شعار قسم ميدان

الأوسكار وجمهور الذهب

ميدان اوسكار

في مثل هذه الأيّام من العام الماضي، وفي الثامن والعشرين من فبراير على وجه الدقة، كان أحد الحضور داخل مسرح دولبيفي لوس أنجلوس على موعد مع حدث استثنائي في حياته. يستضيف دولبي حفل توزيع جوائز الأوسكار للمرة السادسة عشر على التوالي منذ افتتاحه عام 2001.

 

على مقربة من خشبة المسرح كان يجلس الرجل الذي بلغ قبل أشهر قليلة عامه الواحد والأربعين، ورغم كثرة الحضور وتعدد الأسماء والأحداث التي أحاطت بذلك الحفل على وجه الخصوص إلا أن رجلاً واحداً كان اسمه يتردد على كافة الألسنة، إنه ليوناردو ديكابريو.

 undefined

قبل ساعات كان ديكابريو أمام المرآة يعطي نظرة أخيرة على مظهره بعد أن ارتدى بدلته السمراء من ماركة جورجيو أرماني كما جرت العادة في مناسبات كهذه. كبر كثيراً منذ المرة الأولى التي يجد نفسه مرشحاً لأحد جوائز الأوسكار، فقبل 22 عاماً كان الشاب ذو 19 سنة يزاحم باسمه تومي لي جونز وجون مالكوفتش في طريقه للحصول على جائزة أفضل ممثل مساعد عن دوره في فيلم "What’s Eating Gilbert Grape".

 

لم يكن يعلم أن الوقت لا يزال مبكراً لكي يحصل على جائزته، ولم يكن يعلم بأنه سيحضر لثلاث مرات أخرى بعدها كي يمعن النظر في سلالم التتويج دون أن يلمسها بقدميه. لكنه الآن هناك، ليس بعيداً عن تلك السلالم، وكل الصحف التي طالعها في طريقه إلى هنا كانت تتنبأ بفوزه أخيراً بأول جائزة أوسكار في تاريخه المهني. إن عدم التفكير بالأمر سيكون أفضل بكثير من محاول فهمه بالنسبة إليه.

 

على مقربة منه يجلس الإنجليزي إيدي ريدماين الذي نال الأوسكار في العام الذي سبقه، وها هو مرشح للعام التالي وينافس بقوّة. أمّا خارج القاعة فكان جمهور الأوسكار في جميع أنحاء العالم يرى بأن الفرصة مواتية لتتويج بطلهم الذي عاصروه منذ بداياته. حملات واسعة قادها ما يمكن أن ندعوه "جيش ليوناردو ديكابريو" لدعم فوزه بجائزة الأوسكار.

 

تحمل الامريكية جوليان مور المغلف الذي يحتوي على اسم الفائز بفئة أفضل ممثل بدور رئيسي. بعد تقديمها للمرشحين تعلن أخيراً فوز ديكابريو الذي لطالما تمنّى أن يصعد بقدميه تلك السلالم وها هو يصعدها أخيراً. يقف جميع من في القاعة ولا يتوقف التصفيق ولا يخفي ديكابريو خجله وارتباكه.
 

 undefined

شاهد العالم لحظة التكريم التاريخية، وخطاب ديكابريو الموزون، وشعر الغالبية بانتصار صغير يتحقق أمام أعينهم. بعض الدفء تسلل إلى منازلنا معلناً عن نهاية مرحلة طويلة عاصرناها بحذافيرها – كجيل راقب بهدوء صعود نجم ديكابريو، ووقف إلى جانبه في كل مرة شعر فيها بأنه تعرض لظلم.

 

ماذا تعني لحظة الفوز للفنان والجمهور؟
بجانب الأجواء الاحتفالية يمكن لمس الأهمية الكبرى التي تعطيها جوائز الأوسكار للأفلام التي تلوذ بها، هذه الأهمية التي تنعكس بالضرورة على تصوّرات الجماهير حول الممثل الأفضل والفيلم الأفضل، شيئاً فشيئاً، قد نجد أنفسنا أمام تصوّر جماهيري واسع، لا يختلف في مضمونه كثيراً عن ذلك الذي تبنته لجنة توزيع جوائز الأكاديمية.

 

هذه الأهميّة والأفضلية التي تحيط بأسماء بعينها كل عام تساعد على اندماج الجماهير بالحركة الفنية السينمائيّة لكنها أيضاً تجعله محدوداً بخيارات معينة، بل وتجعله مساهماً رئيسياً في تفضيل أحد تلك الخيارات على غيرها إذا ما قرر أن يدعم ممثلاً بعينه كما حصل مع ليوناردو ديكابريو قبل عام، دون النظر إلى إمكانية أن تكون خسارته أمراً عادياً في ظل مسابقة تنافسية بالأساس.

 undefined

لا تتعلق تنافسيّة الأوسكار بالرصيد التاريخي لهذا الشخص أو ذاك إذا كانت المنافسة لا تسمح له بنيل التكريم ضمن قدراته أمام المنافسين الآخرين في تلك المرحلة تحديداً، وهو ما يغفل عنه الكثيرين من متابعي الأوسكار. (1) لهذا تنتهج الأكاديمية تقديم جوائز تكريمية شرفيّة لأولئك الذين لم ينالوا الأوسكار في مسابقة تنافسية مثل ما حصل مع الممثل الشهير جاكي شان. (2) لكنها لن تقوم بتكريم فنان معين تقديراً لرصيده الفني إذا لم يكن يستحقها بالفعل أمام منافسيه عن العمل الذي تقدّم به.

