شعار قسم ميدان

"أصغر فرهادي".. استجواب الحياة حين ينهزم الجميع

midan - asghar

كان طفلًا صغيرا، اعتاد التسلل إلى صالة العرض الوحيدة التي كان بالإمكان دخولها دون تذاكر في "أصفهان"، صالة بلا أبواب ولا كراسي نظيفة ولا حراس ولا نظام محكم للحجز، لم يكن يحتاج مع صالة مهترئة كهذه سوى سنوات عمره الستّ التي توفر له جسدًا صغيرًا، وتوفر عليه المساءلة، ليتسلل إلى عرض كل الأفلام التي يريدها.

 

كان فيلمًا أجنبيًا، مراهق في وسط حرب ما، دخل في منتصف الفيلم، وخرج مأخوذًا بالقصة، ومنبهرًا بقدرة ذلك المراهق على القضاء على الرجل الشرير، فأمضى الليل كله يتخيل بداية القصة التي فاتته، لفترة طويلة جدًا لم يتوقف عن محاولة تأليف تلك البداية، وتعريض القصة منذ مقدمتها وتدفقها حتى النهاية لكل الاحتمالات الممكنة، يعتبر "فرهادي" هذا السيناريو للفيلم الذي لا يعرف اسمه أول سيناريو يؤلفه. (1)

 

سبعة أفلام هي مسيرته الفنية حتى الآن، مسيرة هي من أنجح ما يمكن أن يحققه مخرج، جوائز في أكبر المهرجانات، وأرقام قياسية، ومجسم أوسكار، هو الوحيد للسينما الإيرانية حتى الآن، ففيلمه الجديد "البائع" مرشح أيضًا لأوسكار هذا العام في فئة أفضل فيلم أجنبيّ.

أصغر فرهادي ممنوع من دخول الولايات المتحدة لأنه إيراني، حتى ولو كان إيرانيًا مرشحًا لنيل الأوسكار
أصغر فرهادي ممنوع من دخول الولايات المتحدة لأنه إيراني، حتى ولو كان إيرانيًا مرشحًا لنيل الأوسكار

أراد "فرهادي" لأفلامه أن تكون هادئة بعيدة عن السياسة، لكنّ جنسيته الإيرانيّة تضعه هذا العام في قلب صخب لطالما نأى بنفسه عنه، هو ممنوع من دخول الولايات المتحدة الأميركية لأنه إيراني، حتى ولو كان إيرانيًا مرشحًا لنيل الأوسكار. انتشرت تكهنات بأن اللجنة قد تسعى للحصول على استثناء قانونيّ له يمنحه فرصة حضور الحفل، لكن "فرهادي" استبقها جميعًا بإعلان مقاطعته للحفل وإدانته لقرارات ترمب.

 

مُساءلة الحياة.. البداية التي لا نهاية لها
 "راجعتُ كل السيناريوهات التي كتبتها، بحثت عن شيء واحد مشترك بينها جميعا، ووجدت أن لا مشترك أكبر من "السؤال"، كانت بدايتي بطرح الأسئلة، ثم أصبحت أسئلتي أكبر وأثقل مع مرور الزمن، وتعددت أوجهها. إذا استطعت بأعمالي أن أخلق جرأة التساؤل في مشاهد، وأن أزرع في رأسه بذرة سؤال واحد، فسأكون سعيدًا بالوقت الذي كتبت فيه أفلامي. إنّ عالمنا بحاجة إلى من يطرح الأسئلة أكثر من حاجته إلى من يتطوّع بالإجابة، إنّه بحاجة إلى من يضع علامة الاستفهام أمام أيّ شيء مهما بدا قاطعًا ويقينيًا"

(أصغر فرهادي، من مقدمة كتابه "سبع سيناريوهات")

 

