شعار قسم ميدان

"زوجة حارس الحديقة".. امرأة في زمن الهولوكوست

midan - film

وقفت ديان أكرمان أمام مرآتها حين مرّ في خاطرها فكرة غريبة، كانت تتأمل في شعرها عندما أدركت، هكذا في لحظة واحدة، أن اللحظة التي نقلت الإنسان إلى مرحلة بدأ فيها بالتعبير بانجراف عن مشاعره، لم تكن تتعلق بأي ثورة علميّة ولا حتى باختراع الآلة البخاريّة. بالنسبة لها، باتت متيقنة بأن استخدام الإنسان للحصان هو ما صنع منه الكائن الذي نعرفه اليوم والقادر على فهم مشاعره والتعبير عنها بطلاقة. (1)

 

"لم تكن الأحصنة قادرة على حمل البضائع فقط، ولكنها حملت معها الحب عندما انطلقت من الجزيرة العربيّة إلى إسبانيا ثم إلى جنوب فرنسا" قالت ديان لنفسها، فالحصان الذيّ قرّب المسافات وجعل التواصل بين أفراد العائلة الواحدة وبين العائلات المختلفة أمراً سهلاً، كان أيضاً عاملاً هاماً في نقل الثقافات وتمددها جغرافياً. كانت تفكّر في الطريقة التي كان سيتغيّر بها التاريخ إذا لم يفكّر الإنسان في ركوب الأحصنة. وعلى الرغم من معرفتها بأنها كانت أهم أسلحة الحروب قديماً، ولكنها أيضا كانت معاول بناء في عدد من المجالات؛ منها الزراعة والرياضة، بل إنها ساعدت الإنسان على فهم طبيعة جسده.

 

قررت ديان مغادرة إلينوي في الولايات المتحدة، نحو العاصمة البولنديّة وارسو، من أجل دراسة نوع معيّن من الأحصنة ينتشر في غاباتها. العمل على كتابة الشعر والرواية يحتاج دائماً إلى بعض الأبحاث، ناهيك عن المعاينة الميدانية لشيء منها. ولأن الرؤية أمر، والسماع أمر آخر، كان ما رأته ديان في وارسو مفتاحاً لكثير من الكلام. (2)

     

    

في حديقة وارسو الكبرى للحيوانات، كانت ديان بصحبة جارتها البولنديّة، والتي تعرّفت عليها بممارسة قليل من الود والاحترام، لتتحوّل تلك المرأة إلى حصانها نحو المستقبل. الحقيقة أنها لم تكن مجرد مترجمة ولكن أحد أقربائها كان يعمل في تلك الحديقة منذ زمن، وهو من أخبرهم بأن المرأة التي أسّست الحديقة أوّل الأمر احتفظت بمذكراتها وهي بحوزته، لينتهي بها المطاف بين يدي الروائية والشاعرة الأمريكية ديان أكرمان، لتؤلّف عنها رواية صدرت عام 2007، قبل أن تتحوّل إلى فيلم سينمائي عام 2017 يحمل نفس الاسم؛ "زوجة حارس الحديقة". (3)

 

تهريب تحت أنف الشوتزشتافل
يشق نهر فيستولا، أطول أنهار بولندا، العاصمة وارسو ويقسمها لنصفين، وعلى ضفته الشرقيّة تقع حديقة حيوانات وارسو لمديرها يان زابنسكي، المسيحي المتزوّج من أنتونينا اردمان، واللذين سيتم تكريمهما لاحقاً من قبل دولة إسرائيل استحقاقاً لدورهما البطولي في إنقاذ مئات من اليهود أثناء احتلال بولندا. (4)

 

عند اشتعال الحرب العالميّة الثانية، كانت الحيوانات تنعم بحياة هادئة داخل أقفاصها، ويتوافد الزوار على الحديقة بشكل يومي دون أي تغيير يلحظ، حتى جاءت اللحظة التي وصلت فيها قوات هتلر المدينة بعد أن قصفت طائراته المدينة وتسببت في هرب عدد كبير من الحيوانات في شوارعها، وموت عدد آخر. منذ تلك اللحظة تغيرت حياة يان وزوجته، ومع إمساك يان بمنصب المسؤول العام عن حدائق وارسو إبان الاحتلال النازي، وجد هو وزوجته أنهم أمام مرحلة تاريخية من حياتهم، وأخذوا قراراً جريئاً كان سيودي بحياتهما وحياة ابنهما الوحيد في أي لحظة من سنوات الاحتلال المريرة.

