شعار قسم ميدان

"قبل الغروب".. معضلة المضي في العمر والتخلي عن الأحلام

midan - before sunset

معضلة المضي في العمر والتخلي عن الأحلام

يعتقد توماس وارتنبيرغ (Thomas Wartenberg) ، المرشد السينمائي في مجلة فيلوسوفي ناو (Philosophy Now)  أن فيلم (Before Sunset) على روعته إلا أنه يفوّت فرصة الوقوف عند أصدق الإشكاليات الفلسفية لمسألة المضي في العمر. التوجه إلى السينما، بالنسبة لأغلبنا ملاذ من الحياة الواقعية، لأننا نريد خبرة مختلفة بالحياة عن تلك التي نعيشها يوميا. نريد شيئا من المتعة أو الدفعة المفقودة في حياتنا الرتيبة. لذا يبدو كل ما نراه في أفلام الأبطال الخارقين والمغامرات، وأنه يحيي جانبًا مملا من حياتنا الواقعية، بدا عظيمًا عند ظهوره في متنفس كالفيلم.

 

لذا أدهشني أنني استمتعت بفيلم ريتشارد لينكلاتر (Richard Linklater) الأخير، (Before Sunset) لأنّ الفيلم يبدو وكأنه جزء من حياة عادية لا تختلف في شيء عن تلك التي نعيشها. وهذا الأمر صحيح بمقدار كبير إنما ليس فيما يتعلق بالحبكة. وإنما من خلال بنية الفيلم التي تتبدى أثناء المشاهدة. لأن في الفيلم ما هو أكثر من مجرد محادثة بين حبيبين سابقين. وهما جيسي الذي لعب دوره الممثل إيثان هوك (Ethan Hawke)، وسيلين التي لعبت دورها الممثلة جولي ديلبي (Julie Delpy)، حيث يتجمع الحبيبان الشتيتان بعد فراق دام تسع سنوات، وبرغم تصوير الفيلم في مدينة باريس الفرنسية، إلا أن حضور المدينة الرومانسية يظل ثانويا في خضم تعقيدات المحادثة بين البطلين.

undefined

من ناحية الحبكة، يحوز الفيلم كل عناصر الميلودراما. حيث التقى جيسي وسيلين في الجزء الأول من الثلاثية في فيلم (Sun Rise) لنفس المخرج. وتتمحور حكاية الجزء الأول حول لقاء بالصدفة على متن قطار يؤدي فيما بعد إلى ليلة أُنس يعيشانها في فيينا. ولأنهما لم يرغبا بتدنيس العلاقة برسائل أو مكالمات هاتفية وأحاديث مبتذلة عن الحنين والاشتياق. يقرر البطلان ببساطة اللقاء مرة أخرى بعد أن يمرّ ستة أشهر في ذات المكان الذي تودّعا فيه.

 

الآن، بعدما مرّت تسع سنوات على هذا الاتفاق، نعرف أن ما حال دون إتمام اللقاء في موعده المحدد ظرف سيء – جنازة جدة سيلين صادفت يوم اللقاء. كما تقول سيلين، لم تكن واثقة إن كانت الدموع التي ذرفتها دموع حزن على وفاة جدتها أم دموع اليقين بأنها لن ترى جيسي أبدًا مرة ثانية. مع أن كليهما مضى قدما في حياته، إلا أن حبكة الفيلم تنضج على مهل بينما يكشف الاثنان عن مركزية ليلة فيينا في حياتهما وكيف ظلت المعيار لكل شيء يمران به.

 

 تُزهر الألفة من جديد بين الحبيبن، ما يدفعنا للتساؤل إن كانا سيعثران على بعضهما من جديد أم سيحول دون هذا فراق آخر. عناصر هذه الحبكة، هي ذاتها عناصر حبكة فيلم ليو مكاري (Leo McCarry) "An Affair to Remember". غير أن الاختلاف القاطع بينهما يأتي من كون ما أعاق لقاء الحبيبين في مبنى الإمباير ستيت في فيلم مكاري، حادث سيارة. لكن المثير للاهتمام في فيلم (Before Sunset)، التخفيف من سطوع العناصر الميلودرامية لحبكته مقابل التركيز على الطرق التي تظل فيها حياة حبيبن معلقة بتلك الليلة اليتيمة.

