شعار قسم ميدان

"رهبة البدايات".. أفلام مصرية فريدة صعدت بمخرجيها للنجومية

ميدان - فيلم مصري

إذا كان الهاجس المرعب -والمحفز في نفس الوقت- لأي مخرج وهو يقف وراء الكاميرا في فيلمه الأول "هو أن يكون هذا أيضًا هو فيلمه الأخير"(1)، فإن هذا الرعب يكون في أقصى حالاته ونحن نتحدث عن وسط صناعة مغلق نسبيًا مثل السينما المصرية، لأن الفرصة قد لا تأتي إلا مرة واحدة، بل وفي الكثير من الأحيان يكون المخرج هو نفسه الذي ينتج فيلمه الأول، راهنًا حياته ومستقبله المهني كاملًا على ساعتي الزمن الموضوعتين على خام الـ35 مم، ولذلك ليس غريبًا أن أغلب المخرجين المصريين الذين صاروا بعد ذلك "كبارًا" (خصوصًا بعد نهاية الستينيات التي كانت مفتوحة أكثر في إنتاج الدولة للأفلام وإعطاء الفرصة لمخرجين جدد) كانت أفلامهم الأولى مُبشرة ورائعة بالفعل، لأن جودتها هي على الأغلب ما أتاح لهم الاستمرار، إلى جانب ما حملته من روح مميزة ومختلفة وبذور لأفلامهم اللاحقة.

 

ضربة شمس – محمد خان (1979)

قد يكون هذا هو "أهم عمل أول لمخرج" في تاريخ السينما المصرية، و"الأهم" هنا لا علاقة لها بالأفضلية -رغم قيمة الفيلم- ولكن لأنه كان شرارة البداية لجيلٍ كامل أتى من بعده، سواء من المخرجين أو الفنيين أو حتى الأبطال أمام الشاشة، مستلهمًا الحس الثوري الذي حمله هذا الفيلم في طريقة إنتاجه وتصويره وتعامله مع بعض إكليشيهات السينما المصرية (واستفادته من البعض الآخر) لتكون النتيجة هي موجة الثمانينيات المؤثرة والتي غيَّرت شكل السينما في مصر.
 

 نور الشريف في فيلم ضربة شمس (مواقع التواصل)
 نور الشريف في فيلم ضربة شمس (مواقع التواصل)

 
تقول الحكاية(2) إن نور الشريف في المرة الأولى التي شاهد فيها الفيلم، قبل وضع الموسيقى والمؤثرات الخاصة، خرج من قاعة العرض دون أن يُسلم على "خان" أو على أي شخص آخر، والتفسير أنه رأى الفشل أمامه في فيلم أغلب لحظاته ساكنة وصامتة، ولا ينطق العنصر الشرير فيه ولو كلمة واحدة، ولكن بعد طرح الفيلم في دور العرض حقق نجاحًا استثنائيًا، رأى فيه النقاد(3) شيئًا ثوريًا في شكل التصوير وخيارات الأماكن وإيجاد حلول إنتاجية لبعض التفاصيل المعقدة، مع روح مصرية خالصة رغم تأثر "خان" ببعض الموجات السينمائية في العالم، ورأى فيه الجمهور فيلم أكشن وإثارة مختلف لا يشبه أي من الأعمال التجارية الموجودة حينها. وبعد هذا الفيلم مُنِحَت الفرصة لعدد من المخرجين الجدد أن يتصدوا للواجهة، وامتلك "خان" بصمته التي تكررت بعض ذلك في الكثير من أفلامه.

 

عيون لا تنام – رأفت الميهي (1981)

في النوع السينمائي وطريقة المعالجة، لا يشبه هذا الفيلم أبدًا أغلب أفلام رأفت الميهي اللاحقة، والتي امتازت بحسها الهزلي (والسيريالي أحيانًا)، وتعاملها مع فرضية غير واقعية وإنزالها على أرض الواقع لرؤية النتيجة، بينما كان "عيون لا تنام" هو واقعية قحّة، تتعامل مع عنف الشارع كوحدة للحقيقة، وتنبع فيه دراما الشخصيات من الرغبة أو الغضب أو القسوة المُتراكمة. وقدّم فيه "الميهي" واحدا من أفضل أفلام تلك الفترة، ومن نقاط الذروة في أداءات أبطاله الثلاث (فريد شوقي – أحمد زكي – مديحة كامل) طوال مسيرتهم.
 