بمقدمته القصيرة، يُعطي فرهادي المشاهد نبذة عن عالمه، إنه يختار أن يكون المدخل إلى أعماله هو السؤال، كما كان مدخله هو إلى السينما، إنه "يستجوب الحياة" وتعقيداتها كما يصف نفسه حين يتحدث عنها، في الثالثة عشرة من عمره يصنع فيلمه/سؤاله الأول "عيون"، كان يحكي قصة عُمال لا يُسائلون الحياة مثله، يعملون في مصنع لإذابة الزجاج، يعلمون أنّ الأبخرة التي تتصاعد من إذابته ستسبب لهم العمى في غضون 10 سنوات، لا يعترضون، تحت سطوة الحياة يستمرون مجبرين، لا يملكون قوة الرفض أو السؤال. (1)

undefined

أفلام فرهادي تدور حول تعقيد اللحظة العاديّة جدًا في حياة أسر عادية وأشخاص عاديين، المواقف التي اختبر كل مشاهد في حياته ما هو شبيه بها، وربما لا يعرف أن للموقف البسيط الذي عايشه بنفسه أوجه أخرى، إنه يصف الحياة التي تخلق من البشر نسخًا لا يتصورونها عن أنفسهم، تسحقهم تحت ثقل التفاصيل الكثيرة حتى حين يمارسون حياتهم اليوميّة، حياتهم الاعتياديّة وفقط. (2)

 

من هو المخرج الكبير؟ يجيب فرهادي بأنه المخرج الذي لا مسافة بينه وبين أفلامه، مخرج يشبه أعماله الفنية، يصبح المخرج كبيرًا عندما يلتقط من حياته وتجربته خيوط أسئلته، إن الأسئلة المنسوجة من خبراته الخاصة وتفاعلاته اليومية وأزماته الشخصية، ستكون أكثر صدقًا وإقناعًا وأصالة، وستملك من الوضوح والعمق ما يجعلها وقود عمل يخلق في رأس المشاهد شرارة أسئلته الخاصة. (3)

 

حين خالف فرهادي تعريفه الشخصي لما يجعل من المخرج مخرجًا كبيرًا، لم يحصد عمله سوى استقبال نقديّ فاتر، وحضور باهت، فيلمه "الماضي" هو الوحيد الذي تم تصويره خارج إيران، بممثلين فرنسيين وروح فرنسية، ويوضع خارج تصنيف أفلامه الستّ التي حصلت على احتفاء وتقدير مختلفيْن، تمامًا كما حدث مع كيارستمي حين قرر أن يخوض تجربة صناعة فيلم في فرنسا، حتى مع ممثلة بحجم "جولييت بينوش" لم يستطع فيلم "نسخة طبق الأصل" أن يكون ببريق أفلامه الإيرانيّة، هو أيضًا كان قد خالف رأيه الشخصيّ: "إن الزهرة تتشرب بروح الأرض التي تنمو فيها، إذا انتُزعتْ وغُرست في أرض أخرى قد تنمو، لكن لن يفوح منها أبدًا نفس العطر".

 

بعد تجربة "الماضي" توقف فرهادي لسنوات أربع، عاد فيها مجددًا إلى إيران، ليخرج هذه المرة بفيلمه "البائع"، الفيلم الذي جاء أبعد ما يكون عن فيلمه الفرنسيّ خافت البريق، لا يتوقف عن حصد الجوائز، وهو مرشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبيّ.

صورة من فيلم
صورة من فيلم "الماضي" (imdb )

يصنع "فرهادي" أفلامًا لها طابعها الإيرانيّ الأصيل، لكنّها لا توضع في نفس السلّة مع سينما غيره من المخرجين الإيرانيين الحاصلين على التقدير والإشادة العالمييّن. هناك مثلًا "كيارستمي" و"مجيد مجيدي" و"مخملباف"، على الرغم من الاختلافات بين ما يقدمون، إلا أن أعمالهم تجمعها الصوفية والشاعرية، هي في أغلبها أفلام لها روحانيتها، تنشغل بالأسئلة الكبرى، وكثير من أبطالها أطفال، تبدو حكاياتهم رحلة تأملية طويلة تلتقط الكاميرا تفاصيلها، وهناك أيضًا "جعفر بناهي" الذي يُبدع في مساحة أخرى، إنه العنيد صعب المراس، تحمل أعماله دائمًا رسالة سياسية، وتمُنع أفلامه باستمرار من العرض على الشاشات في إيران.  

