شعار قسم ميدان

"عن الجسد والروح".. أن تحب في زمن المادية المطلقة

ميدان - فيلم عن الروح والجسد
هل سبق وأن تشاركت حلما مع أحدهم بحيث يلعب كل واحد منكما دوره داخل الحلم، بينما تختبران نفس الأحداث؟ الأمر غريب أليس كذلك؟ بناء على هذا التصور تبني المخرجة إلديكو إينيدي قصة الحب بين بطليها أندريه وماريا في فيلمها "عن الجسد والروح". نتساءل بمجرد سماعنا للاسم: ما الجسد؟ ما الروح؟ وماذا عنهما؟ لا تعطينا المخرجة في فيلمها أي أجوبة محددة عن هذه المسألة، لكنها حتما تنحاز إلى مفاهيم الفرادة في زمن القطيع، وللحب في عهود المادية المطلقة.
 

تعود المخرجة المجرية هذا العام بعد توقف عن إخراج الأفلام الروائية لمدة ثمانية عشر عاما(1)، فالمخرجة الحاصلة على جائزة الكاميرا الذهبية بمهرجان كان عام 1989 عن فيلمها "قرني العشرون"، كان آخر أفلامها الروائية الطويلة عام 1999 وهو فيلم "سيمون الساحرة". أخرجت بعدها فيلمين قصيرين أحدهما وثائقي، ومسلسل تليفزيوني، لتعود بعد كل هذه السنين بفيلمها "عن الجسد والروح" لتحصل على واحدة من أرفع الجوائز السينمائية في العالم: دب برلين الذهبي(2).

 

 

علاقة حب.. ومجزر.. وحلم

تدور أحداث الفيلم في مجزر (مسلخ للحيوانات) في المجر، حيث يعمل أندريه مديرا ماليا، جنبا إلى جنب مع صديقه جونو موظف الموارد البشرية، وزوجته التي يعلم جونو بخيانتها المتكررة له، وساني الشاب المتباهي بعضلاته المتقدم حديثا لشغر وظيفة في المجزر. تحل ماريا كموظفة بديلة، ولا تندمج مع الآخرين، لكنها تثير انتباه أندريه بمجرد وصولها.

  
تستخدم المخرجة حبكة فرعية متمثلة في حادثة سرقة لمسحوق تزاوج الأبقار، حيث تحضر الشرطة وتقترح جلب طبيب نفسي لمعرفة السارق. تسأل الطبيبة الموظفين عدة أسئلة، منها سؤال متعلق بآخر حلم شاهدوه، لتتفاجأ بأن حلم ماريا مطابق لحلم أندريه، وتظن أن هذه نكتة مدبرة منهما للنيل منها، وكنتيجة لهذا يعرف الاثنان بالأمر، لتتوطد علاقتهما بالتدريج.

   
في حلمهما الذي يُفتتح به الفيلم نرى ظبيا وأنثاه يتجولان في غابة مليئة بالأشجار. تبدو لغة التواصل بين الحيوانين وكأنهما في حالة تآلف بديعة. على الجانب الآخر يعمل كل منهما في الواقع في مكان تُذبح فيه الأبقار كل ظهور نهار. نراها تنظر إلى الشمس بعيون مستسلمة لمصير محتوم. ومن هذا التناقض بين الواقع/الحلم تصحبنا إينيدي في فيلمها محاولة اكتشاف ثنائيات الجسد/الروح، والفرادة/الجمع ناسجة بهذا علاقة حب على نار هادئة.

 

مشهد الحلم الذي يتشاركه ماريا وأندريه (آي أم دي بي)
مشهد الحلم الذي يتشاركه ماريا وأندريه (آي أم دي بي)

  

ماذا عن الجسد والروح؟

يعتمد الفيلم شخصيتين انطوائيتين نوعا ما، فأندريه رجل خمسيني نحيف، وجهه مليء بالتجاعيد، مصاب بشلل في ذراعه، هادئ، ولا تظهر انفعالاته إلا قليلا، يبدو مسالما، وحكيما. وماريا امرأة جميلة، لكنها تعاني من أعراض متلازمة أسبيرجر(3)، والتي تشبه نوعا خفيفا من التوحد، وتسبب مشكلات لمصابها في التواصل الاجتماعي، والجسدي، ولذلك نرى ماريا عاجزة عن الاندماج وسط زملائها، الذين يعتقدون أنها مجرد متعجرفة حقيرة.

 
إذن، يعاني الاثنان من أعراض تسبب لهما بعض المعاناة اليومية، فأندريه يعاني في يومه لكي قميص أو لحمل صينية شاي، وتعاني ماريا من نبذ بقية الزملاء لها. من هذه النقطة يكمن معنى "الجسد" بشكل ما كتعبير عن الحسي أو الملموس، ويكمن معنى "الروح" متجليا في حلمهما، حيث ينطلقان كغزلان متحررة من كل قيد. الأمر الذي يؤكده ناقد الجارديان بيتر براد شو قائلا: "تتناغم مشاهد المجزر مع مشاهد الحلم الأخّاذة التي تظهر نبل الغزلان. تمثل هذه الحيوانات المتخيلة معنى "الروح"، ومشاهد الأبقار الموازية لها معنى "الجسد" الشهواني"(4).