undefined 

 
ولكن من ناحية أخرى، يمكن تفسير العلاقة بين هذا الفيلم وبين الانقلابة المُغايرة لمخرجه -ومؤلفه في آنٍ- في باقي مسيرته بجملة "حسن سبانخ" الشهيرة في فيلم "الميهي" الثاني "الأفوكاتو" عن "الحياة المقرفة" وعن أنك في حال رفضتها "هتكون مقرفة أكتر"، ولذلك بدأ "الميهي" يتعامل مع حكايته وقصصه وأفكاره وأبطاله بنفس منطق "سبانخ" في الفيلم، من نقطة هزلية ساخرة، دون رفض أو مقاومة أو تعامل بجدية. ولكن -في نقطة أعمق- ألم تكن الهموم نفسها واحدة بين "عيون لا تنام" وباقي الأفلام؟ سواء الهم العام المتعلق بشخصيات مُهَمَّشَة وتعاني اجتماعيًا، أو الهم الفردي المتعلق في أغلبه بالرغبة والجنس والضغط المتراكم والعنف كنتيجة منطقية أحيانًا لكل هذا؟ لذلك فبعيدًا عن "النوع" و"الشكل الفيلمي" وطريقة التناول فإن الـ"تيمات" والهموم نفسها يمكن تحليلها ووضعها ضمن سياقٍ واحد.
 
إنتاجيًا، أنتج "الميهي" الفيلم بنفسه، مستفيدًا من شهرته وتميزه كمؤلف طوال العقد الأسبق على إخراج عمله الأول، وتحديدًا سيناريوهاته للمخرج الكبير كمال الشيخ، ليَسْهُل إقناع أبطال الفيلم لخوضِ التجربة، ورغم أن الأمور بعد ذلك من المفترض أنها كانت "أسهل"، إلا أن شكل الإنتاج الذاتي ظل هو النموذج المسيطر في أغلب أعماله حتى نهاية حياته.

 

الصعاليك – داوود عبد السيد (1984)

دائمًا ما يكون رهان داوود عبد السيد في كل فيلم من أفلامه الثمانية هو على مسافة ما بين الطموح الفني والنجاح الجماهيري، لذلك فهو يعتمد منذ بدايته على وجود النجوم (نور الشريف ومحمود عبد العزيز ويسرا في فيلمه الأول "الصعاليك") وقصة مألوفة بالنسبة للجمهور في الكثير من الأحيان (الصعود الطبقي في عصر الانفتاح) مع عوامل جذب مختلفة (مثل الأغاني أو الصراعات الحركية أو اللعب على تيمات مؤثرة)، وفي المُقابل فإن المعالجة ذات الحس الأدبي، والمونولوجات الطويلة التي تنفرد فيها الشخصية بالمشهد لدقائق، والقصة التحتية الموازية التي تسمح بقراءة الفيلم بأكثر من طريقة، كل هذا  هو ما يصنع خصوصية السينما التي يقدمها ويجعل الفيلم "مختلفًا" حتى لو تشارك في سماتٍ عديدة مع أعمال أخرى.

 
undefined
 
ومن بين كل الأفلام المصرية التي تعاملت مع الانفتاح، وبعضها كانت أعمالا رائعة فعلًا، فإن "الصعاليك" هو أكثرها خصوصية، ربما لأنه لا يهتم بتفاصيل هذا الارتقاء، أو بصنع "صراع" بين الفقر والغنى، بقدر ما يُركز على تغير أبطاله والعلاقة بينهما، صانعًا من "الصداقة" تيمة أساسية للحكاية، ومتعاملًا مع شخصياته دون أي قدر من الأحكام الأخلاقية، على عكس ما تفعل الأفلام المصرية في أغلب الأحيان، مع تجاوز عدم تميزه البصري لنقاطٍ أخرى مرتبطة بقوة النص/الحوار، وكلها أمور تكررت بعد ذلك في أفلام "داوود عبد السيد" التالية.

