على هامش إحباطات العائلة، ووجودهما لا يساعد في جعل الزوجين أسعد.
الطفلان لا يظهران كثيرًا، إنهما موجودان على هامش إحباطات العائلة، ووجودهما لا يساعد في جعل الزوجين أسعد.
 

الطفلان لا يظهران كثيرًا، إنهما موجودان على هامش إحباطات العائلة، ووجودهما لا يساعد في جعل الزوجين أسعد، لكنّ أثر ما فعله وجودهما بإبريل بادٍ في عدم قدرتها على تقبل الطفل الذي مازال في بطنها، إنها لا تريد سوى التخلص منه، يصبح إسقاط الجنين هدف حياتها الجديد؛ بعد أن علمت أنها لن تذهب إلى باريس، تختصم الطفل وكأنه ثأر شخصي، وتثقل كاهليه اللذين لم يخلقا بعد بالمسؤولية عن خيبات الحياة كلها.
 

يجب أن يموت هذا الطفل غير المرغوب فيه إذن، أخيرًا إنه قرارها وحدها، هي ليست بحاجة للجمهور ليصفق لها فتحقق حلم التمثيل، وليست بحاجة لزوجها أن يوافق على ذهابها لفرنسا. إسقاط الطفل قرارها وقرارها فقط، حريتها الأليمة التي لا تملك إلا أن تتحمل مسؤوليتها، وتمارسها لتنقذ نفسها، مغامرتها الوجودية الخاصة، والتي تقرر خوضها مهما كان الثمن والتحذيرات، فتدفع وجودها نفسه ثمنًا لذلك؛ في نهاية الفيلم، يجلس "فرانك" صامتًا -بعد أن لم يعد خائفًا من فقدها- تمامًا كما تمنت "إبريل"، ليس هو فقط؛ بل إن كل من عرفهما يقرر الصمت عن سيرتهما إلى الأبد. 

المصدر : الجزيرة