 

بعيدًا عن هذا وذاك، يصبغ فرهادي فنّه بلونه الخاص، إنه يصنع سينما لا تهتم بالسياسة، ولا تتسم بالصوفية ولا تشغلها الانحيازات الأخلاقية، سينما تقف على مسافة واحدة من أبطالها، جميعهم ضحايا بشكل أو بآخر، وجميعهم مذنبون بطريقة أو بأخرى. يشعر فرهادي أن فيلمه يؤتي ثماره حين يلمس المشاهد تلك الحيرة أمام أبطاله، حين يقف خائفًا من الانحياز لأحد، متعاطفًا مع الجميع، يعرف أنها "حرب بين الخير والخير، وأن الشر ليس بالضرورة طرفًا في كل حكاية"، حين يعرف أن "الهزيمة قدر الجميع"، بغض النظر عن دوافعهم وأخلاقياتهم. (2)

 

صراع بين الصور والخيالات.. تحسمه الوجوه الحقيقية
 "إنني أفحص حكاياتي بنظرة متشائمة، وأحاول تعريضها للأسئلة، وأحاول أن تنكشف حكاياتي أمام أسئلتي، أستبعد تلك التي لا تجد ما تستطيع أن تستر عيوبها به أمامي، أما التي تنتصر فهي تلك التي أستطيع أن أتخيل شخوصها أحياء، ثمّ أمنح كلا منهم زمانًا ومكانًا ووجهًا"
(أصغر فرهادي)
 

undefined

"زحام شديد"، هي الكلمة التي يستخدمها "فرهادي" للتعبير عن أفكار الأفلام في رأسه، إنّه صراع طويل، وتكدس خانق، قوامه عشرات الصور والقصص، اختيار الحكاية ليس أمرًا سهلًا، لا نهاية للخيال، ولا نهاية لقدرته على التفاعل مع أبسط أحداث اليوم والليلة، هناك دائمًا بالنسبة لفرهادي عنصر سحريّ في الحكاية، عنصر كان يتخيل أنه جاذب له فقط، لكنّه اكتشف أنّ العالم قد ينجذب أيضًا لسحره البسيط، والمفعم بإحساسه الخاص، ومشاعره المكثفة. (3)

 

اعتاد "فرهادي" أن يقص حكاياته مرارًا وتكرارًا على مسامع أصدقائه وزملائه، إخراج الحكاية أمام المستمع يجعلها تنضج، وتكتسب تفاصيلها ورونقها، هكذا تورق تفاصيلها في خياله ثمّ تتفاعل مع غيرها، ويرى كيف يستقبلها الناس، وهو ما يساعده في اختيار فيلمه القادم.

حدث أن كان قد كتب سيناريو لفيلم يعتزم تصويره، حين جلس يقصه على أصدقائه في مقهى، خرجت حكاية أخرى، وجد نفسه يحكي لنصف ساعة عن شيء شعر به في لحظتها من التفاعل حوله، كان ذلك هو فيلم "الماضي".

 

تثقل التفاصيل أحيانًا على "فرهادي" المولع بها، يتحدث عن جارته الغاضبة في باريس، لم تكن قادرة على النوم بسبب الضوضاء الخارجة من شقته، تسأله: ما الذي تفعله ليسبب هذه الضجة كلها؟ يجيبها: "أكتب". اعترضت الجارة وأخبرته أنها كاتبة أيضًا، لكنهّا كانت تعتقد حتى تلك اللحظة أن الكتّاب يجلسون خلف المكاتب حين يمارسون عملهم. يشرح فرهادي طريقته، إنه يمشي أثناء الكتابة، ينفعل أحيانًا حين يصبح المشهد أكثر إثارة، فيقفز، أو يركض، هكذا فقط يستطيع جسده أن يُساير سرعة تدفق الأفكار في عقله، لهذا أصبح لزامًا عليه أن يجد شخصًا يكتب بينما هو يتكلم أثناء ركضه، يختار هذا الشخص بحيث لا يظهر ردود أفعال على ما يقوله، ليمنحه حرية تدفق أفكاره دون تدخل.