 

سرقات صيفية – يسري نصر الله (1988)

لم يملك يسري نصر الله أكثر من 50 ألف دولار لإنتاج هذا الفيلم، أراد في البداية أن يعتمد على نجوم في بطولته، ولكن لم يتحمس أغلبهم للعمل مع مخرج يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، كما أن السيناريو (الذي يلعب الدور الرئيس فيه طفل) ليس جاذبًا بالقدر الكافي للمخاطرة، وبعد فترة طويلة من المفاوضات اقترح يوسف شاهين، الذي عمل "نصر الله" مساعدًا له منذ بداية الثمانينيات، أن يعتمد على ممثلين شباب في الأدوار الرئيسة، وأن ذلك سيكون مفيدًا أكثر لطبيعة الفيلم المختلفة(4).
 
وبالميزانية الضئيلة، وفترة تصوير محددة (أسبوعين على الأغلب)، وطاقم عمل في بداية مسيرته (سواء إخراج وكتابة نصر الله – إنتاج ماريان خوري – المونتاج رحمة منتصر – ممثلين: أميرة العايدي، مجدي كامل، شهدي سرور مع مجموعة الأطفال) إلى جانب بعض من عناصر الخبرة التي تعرف "نصر الله" نتيجة عملهم المشترك مع يوسف شاهين (المصور رمسيس مرزوق – الموسيقى عمر عمر خيرت – التمثيل عبلة كامل وسيف عبد الرحمن وغيرهم) تم تنفيذ الفيلم، وكانت النتيجة هي عرضه في قسم "نصف شهر المخرجين" بمهرجان كان، وتحقيقه استقبالًا ملفتًا.
     undefined
 
ظهر الفيلم متأثرًا في بعض جوانبه بيوسف شاهين، تحديدًا في أداءات الممثلين وطريقة المونتاج الحادة، ولكن خلاف ذلك قدم "نصر الله" معالجة شاعرية وجريئة جدًا لذكرياته عن طفولته وعائلته والقرية التي عاش فيها، مع تفاصيل ظلت تتكرر أيضًا في أفلامه اللاحقة، وتحديدًا في التعامل المفتوح -والخالي من الأحكام الأخلاقية- مع العلاقات والرغبات، وشكل السرد المعتمد على قصص صغيرة ومتداخلة، والذي لا يتشابه -في أغلب الأحيان- مع شكل السرد المُتبع في الأفلام المصرية.

 

عفاريت الأسفلت – أسامة فوزي (1996)

حين عرض هذا الفيلم عام 1996 في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كان مفاجأة استثنائية، لأنه على الرغمِ من معطياته الأولى تبدو متشابهة مع أفلام أخرى تنتمي لواقعية الثمانينيات، تحديدًا إذا وضعنا كلمات مثل "سائقو "الميكروباصات"، المهمشون، حارات وبيوت وعلاقات" وغيرها من الجوانب التي تشكل العالم الظاهري للفيلم وتتقاطع مع إرث أسبق للسينما المصرية، إلا أن الطريقة التي يعالج بها ذلك، سواء في كتابة الحوارات أو بناء الشخصيات أو تتابع المشاهد، لا تشبه أي فيلم سبقه، وربما لا تشبه أي فيلمه لحقه.
 
ومن المهم هنا الإشارة للروائي مصطفى ذكري، الذي كتب هذا الفيلم، وخلق شراكة مع أسامة فوزي (ومحمود حميدة كبطل) استمرت في فيلمهما التالي "جنة الشياطين" (إنتاج 1998)، وتحركا في الفيلمين في مساحة ساحرة جدًا، تجمع "الواقع" و"الأسطورة"/"ما فوق الواقع" في أشد حالاتهما تطرفًا، حيث تبدو الأماكن ولغة الحوار منتمية جدًا للعالم الحقيقي والأحياء الشعبية، وبصورة أدق وأقرب من الكثير من الأفلام الأخرى، ولكن في نفس الوقت تنقطع صلة بعض المشاهد والتفاصيل بالعالم الملموس، ويصبح الأمر أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة التي يسردها "الحلاق" هنا. في واحد من أجمل أفلام المخرجين الأولى  التي قدمت في السينما المصرية.