 

وجزئيا، يتحقق هذا من خلال الأسلوب العبقري المتمثل في تصوير الفيلم في الزمن الحقيقي. ما نراه على الشاشة من تفاعل يمتد لثمانين دقيقة بين جيسي وسيلين يحدث بالفعل على مدار ثمانين دقيقة. وبالرغم من أن المخرج يتجنب استخدام التقنيات المسرحية المستخدمة في فيلميّ (Time Code) و(Russian Ark)، إلا أنه يستنبط منها فكرة تقديم فيلم يقع في الزمن الفعلي. وما أعنيه، أن زمن وقوع أحداث الفيلم هو نفسه زمن العرض، دون تعديلات (تطلب الفيلم للتصوير 15 يومًا فقط)، وينتج عن ذلك أننا نختبر الفيلم بطريقة واقعية، عوض الأفلام الأخرى التي تختصر فيها الفجوات الزمنية بين مشهد وآخر وتدمج ويعدل عليها.

 

تمتد معظم الأفلام حتى ساعتين لكنها تروي قصصا تحدث على مدار زمن أطول من ذلك بكثير، كما أن التعديل يتيح لصانع الفيلم اختصار ودمج المدة الزمنية للقصة لئلا نقضي الوقت الطويل الذي تطلبته الحبكة بينما نحن جالسون في السينما. وحده الفيلم التجريبي العَرّضيّ، كفيلم (Sleep) لآندي وورهول (Andy Warhol)،استطاع خلق هوية ما بين المدى الزمني الذي تصور فيه أحداث الفيلم ومدة عرض الفيلم(التي كانت 360 دقيقة!).  فيلم المخرج لينكلاتر متميز في توظيف هذه التقنية بطريقة تؤدي إلى زيادة الإمكانيات التعبيرية في الفيلم.

ما أحببته بشكل خاص، الطريقة التي صور فيها الفيلم ارتباطهما مجددا.. وكيف تخلى كل منهما عن دفاعيته شيئا فشيئا حتى أسرّا لبعضهما عن الواقع الصعب الذي يعيشانه. 
ما أحببته بشكل خاص، الطريقة التي صور فيها الفيلم ارتباطهما مجددا.. وكيف تخلى كل منهما عن دفاعيته شيئا فشيئا حتى أسرّا لبعضهما عن الواقع الصعب الذي يعيشانه. 

في سنة 1950، جادل أندريه بازين (Andre Bazin) بأسلوب مثير للجدل بأن الواقعية بوصفها أسلوبا سينمائيا قد أدركت ميزة جوهرية. ألا وهي قدرتها على أن تقدم لنا الممثلين على سجيتهم، ولكي يحدث ذلك، قال، ينبغي التخلي عن القص والدمج والسماح بالمشاهد الطويلة ذات اللقطة الواحدة لكي يتاح للفيلم التطور بطريقة تبدو طبيعية للجمهور. يظهر فيلم لينكلاتر أن ثمة مسلكًا آخر للواقعية، يتمثل في تطابق طول الفيلم مع مدة تصويره، عوض الاعتماد على التعديل لوصل الفجوات الزمنية ما بين الأحداث، يصوغ لينكلاتر حكاية يمكن تقديمها لإلغاء التباين بين المدة الزمنية للفيلم ومدة تصوير الأحداث التي تصنع الحبكة.

 

في افتتاحية الفيلم، يضيف المخرج بعض الارتجاعات الفنية (فلاشباك) من الفيلم الأول كوسيلة لتأسيس السياق الذي ستعرض فيه هذه التتمة. غير أنّ هذه الارتجاعات قليلا ما تطرأ، وحين تطرأ يكون ذلك بغرض ربطها بذكرى لها أهمية بالنسبة لأحد البطلين. لا تقاطع هذه الارتجاعات استمرارية تدفق الفيلم ولا تعلّقها. والنتيجة، كما قلت هي إحساسنا بأننا  معهم نسمع ونرى، طرف ثالث في الحديث بينهما.