undefined

ثمة مخرجون كبار لا يتهيبون خوض التجارب بأنواعها، "سكورسيزي" مثلًا تنقل في مسيرته بين أكثر من لون فني، ولم يكتفِ بنوع واحد، لقد غامر حتى بصنع فيلم "هيوجو" الذي استخدم فيه تقنيات ثلاثية الأبعاد، وأخرج فيلمه "الصمت" في اليابان بعد أن تجاوز السبعين، مع ذلك خرج فيلمًا لا يشبه أعماله السابقة، لكنّ "فرهادي" يعترف أنه لا يستطيع أن يتجاوز بسهولة ذلك النمط الذي اعتاد عليه، بالنسبة له تصبح الكتابة أصعب فأصعب كلّما أنتج أفلامًا أكثر، يصبح المخاطب ملمًا بطريقته في السرد، لا مفر من هذا، إلا أن يستعمل طريقة أخرى هو غريب عنها، يصبح التحدي أمامه إذًا أن يستمر في الكتابة بالطريقة التي يتقنها دون أن يسبب مللًا للمشاهد الذي يعرفه، ليس أمامه سوى أن ينضج بكتابته وتنضج به، أو أن يدفعه الخوف للبحث عن قصة غريب عنها وغريبة عنه، فيقوده للفشل. (٢)

 

اختباء الحدث.. لتنكشف للمشاهد غرابته
في أفلام فرهادي هناك أوجه عدة لكل حكاية، القصة تنسج ذاتها وتنضج وتتكامل على ألسنة أكثر من بطل، روايات مختلفة كلها بالقدر نفسه من الإقناع والحجة، تمامًا في اللحظة التي يشعر المشاهد أنه سينحاز لرأي بعينه، أو أنه كوّن قناعة تامة عن مشهد أو شخص، يُعري فرهادي وجهًا آخر للحكاية، وجهًا مختلفًا وربّما متناقضًا، يتقلب المشاهد بين الرأيين لفترة، ثمّ تظهر رواية ثالثة، حين يعيد المشاهد في رأسه تلك اللحظة المتوترة بين طرفين، سيجد صعوبة في اختيار انحياز بعينه، سيجد الطرفين مبررين، وسيجد كلاهما مثقلًا بالحياة وتعقيداتها، ومتعبًا يريد أن يستريح، سيتمنى لكليهما السكينة، لكنه سيعلم أن الحياة لا توفر هذه الرفاهية الكبرى. (٣)

 

يرفض فرهادي باستمرار أن يجيب على الأسئلة بخصوص حكمه الشخصي على أبطال أعماله، إنه يعتبر حياته موزعة على أبطاله، ومُعرضة لأن تضعها الأقدار مكان أيّ منهم، حينها "ربما سيتصرف مثلهم، أو ربما تفاجئه نفسي بتصرف لا يعرفه." يتضامن فرهادي في أعماله مع الإنسان، يتفهم دوافعه، ويتعاطف معها، إنه يفترض أن لا إنسان يستطيع أن يعتبر نفسه أكثر خيرية من الآخرين، أو أن يرى ما بداخله من حسن نوايا يفوق ما عند غيره من طيبة قلب، إنه ببساطة لم يجرب أن يكون الآخر، وببساطة لم يكتشف في نفسه بعد ذاك الجزء الغريب عنه، المحجوب بتصوراته الساذجة عن نفسه، والذي لا تعريه سوى التجربة، والتجربة وحدها. (2)

في فيلم
في فيلم "انفصال" يعالج الموضوع الرئيسي قصة زوجين يريدان السفر خارج إيران، بينما تظهر الحكاية الفرعية للخادمة التي يدفعها الزوج فتسقط حملها

تعتبر الأستاذة بعلم النفس "جوليا كريستيفا" أن قدرة المؤلف أو الكاتب على خلق شخوص مختلفة لا تنبع إلا من خلال قدرته على "اختبار نفسه"، روحيًا وفكريًا وحتى جسديًا، بوضعها مكان تلك الشخصيات كلها، في الوقت الذي قد ينشغل فيه الآخرون بالسفر عبر المكان، فإن المؤلف يختار السفر عبر ذاته، إنه يعالج علاقته بالغير الغريب عن طريق العودة إلى الغريب الذي يسكنه أولًا، يعتبر فرهادي أن غرابة سلوك أو شخص ليست سوى في جهل الإنسان بذاته وأعماقه، أو بتعبير "كريستيفا" فإننا إذ نتعرف على الغريب فينا، "نوفر على أنفسنا أن نبغض الغرابة في ذاتها، حينها نجد ببساطة  أننا جميعًا غرباء، وغريبون، متفردون بشكل يجعل وجود دلالة للفظ "نحن" إشكاليًا وربما مستحيلًا".(1)

 