 

إذا تركنا جانب الجماهير لبعض الوقت ونظرنا إلى معاني لحظة الفوز بالنسبة إلى الفنانين فإنه من المعلوم بأن الأوسكار تستطيع تحسين الحياة المهنية لمن ينالها بل وتدعم الفيلم الذي ينال الجائزة الكبرى، ففوز أحد الأفلام بجائزة من جوائز الأوسكار سيزيد من عمر هذا الفيلم في صالات العرض، بل وسيرفع من نسب بيعه لاحقاً من خلال نسخ الديفيدي كما تشير صحيفة التيليغراف البريطانية. (3) كما سيزيد الأوسكار من فرص الممثل للحصول على أدوار أكثر أهمية مع فائدة مالية أعلى بكثير.

 

اما بالنسبة للجماهير فإن أهمية هذه اللحظة لا يبدو أنها تصل لما هو أبعد من ذلك بدون الحركة التي يقوم بها الجمهور نفسه. إذ يرى الصحفي الأمريكي مارك بيرمان بأن الأوسكار تكون مهمة لنا بالقدر الذي نعتقد نحن -الجمهور- بأنها كذلك. (4) وبناءا على هذا فإن منح الأفضلية العليا لمن ينال الأوسكار يكون فعلاً جماهيرياً بالأساس إذا أخذنا بالاعتبار أنه لم يكن في لحظة من اللحظات هدفاً لجوائز الأوسكار أن تمنح هذه الأفضلية التي تلغي الآخرين بقدر سعيها الخاص نحو تحقيق احتفاء معين تمارسه السينما لروّادها ومحبيها.

 

وجد المخرج الأمريكي من أصل إيطالي، مارتن سكوسيزي، مصيراً مشابهاً قبل عشر سنوات من خطاب ليوناردو ديكابريو. حصل سكورسيزي على ستة ترشيحات قبل أن ينال الأوسكار في المرة السابعة عن فيلم The Departed عام 2006. (5) وبنفس الطريقة كان المخرج الأمريكي من أصل إيطالي قد تلقى موجات من الدعم (6) الجماهيري التي طالبت في مجملها بمنحه جائزة الأوسكار تقديراً له عن أعماله التي نالت اعجاب الملايين، حتى جاءت لحظة التكريم فلم يصدق سكورسيزي نفسه فقال مازحاً "هلّا تأكدتم من الاسم؟".

 undefined

لا يعتبر فيلم "الراحلون" واحداً من أفضل أعمال سكورسيزي، لكنه كان الأقوى في سنته فحصل على الجائزة، وسيذكره التاريخ على أنه العمل الذي منح مخرجه أخيراً وبعد ثلاثين سنة من العمل في هذا المجال جائزة الأوسكار، والتي لم يرافقها أي ادعاءات بأنها كانت جائزة تعاطفية أو فخرية لمسيرة الرجل. لكن بالنسبة لسكورسيزي ستبقى لحظة الفوز هي لحظة السعادة، لحظة مستقلة بذاتها، لم يدفعه غيابها إلا لمزيد من الحضور بأعماله الخالدة، ولم يدفعه حضورها إلا إلى الاستمرار بما كان عليه أصلاً ولكن بقيمة مادية أعلى هذه المرة.

 

بالمُلاحظة يمكن للمتابع أن يرى اليوم ضعف الحديث بين المهتمين عن ليوناردو ديكابريو الذي ملأ اسمه أفواه المهتمين قبل سنة واحدة فقط، رافق ذلك خفوت الزخم الإخباري حوله، فبعد تسلمه لجائزة الأوسكار تحوّل ذلك الزخم من تغطية أخباره كفنان في هوليوود إلى اعتباره أحد أهم الناشطين في مجال محاربة الاحتباس الحراري في العالم، وهو ما يعززه كل من فيلمه الجديد عن الاحتباس الحراري ومؤسسته التي تحمل اسمه والتي تُعنى بحماية الحياة البرية. (7)

 

فإذا كانت لحظة استلام جائزة الأوسكار بالنسبة للفنان لا تعني تقييمه كمبدع وإعطاءه الشهادة التي تؤهله لنيل هذا اللقب بقدر ما تعنيه من زيادة في قميته المادية، فإنها تعني للجمهور أمراً آخر مختلفاً بعض الشيء، فلحظة استلام النجم المفضل لجائزة الأوسكار هي لحظة الرضى القادرة على شراء صمته لفترة من الزمان.

المصدر : الجزيرة