 

وينتج عن هذا الأسلوب فيلم تشكّل مشاهدته متعة لافتة. تأسرنا كليا مشاهدة هذين الاثنين يتحدثان سويا. وما أحببته بشكل خاص الطريقة التي صور فيها الفيلم ارتباطهما مجددا. وكيف تخلى كل منهما عن دفاعيته شيئا فشيئا حتى أسرّا لبعضهما عن الواقع الصعب الذي يعيشانه. في البداية، يظهر كل منهما للآخر وجها يريد أن يقول إنه بخير. لكن مع مرور الوقت واستعادة الارتياح الذي كان، والعبور بذات الأحاسيس التي ظلت دفينة من تلك الليلة، لا يعود هناك مفر من الكشف عن الألم الذي يعيشانه وهما في بداية الثلاثين من العمر. حيث لم يعد هناك مجال للمزيد من الفرص غير المحدودة. يرى كل منهما نفسه مقيدا بالقرارات التي اتخذها فيما مضى. وكأن التقدم في العمر يعني ألا ندرك فرصة نجاح شيء من عدمه من خلال الاختيار الحر.

 

ولذلك، بالرغم من هذا النجاح الظاهري، لمؤلف –  من بين الأفضل مبيعًا. متزوج وله ابن – إلا إن جيسي يشعر أنه يعيش ضمن سلسلة من الالتزامات التي أقدم عليها دون وجود ارتباط حقيقي بمصدرها. سيلين، من ناحية أخرى، تتذمر من أن كل عشاقها قد تخلوا عنها فقط لكي يتزوجوا بأخريات ويشكروها لأنها مكنتهم بفضل فهمها من هذا الالتزام. ناشطة البيئة محرومة من حياة عاطفية تعتبرها كاملة وناجزة. إن خيبة الأمل التي يحس بها كلاهما من الحياة تشكّل شرارة تحيي الرومانسية التي كانت بينهما فيما مضى.

صورة من فيلم An Affair to Remember.
صورة من فيلم An Affair to Remember.
 

برغم الاستغناء عن بعض عناصرها الميلودرامية، تظل رومانسية (An Affair to Remember) تلقي بظلالها على الفيلم. وإن لم يكن، كما أسلفت، من مدخل ميلودرامي. يتضح لنا أن كلا البطلين ظل وفيا لتلك الليلة الفردوسية بغض النظر عن عيشهما حياة تبدو ظاهريا وكأنها تجاوزت ليلة فيينا. لكن برغم الالتزامات والنجاحات، يشعر كل منهما أن حياته خاوية لعجزه عن اختبار شيء مماثل لتلك الليلة. لا شك عندي في أن كثيرا من الناس يتمسكون بوهم اللحظة المفقودة، أو بإنسان ابتعد، وفقط بسبب هذا، يقولون إن حياتهم كان يمكن أن تختلف جذريا. لكن من المخيب للآمال أن نرى الفيلم قد قبل بهذه الفكرة دون تسجيل اي اعتراضات، ليقترح علينا بأن السعادة التي سيجدانها تتمثل بشكل تقليدي في استئناف العلاقة.

 

لا أقول إن هكذا أمر مستبعد الحدوث أو غير ممكن، ولكنه يلغي الاستعراض الرائع الذي قدمه الفيلم لمسألة التقدم في العمر، والتي تكون محفوفة بالمخاطر العاطفية. كيف نتعامل مع حياة تلغي نجاحاتها المهنية إمكانيات أخرى كنا نتوق لتجربتها فيما مضى. والتي تحتفظ بها الذاكرة من أجلنا حية كما لو أنها ما زالت هناك. عوض أن نرى هذه القضية كمعضلة حقيقية، يلجأ الفيلم إلى الفكرة الرومانسية التي تقول أن رجوعهما سويا كفيل بالقضاء على صعوبات الحياة. لو أن الفيلم أفرد مساحة أوسع للسبب الذي اضطرا من أجله للنظر خلفهما إلى تلك الللية بوصفها مهربا من التعامل مع إحباطات الحياة. لحقق الفيلم على مستوى الحبكة ما حققه الجزء الأول.

 

مع ذلك، لا زال الفيلم فريدا من نوعه، حيث يتيتح مجالا لتحقيق الواقعية في الأفلام، والابتعاد عن أسلوب أفلام التشويق السهلة، إنه يستحق المشاهدة والتأمل. 
 

المقال مترجم عن: philosophynow.org
المصدر : الجزيرة