           undefined

     

من أجل الحفاظ على أرض الحديقة، عرض يان على الحاكم النازي، وهو عسكري يهتم بالحيوانات قام بنقل عدد منها من بولندا لحديقة برلين الرئيسية، بأن يقوموا بتربية الخنازير داخل الحديقة من أجل إطعام جنوده، مع بقائها تحت سيادة يان وزوجته والعاملين معهم. إلا أنّ القوات النازية ستأخذ من الحديقة مقراً لها.

   

بعد فترة قصيرة يبدأ يان بتهريب اليهود من أماكن معيشتهم داخل الجيتو عبر شاحنته الخاصّة إلى داخل الحديقة، الرجل الذي لا يملك أي عمل داخل الجيتو كان مسموحاً له بالدخول والخروج من هناك وبصحبته أيّ كان. في الحديقة تنتظره زوجته التي تهيئ الأماكن للوافدين، وتعطيهم تعليمات البقاء الأمنيّة المتعلقة بطريقة معرفة وجود خطر في المكان، والوقت المسموح لهم بالخروج من مخابئهم فيه، وضرورة عدم إصدار صوت. على مدى سنوات تنجح العائلة في توفير ملاذ آمن لمئات من اليهود في سراديب الحديقة وأقفاصها الداخليّة، قبل أن يُكتشف أمرها عند انهيار الاحتلال النازي.

   

صورة مكررة
كانت البطولة الفردية رائدة في مجال أفلام الهولوكوست، فأعمال مثل قائمة شندلر، عازف البيانو و ابن شاؤول، كلها تدور حول فرد يهودي يسعى للخلاص في زمن المحرقة اليهودية، وهي وصفة نالت الإعجاب مسبقاً، لكنها على ما يبدو لم تنجح عندما نفذتها نيكي كارو مخرجة فيلم "زوجة حارس الحديقة"، والسبب من نظرة أوليّة يعود إلى سوء اختيار البطل من الأساس، فبدلاً من التركيز على يان زابينسكي، فضّلت كارو أن تسرد القصّة من وجهة نظر زوجته أنتونينا. (5)

      undefined

   

لا يتشابه الفيلم مع سابقيه من نفس النوع بهذا وحسب، ولكنه أيضاً يتبنى فكرة باتت متوقعة مثل أن يكون البطل صاحب قرار جريء في إنقاذ حياة عدد من الأشخاص، رغم أنه لا ينتمي للديانة اليهوديّة. من المعلوم أن القصّة حقيقية ومستندة على مذكّرات أنتونينا نفسها، ولكن ما نشاهده في الفيلم هو أقرب لأن يكون "سردا تاريخيا منه إلى عمل درامي يعلق في الأذهان".

 

في الفيلم عدد من المشاهد التي حملت رمزيّة فجة، مثل وضع اليهود في أقفاص الحيوانات، ومشهد لرجل وزوجته يأخذان صورة تذكارية أمام أحد أسوار الجيتو اليهودي، وهو إقحام للرسائل عنوة وكأنها أمر واقع لا تترك مجالا للمشاهد لاستنباطها بنفسه، وكذلك مشهد الرماد المحترق والذي يظن أحد الأطفال أنه الثلج، فيتحوّل مصدر البهجة إلى مصدر خوف وذعر عندما يكتشفون أنه رماد الجيتو بعد حرقه. كل هذا يجعل من الفيلم قصّة تاريخية لا تعلق في الأذهان، بل إنه من غير المستبعد للمشاهد أن يتمنى تسريع بعض المشاهد من فرط الملل الناتج عن توقّع كل ما سوف يحدث. (6)

 

تعجز أفلام الهولوكوست في مرات عديدة عن عرض قضيتها الأصليّة، فتتجه دوماً للحديث عن قضايا حدثت على هامش المحرقة، وهي تروي عادة قصّة نجاح وبطولة. عندما سُئل المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك الحائز على الأوسكار والمهتم بمناهضة الحرب عن رأيه في فيلم "قائمة شندلر" لصديقه المخرج ستيفن سبيلبيرغ قال: "هل تعتقدون أن هذا فيلم عن المحرقة؟ إنه فيلم عن النجاح، أليس كذلك؟ المحرقة هي قصّة ستة ملايين شخص لقوا حتفهم، أمّا قائمة شندلر فهو عن 600 بقوا على قيد الحياة".(7)