 

تستخدم المخرجة الشكل الأمثل للتعبير عن اختلافهم، فبينما هم شخصيات انطوائية نوعا ما، نرى تعبيرا ذكيا عن مكنوناتهم من خلال بعض المشاهد، فماريا تستخدم مجسمي رجل وامرأة لتتخيل حوارا مختلفا عما دار بينها وبين أندريه، وتذهب أيضا إلى معالجها النفسي لتطلب منه أن تتعلم كيفية التواصل. نرى أندريه يمارس الجنس مع امرأة ما، ثم يطلب منها الرحيل من منزله، في دلالة على إحباطه، وكراهيته لممارسة الفعل المادي فقط دون عاطفة.

 
undefined 

الفرادة في مقابل الجمع

من خلال التناقض البصري بين مشاهد غزلان الحلم ومشاهد ذبح الأبقار تُبرز المخرجة الاختلاف بين علاقة أندريه وماريا الغريبة وبين باقي علاقات الموظفين. تبدو علاقتهما مميزة في عالم مادي للغاية، نراهما يصرحان بأحلامهما لأنفسهما كل يوم، يحاولان النوم في غرفة واحدة دون تواصل جسدي واضح. كل هذا، وفي مقابل نميمة الموظفين وتصرفاتهم التي لا تنم إلا عن رغبات حيوانية وفقط، يجعلنا نشعر بفرادتهما واختلافهما عن بقية المجموعة.

 
فعلى سبيل المثال، فإن كلا منهما يتناول طبقا لا يحتوي لحوما في مطعم مجزر! ماريا لا تمتلك هاتفا، ولا تعرف حتى كيف تلمس أحدهم، وأندريه ليس شابا وسيما، أو بمفهوم البقية "الذكر الألفا المسيطر"(5). إنها علاقة حب يصعب نسجها في قصة، فلا وجود لاهتمامات مشتركة، ولا لجمل حوارية شديدة العاطفية، أو حتى مواقف تقوي من علاقتهما، إنهما يتشاركان الحلم، الحلم ولا شيء غيره، بينما يتشارك الجمع الواقع المزري.
 

undefined
 
هذه الفرادة هي ما جذبت أندريه إلى ماريا بالأساس، ماريا مختلفة، لا تنافق أو تكذب لنيل الإعجاب. تجلس في الاستراحة في مكان منعزل، ولا تتهاون في تقييم لحم الأبقار، هي تثيره باختلافها هذا عن بقية الموظفين الذين لا يفعلون أكثر مما تفعل الأبقار.

 

اختيار فني/اختيار سياسي

في العام الماضي اختارت لجنة التحكيم، وعلى رأسها الممثلة الأميركية ميريل ستريب، فيلما وثائقيا للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي "فوكوماريه"(6)، والذي يتناول قضية الهجرة عبر البحر المتوسط موضوعا له. اختيار منطقي خاصة بقضيته التي شغلت ولا تزال تشغل العالم حتى الآن.
  

 

تؤثر السياسة كثيرا بالطبع على المزاج العام للجان التحكيم(7)، ويمكن القياس في هذا على العديد من اختيارات مهرجان برلين مثل "تاكسي" لمخرجه جعفر بناهي، والقهر الذي يتعرض له في إيران، ومنعه من إخراج الأفلام. ولكن الأمر يختلف هذا العام مع لجنة التحكيم التي رأسها المخرج الهولندي بول فيرهوفن صاحب أفلام كـ "رغبة أساسية"، و"هي"(8).

 
تقول المخرجة إلديكو إينيدي: "قلت لزملائي، لن يذهب هذا الفيلم إلى أي مهرجان مهم، فهو ليس مرتبطا بأي أحداث حالية"(9). ولكن يبدو أن صانع "هي" وزملاءه قد راقهم الفيلم المصور على خام الـ 35 مللي، والذي ينتصر للحب والحلم، والفن بالطبع. فالبرغم من وجود أفلام تتناول قضايا اجتماعية مثل "فيلستيه" لـ الآن جوميز، وقضايا سياسية مثل "الجانب الآخر من الأمل" لـ آكي كوريسماكي، فإن اللجنة قد فضلت أن تمنح الجائزة الأهم لفيلم إينيدي.
 

إلديكو إينيدي حاملة دب برلين الذهبي (آي أم دي بي)
إلديكو إينيدي حاملة دب برلين الذهبي (آي أم دي بي)

 

"من المهم للغاية في حياتنا أن نختبر رفاهية التواصل مع بعضنا في غرفة واحدة. أن نتواصل مع أناس آخرين يعيشون بعيدا عنا. السينما بالنسبة لي هي مكان سحري للتواصل، حيث نكون جزءا من هذه الأشياء المتناقضة للغاية. والتي تمثل البشرية بأسرها"(10). هكذا تُنهي إينيدي أحد لقاءاتها، وهكذا أيضا يتخذ فيلمها من هذا المفهوم عن التواصل الذي قدمته السينما في أيامها الأولى، وما زالت تقدمه بالطبع، أساسا له.
 

"عن الجسد والروح" هو تحفة سينمائية جديدة تُضاف إلى تراث البشرية الفني والإنساني. تنجح مخرجته في خلق ذاك التواصل الذي تتحدث عنه ببراعة شديدة، دون اللجوء إلى الاحتكاك بالسياسة أو المواضيع الراهنة التي تشغل العالم. وبسبب هذه الجراءة الفنية والإنسانية نجح الفيلم بأسئلته البسيطة في مظهرها، العميقة في جوهرها في أن يكون هو موضوعا راهنا يُثير العالم!

 
undefined

المصدر : الجزيرة