شعار قسم ميدان

صراع الحب والموت في فيلم "مالنخوليا"

midan - film
يأخذنا ستيفان بوليا في جولة حول العدمية الأوروبية

"إننا لسنا بحاجة لصنع قنبلة ذرية على الإطلاق؛"فاقتلاع" البشر قد بدأ بالفعل … لم تعد أرضا هذه التي يحيا عليها البشر  اليوم." – مارتن هايدغر،  مقابلة في دير شبيجل ، 1966

يمكن تفسير آخر أفلام لارس فون ترايرLars Von Trier "مالنخوليا" باعتباره نتيجة منطقية لتاريخ العدمية الأوروبية، والتي كان من أبرز أنصارها  فلاسفة مثل آرثر شوبنهاور، فريدريك نيتشه، وسيوران، وشعراء مثل تشارلز بودلير وموريس رولينات ولوترمونت. ويبدو أن المخرج الدنماركي في الفيلم لا يبني حجته على "أسئلة عن قيمة الحياة" التي تخص نيشته وحسب، بل إنه أيضا يدعونا لنغير حالتنا من "بشر إلى كائنات أوشكت على الزوال" – سيوارن.

في الفيلم، يكون الكوكب "مالنخوليا" على مسار تصادمي مع الأرض، ونهاية العالم المخيفة في هذا الفيلم أصلية تماما، فهي لا تركز على التدمير البيولوجي أو المادي للكوكب والأنواع والأجناس  كما تفعل إنتاجات متواضعة مثل  "Independence Day" و"2012″، بل إنه بدلا من ذلك  يركز على ضغوط نفسية لاثنين من سكان الأرض، جوستين  المصابة بالمالنخوليا (السوداوية) الشديدة (تقوم بدورها كيرستن دانست Kirsten Dunst ) وأختها كلير (شارلوت غينسبورCharlotte Gainsbourg).
 

حركات الليل
undefined

مقدمة فيلم مالنخوليا أو "السوداوية" هي تصوير لرقصة الموت بين الكوكبين، الأول كوكب مالنخوليا – كوكب بحجم زحل- والثاني هو كوكب الأرض مصحوبة بمقدمة ساخرة لتاريخ الفن. موسيقى المقدمة هي توطئة  لترستيان وايزولده، إعلان لمرحلة ما بعد الرومانتيكية والتي تقترح الاشتباك ثم الاتحاد النهائي بين مبدأين متعارضين هما: "الحب والموت" وهنا ترمز الموسيقى إلى الاصطدام  الهائل -والفلكي أيضا- بين الكوكبين، صورت المقدمة بتقنية التصوير البطيء ويمكن رؤيتها كعرض مجرد لل"مالنخوليا" أو السوداوية، ملخصة بذلك  للفيلم كله. 

إذا كان التحالف بين الحب والموت، والدمار اللاحق بمبدأ الحب، هي رسالة مقدمة فون تراير، فسيصبح  الشعار العدمي للفيلم بأكمله هو: "إن الأرض هي الشر. نحن لسنا بحاجة أن نحزن عليها"(جاء ذلك على لسان جوستين). هذا الموقف يذكرنا بالـ "أدرية" أو حركة "الغنوصية" -هو مصطلح حديث يجمع الديانات القديمة التي انعزل أتباعها عن العالم المادي الذي خلقه خالق الكون المادي، وانغمسوا في العالم الروحاني، التي تعتبر رائدة للعدمية الحديثة من قبل العلماء مثل هانس جوناس وايون بيترو كوليانو، ومبدأها الأول كان أن عالم المادة (الأرض) هو الشر وأن الجنس البشري هو خلقٌ مشوه لقوة إلهية شريرة.

 

إن العدمية المقترحة في القرن العشرين من قبل كتاب مختلفين، مثل سيوران، مارينيتي وغوتفريد بن، تصدّر استنتاجا مثيرا للقلق وهو أنه بسبب العيوب الكامنة لدينا، فإنه يجب تدمير البشر! تكيفا مع واحدة من الحقائق النبيلة الأربع للبوذية، وهي أن المعاناة يجب أن تباد بالـ"نيرفانا" أي الإخماد.

 

يكشف لارس فون تراير عن تدميرية مماثلة، في كل من انتاجاته السابقة كفيلم "Anti-Christ" وفيلم "Melancholia" مصورا الـ"نوتش اسكورا noche oscura" (ليلة الروح الظلماء) ومعاناة كائن بشري مع ليلة "موت العالم"، وكما سيتضح لنا فإن ليلة مظلمة لشخص قد تكون أكثر أهمية من الليلة المظلمة للعالم كله! ليلة الروح الظلماء التي تعصف بجوستين بطلة الفيلم تبدأ في حفل زفافها، الذي رتبه زوج أختها الثري المتغطرس جون (يؤدي دوره كيفر ساذرلاندKiefer Sutherland ).  