في أعمال فرهادي تتداخل المعضلات الأخلاقية في صلب الحكاية وعلى هوامشها، هناك دائمًا قصة على هامش الحكاية الرئيسية التي يعالجها الفيلم، وهناك دائمًا روايات متعددة ومعضلات أخلاقية حتى في تلك التفاصيل الهامشية جدًا. في فيلم "انفصال" يعالج الموضوع الرئيسي قصة زوجين يريدان السفر خارج إيران، بينما تظهر الحكاية الفرعية للخادمة التي يدفعها الزوج فتسقط حملها، يعتقد الزوج أن الخادمة كانت لتتسبب بإهمالها في موت والده المريض، لكن لدى أطراف الحكاية الأخرى روايات مختلفة كالعادة.(4)

 

في فيلم "البائع" يقتحم رجل منزل زوجين، ويتعدى على الزوجة بضربها، ثمة روايات ثلاثة للحادثة، رواية الزوجة، ورواية الزوج، ورواية الرجل المعتدي، يفترض الزوج أن الرجل أراد اغتصاب زوجته، الرجل ينفي عن نفسه أي نية للاعتداء أصلًا، لأنه فقط كان في زيارة لساكنة الشقة السابقة، بائعة الهوى، والزوجة لا تستطيع اتخاذ موقف صارم من الرجل الذي تريد من زوجها أن يسامحه، يُدافع "فرهادي" عن قداسة المساحة الشخصية للأفراد، المساحة التي تضمن لهم ممارسة غرابتهم وتفردهم دون أن يتعرض لها أحد، الزوجان لا يدينان الرجل الذي جاء في زيارة بائعة الهوى، لكنهما يدينان اعتداءه على منزلهما، والذي يصعب على الزوج أن يغفره حتى حين يعلم أنه دون قصد.(5)

في فيلم
في فيلم "إيلي" تختفي الفتاة دون أن يعرف أحد هل عادت إلى منزلها أم غرقت في البحر، لقطة واحدة غابت فيها الكاميرا التي كانت ترصد كل تفاصيل ما يحدث كانت كفيلة بخلق روايات عدة

في كتابته للسيناريو، يختار فرهادي أكثر ما قد لا يتوقعه المشاهد، ليفاجئه به بشكل متكرر، على المشاهد أن يعرف أن عدم قدرته على تخيل دافع منطقي للطرف الآخر، لا يعني أن الدافع غير موجود، لكنه ببساطة يعني أن الحياة لم تُعرضه لقصة مشابهة، تمد خياله بأطراف الحكاية؛ في فيلم "البائع" يُفاجأ المشاهد بأبعد احتمال ممكن للرجل المقتحم، إنه مجرد رجل عجوز أبيضّ شعره، وليس الشاب اليافع قوي البنية الذي تخيلوه يحاول الاعتداء على الزوجة في منزلها.

 

لم يرَ أحد وجه الرجل حين اقتحم المنزل، هكذا يظل دائمًا جزءًا من الحكاية خافيًا، تمامًا كما يحدث في الحياة التي لا يمكن لأحد أن يُلم فيها بالتفاصيل كلها، أو أن يحضر المواقف جميعها بنفسه، في فيلم "إيلي"، تختفي الفتاة دون أن يعرف أحد هل عادت إلى منزلها أم غرقت في البحر، لقطة واحدة غابت فيها الكاميرا التي كانت ترصد كل تفاصيل ما يحدث، لقطة واحدة كانت كفيلة بخلق روايات عدة، ووجهات نظر مختلفة، وأشكال كثيرة لنفس الحقيقة: "إيلي اختفت"، في "انفصال" تغيب الكاميرا في اللحظة التي تُدفع فيها الخادمة وتفقد حملها، لحظة واحدة أخرى كانت مصدر الإبهام الكبير في الحكاية، أو كما يقول فرهادي: "الحدث الأصليّ في كل موقف سيفوتك دائمًأ".(4)

 

يختار فرهادي لأفلامه نهايات مفتوحةً دائما، نهايات تحمل مثل الحكاية كلها احتمالات مختلفة، وتدفع المشاهد للتساؤل، ومحاولة رسم باقي الحكاية بنفسه مرات ومرات، ربما يساعده هذا على سبر أغوار ذاته، وتصورها تمر بالموقف نفسه، بقصة مختلفة، ونهاية مختلفة في كل مرة.

المصدر : الجزيرة