     

التوجّه النسوي
"هكذا تكون النتيجة عندما تفسح النساء اللاتي في موقع قرار مجالاً لنساء أخريات"، هذا ما قالته الممثلة الأمريكية جيسيكا شاستاين عام 2015 عندما بدأت تصوير فيلمها الرابع والعشرين في مسيرتها، والرابع تحت قيادة نسوية، هذه المرّة مع المخرجة نيكي كارو القادمة من نيوزيلاندا مع طاقم ضخم من النساء، أخذن أهم أركان العمل من الرواية والسيناريو والإنتاج، وحتى دور البطولة، وصولاً إلى موضوع الفيلم.
   
في فيلم في زمن الحرب لا نشاهد الكثير من أعمال الحرب، فهو يعرض قصة امرأة في زمن الحرب لا قصة حرب أو محرقة بالأساس
في فيلم في زمن الحرب لا نشاهد الكثير من أعمال الحرب، فهو يعرض قصة امرأة في زمن الحرب لا قصة حرب أو محرقة بالأساس
        
تفصح كارو عن أهمّية صنع فيلم عن قصّة بطولة حدثت أثناء المحرقة اليهوديّة، يكون موضوعها نسويا بامتياز. ولكن هذه الطريقة في التعامل مع الفيلم انعكست على طريقة عرض أحداثه، ففي فيلم "في زمن الحرب" لا نشاهد الكثير من أعمال الحرب، يركز الفيلم على دور البطولة فيه، مالكة الحديقة التي خبّأت اليهود في أقفاص الحيوانات، أنتونينا زابنسكي، وهو بذلك يعرض قصّة امرأة في زمن الحرب لا قصّة حرب أو محرقة بالأساس.(8)

 

الجرأة التي تعاملت بها كارو قد لا تُواجَه بكثير من الترحاب، فالجمهور الذي يتوقع فيلماً حربياً لن يرى إلا مشاهد لامرأة تعزف البيانو، وتوزع الطعام وتهمس الكلام همساً، ولقطات متكررة ومركّزة "للأثاث والفراء" والأزهار، وربما "ظهر ورق الحائط في الفيلم أكثر من القنابل نفسها".

 

كان واضحاً من المشاهد الأولى في الفيلم أن أنتونينا كانت تُعامل بكثير من التجاهل و قلّة التقدير، فتحوّل ذلك بطريقة ما إلى سبب جعل مخرجة الفيلم تنتقم لها، وتردّ إليها اعتبارها بأن تكون أفعالها هي محور الفيلم، ورسمها بصورة مثاليّة لتخرج في صورة نهائية أقرب إلى الأسطورة، إلّا أنّ الأسطورة لا تتحقق فعلاً؛ فزوجها الذي أخذ على عاتقه مخاطرة اتخاذ قرار تهريب اليهود من الجيتو، ونقلهم بنفسه داخل شاحنته، والمرور عبر عشرات الحواجز يومياً، ومن ثمّ إعادة إخراجهم من الحديقة إلى أماكن أكثر أمناً، وانخراطه في العمل المسلح قبل تعرضه للأسر، كان هو المحرك الحقيقي للأحداث، وكان من الأجدر أن يكون التركيز على دوره أكبر من هذا بكثير، بينما كان الإبقاء على الدور "المنزلي" لأنتونينا كامرأة هو الأمر المتوقع أصلاً ولا يخدم فكرة نسويّة الفيلم بطريقة كبيرة. (9)

 

يبدو هذا التوجّه -إسناد أدوار البطولة لنساء- معتمد لدى كارو التي قدّمت ستّة أفلام حتى الآن منذ عام 1998، كانت خمسة منها بأدوار بطولة نسائية. وتعمل الآن على إخراج فيلمين آخرين، أحدهما مبني على قصّة فتاة ديزني الشهيرة "نولان"، والذي يتوقع صدوره في عام 2018.(10) 

المصدر : الجزيرة