في العادة يكتشف كثير من الناس أن علاقاتهم أو زيجاتهم تنهار بعد عدة شهور أو ربما سنوات من التفكك غير الظاهر، ولكن تكتشف جوستين ذلك بالطريقة الصعبة ''يوم زفافها''، فمرضها يجعلها تقريبا كمن يطلع على الغيب.
في العادة يكتشف كثير من الناس أن علاقاتهم أو زيجاتهم تنهار بعد عدة شهور أو ربما سنوات من التفكك غير الظاهر، ولكن تكتشف جوستين ذلك بالطريقة الصعبة "يوم زفافها"، فمرضها يجعلها تقريبا كمن يطلع على الغيب.

وذكرني انطباع  لارس فون تراير عن النفاق والأجواء المصطنعة  للاحتفالات البرجوازية  بالفيلم الساخر "Festen1998" الذي أخرجه زميل لارس "توماس فينتربرج Thomas Vinterberg".  في الحفل يتضح أن جوستين مغتمة ومهمومة من الكلام المزعج لأمها جابي (تقوم بدورها شارلوت رامبلينج Charlotte Rampling ) قائلة لها: "استمتعي ما دام الأمر سيدوم، فأنا نفسي أكره الزواج" فتبدأ حينها هالة ضبطها لنفسها في التحطم. هذا الكلام مهم على نحو خاص لأنه يزعم أن الزواج شيء كريه، شيء يجب أن يكون ممقوتا ويُخشى منه، تقابل جوستين بعد ذلك أختها كلير والتي تلمح لها أن ظل اكتئابها قد يفسد الحفل.

 
ويتناقض موقفها المتحكم مع ردود جوستين السلبية المليئة بالشعور بالذنب، تمنح الأختان انطباعا عن السادية الزوجية كتلك الديناميكية بين الطبيب النفسي والمريض. ومن المثير للاهتمام أنه في نهاية الفيلم يتم عكس هذه العلاقة. فشكوك  جوستين حول الزواج تصبح مرئية لأنها تصبح أكثر انسحابا، فتأخذ قيلولة ثم حماما مفسدة بذلك الجدول الزمني للزفاف، والأهم من ذلك أنها تشهد زوال زواجها من اليوم الأول، أولا برفض مشروع زوجها (الكسندر سكارسجاردAlexander Skarsgard) علاج حزنها بصورة بستان تفاح لتهدئ أعصابها، وثانيا من خلال رفضها له وممارسة الجنس مع أول رجل تقابله. في العادة يكتشف كثير من الناس أن علاقاتهم أو زيجاتهم تنهار بعد عدة شهور أو ربما سنوات  من التفكك غير الظاهر، ولكن تكتشف جوستين ذلك بالطريقة الصعبة "يوم زفافها"، فمرضها يجعلها تقريبا كمن يطلع على الغيب.

وفي تطور للحبكة يذكرني بلورنس دوريل Lawrence Durrell (روائي وكاتب بريطاني)، يركز الجزء الثاني من الفيلم بشكل رئيسي على كلير، وإحدى أهم سمات هذا الجزء صورة مرسومة لجون، زوج كلير.  كانت عبارة جون الأولى وهي: "يتفق جميع العلماء الحقيقيون على أن كوكب المالنخوليا سيمر من أمامنا وسيكون أجمل منظر على الإطلاق." وهو يعد نموذجا أصليا للعالم العقلاني ولكنه ينتهي أقرب لفيلسوف رواقي* (أحد أتباع المذهب الفلسفى الذى أنشأه زينون حوالى عام 300 ق.م. و الذى قال بأن الرجل الحكيم يجب أن يتحرر من الانفعال ولا يتأثر بالفرح أو الترح وأن يخضع من غير تذمر لحكم الضرورة القاهرة) عقيدته الأولى هي "pereat mundus et fiat Scientia" أي "دع العالم ينتهي وادعُ للعلم!".

في نهاية الفيلم يعيد المخرج الفكرة الرئيسية بمواجهة الشقيقتين وابن كلير الشاب ليو (يقوم بدوره Cameron Spurr)  نهاية العالم في "الكهف السحري" وهو ملجأ مصنوع من العصي الخشبية  شيد بناء على اقتراح جوستين لتواسي ليو، وهنا تنهار كلير تماما بينما تكون أختها المصابة بالمالنخوليا أكثر تماسكا، ويؤكد هذا على نظرية أن المرضى العقليين يواجهون الكوارث الخارجية بسهولة أكبر لأنهم أكثر اعتيادا على الصدمات والاضطرابات النفسية الشديدة. وهذا قد يوضح  الفكرة التي يلمح إليها الفيلم أن (الليلة العدمية التي أموت فيها داخليا، وأهبط للجحيم بلا عودة- حينما يموت عالمي بأكمله بداخلي) لهي أكثر رعبا من  ليلة القديس بارثولوميو( أي الموت الكوني) والذي من شأنه أن يكون افتراضا سخيفا إذا نظرنا له من منظور عقلاني:  فكيف يكون زوال فرد واحد أكثر أهمية من زوال الجنس البشري برمته؟


الموت الكوني وموت الفرد
undefined

رؤية لارس فون تراير لنهاية العالم في فيلم مالنخوليا  توضع في نفس الفئة من العدمية الرومانسية  مع قصيدة  "الظلام" لبايرون  و"مالادورو" لتريامون: و مؤلفات سيوران، فجميعهم يبدأون  بالتفكك النفسي للفرد ويتوسعون إلى مشروع دمار شامل، فأول واحد منا يموت داخليا يجب على الجميع أن يتبعه فهذه هي القاعدة التي لا جدال فيها للعنف العدمي.
 

"كان لدي حلم، و لم يكن كله حلما
الشمس الساطعة انطفأت، والنجوم هامت على وجهها  تظلم في الفضاء الأبدي
بلا شعاع، بلا هدى، والأرض الجليدية تأرجحت كفيفة مسوّدة في الهواء الخالي من نور القمر
 كان العالم خاويا، الذي كان مأهولًا قويًا أصبح كالكتلة الجامدة
بلا مواسم بلا اعشاب بلا اشجار بلا رجال، بلا حياة
قطعة من الموت، فوضى من الطين الصلب"

قصيدة الظلام – بيرون

 

تقدم قصيدة بيرون نوعا ما مشهدا للقلق والانعدامية، فقد ذكر انعدام النور وانعدام الهدى وانعدام المواسم، في الكون الوهمي للـ"مالنخوليا" تتحول الحياة إلى قصيدة للموت، خذ مثلا مشهد منح جوستين نفسها لكوكب الموت تعبده عارية مع اقتراب المالنخوليا المتوعدة.
 

وانظر أيضا لهذا الاقتباس: "إن كان وجه الأرض مغطى بالقمل وشاطىء البحر مغطى بحبات الرمل فالجنس البشري سيقع فريسة للألم المروع، ويا له من منظر! معي لا حراك لأجنحتي الملائكية في الهواء أتأمل ذلك." – قصيدة لوتريامون "مالدورو" – ترجمة بول نايت عن الفرنسية.

وهنا نهاية العالم  الخاصة بـلوتريامون، بها نوع من النظرة التطورية، فمن وجهة نظره فإن جنسا من الحيوانات المفترسة "القمل" يحل محل جنس لم يعد مبدعا حوصر في دوامة التآكل، هذا المشهد من التفكك البشري قدم مع بعض السخرية والتهكم، وعلاوة على ذلك  فإن الفاعل يبدو كما لو كان يراقب نهاية العالم من كوكب"مالنخوليا" آخذا وجهة نظر غير بشرية أو معادية للبشر: "معي بلا حراك على أجنحتي الملائكية في الهواء نتأمل ذلك". كما يمكننا ملاحظة وجهة نظر منفصلة وغير بشرية فيما كتب سيوران أيضا: 

"مشهد رجل، يا له من شيء يثير الغثيان، الحب مبارزة، فكل المشاعر تمتص أقصاها من بؤس مصادرها، يكمن النبل فقط في ابتسامة تتطلع  إلى المناظر التي تُباد".. وهذا هو التناقض الداخلي للعدمية التي تتخطى ذاتها، فهي عدمية تريد في البدء أن تدمر وثانيا تريد أن تشاهد الدمار من أعلى!

إذا كانت ابتسامة  سيوران التي "تتطلع للعالم الذي يباد" تذكرنا بأهوال الحرب العالمية الثانية، كيف سيكون الدمار الكوني الذي يقترحة فيلم "مالنخوليا"؟ لعل المخرج الدنماركي يعبر عن أعمق رغباتنا اللاشعورية  في الهرب من الوجود  والخلاص منه، فهو يفسر  غموض "رغبة الموت" وغريزة الموت والتي لها جذورها في جوهر حضاراتنا، ومع ذلك بتذكر أهمية موسيقى "تريستان وايزولده"، فإنه إذا اجتمع الموت والحب معا وتصادما، يجب علينا أن نتمسك بالحب حتى يبدّل قوة الموت.
_________________________________________________________________

المقال مترجم عن: https://goo.gl/qwhQZq
المصدر : الجزيرة