شعار قسم ميدان

رأس المال.. وسيط بين الفيلم والأوسكار

midan - oscar
تقول الأسطورة الإغريقية القديمة أن ملكًا مهابًا يدعى "ميداس"، دفعه هوسه بالذهب ولمعانه إلى أن يطلب من "ديونيسوس"، إله الخمر ورب النشوة والابتهاج، أن يحقق له أمنيته الكبرى؛ تحويل كل شيء يلمسه إلى ذهب، لم يكن "ميداس" يعرف أنه لن يستطيع أن يأكل شيئًا بعدها بيديه، لأن كل الطعام يستحيل في يديه ذهبًا، فكان الحل أن يُطعمه الخدم بأيديهم، لكنّ مأساته أخذت منحىً آخر حين دفعه الشوق لاحتضان ابنته، فتحولت ذهبًا أيضًا.

في كتابه "ضرورة الفنّ" يصف "إرنست فيشر" الرأسماليّة بأنها "ميداس" آخر، عملاق مهووس بالسلع بدلًا عن الذهب، عملاق لا يتوقف عن تحويل كل شيء يلمسه إلى سلعة، لا حدود لرغبته في تسليع ما حوله، ولا قدرة لما حوله على مقاومة تسليعهم، بين يديه أصبح الفنّ نفسه سلعة، والفنّان منتجًا للسلع، ومكان تقدير الجمال حلّ السوق الحر، بمعادلاته وتوازناته العصيّة على الفهم والتفكيك، أصبح الجمهور "زبائن" يبيعون ويشترون المنتج الفنّي مثل أيّ مجال آخر يخضع لقوانين المنافسة وحسابات العرض والطلب.

حفل توزيع الجوائز الفنية تستفيد منه صناعات الأزياء والمجوهرات وشركات التجميل، تصنع الشركات النجوم وتنفق عليهم، ثمّ تجني أرباحها من ارتدائهم لمنتجاتها أو استخدامهم لها بعد ذلك
حفل توزيع الجوائز الفنية تستفيد منه صناعات الأزياء والمجوهرات وشركات التجميل، تصنع الشركات النجوم وتنفق عليهم، ثمّ تجني أرباحها من ارتدائهم لمنتجاتها أو استخدامهم لها بعد ذلك

ربّما يتمنّى عشاق الفن أن يتصوروا أن عملية اختيار الأفلام الفائزة بجوائز الأكاديمية تتم في مناخ من الحياد التام، هكذا لمدة عدة ليال ينعزل الحكام عن العالم، يشاهدون الأفلام، ويقررون أن يعطوا أصواتهم العادلة لبعضها، لكن الأمر ليس كذلك للأسف، الجوائز الفنية هي منتج رأسمالي بامتيار، يترك خلفه الكثير من الفائزين، على سبيل المثال تكلف 30 ثانية من بث أي إعلان أثناء عرض الحفل 1.7 مليون دولار، كما تستفيد منه صناعات الأزياء والمجوهرات وشركات التجميل، تصنع الشركات النجوم وتنفق عليهم، ثمّ تجني أرباحها من ارتدائهم لمنتجاتها أو استخدامهم لها بعد ذلك.

أتت الرأسمالية بأشكالها الخاصة من الترف، لكنّ الترف الرأسماليّ مختلف بطبيعته عما سواه، طبقًا لـ "فيشر" فهو ليس التبذير غير المحدود المميز لأقطاب الأقطاع، لكنه ترف تقف خلفه المعادلات والآلات الحاسبة، إنها فرصة لإشباع الرغبات الشخصية للرأسماليّ وإمتاعه، لكنّها أيضًا مجال واسع لاستعراض ثروته، علّه يحصل بها على مكانة أفضل، وعلاقات اجتماعيّة يراكم بها ثروة أكثر.

أطلقت الرأسمالية قوىً هائلة في مجال الإنتاج الفني كما فعلت في مجال الإنتاج الاقتصادي، إذ "أوجدت مشاعر جديدة وأفكارا جديدة وأتاحت للفنان وسائل جديدة للتعبير عنها، وطرقًا جديدة لإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الناس". لهذا يعتبر "فيشر" أنها وعلى الرغم من غرابة جوهرها في أصله عن كل فن، إلا أنها ساهمت في انتشار الفنون إلى رقعة أوسع، وخلق أشكال جديدة منها، لقد أصبحت عاملًا مؤثرًا أساسيًا في إنتاج العديد من الأعمال الفنية الأصيلة المعبرة.
 

زواج الفنّ والمال.. الكثير جدًا منه

undefined

إنها قصة شهيرة للغاية، شابٌ يُطرد من عمله، فيرسم شخصية كارتونيّة ترفض شركات الإنتاج دعمها في البداية، ثمّ يجد أخيرًا من يتبنى الشخصية، لتصبح إحدى أكثر الشخصيات الكارتونية نجاحًا، ميكي ماوس لوالت ديزني، الرجل الحاصل على الرقم القياسيّ لأكبر عدد من الفوز بجوائز الأوسكار في التاريخ، بـ 22 جائزة، و59 ترشيحًا، يقف وحده بعيدًا جدًا عن كل من يليه، رقم لا يبدو أنّه قابل للكسر قريبًا.

القصة المثيرة للحماس التي تختزل الكثير من التفاصيل في حياة مؤسس الشركة روّج لها كثيرًا من قبل الشركة، للحفاظ على صورتها النقية، في مقدمة أطروحته عن ديزني يقول "ألكساندر بوهاس": في بداية بحثي عن الشركة، كنت أصطدم بقناع البراءة الذي يحيطها، الإمبراطورية الاقتصادية العالميّة تغذّي صورتها البريئة، وتستفيد من انعكاس صورتها في العقل الجمعيّ العالميّ في تعزيز سلطتها وثروتها أكثر فأكثر.

لا يميل رأس المال إلى الفنّ إلّا إذا أصبح وسيلة استثمار مربحة، ولا يترك رأس المال فرصة استثمارٍ مربحة إلّا ومال إليها، كان خلق مساحة استثماريّة جاذبة لرأس المال صعبّا في الفنون التقليدية، لكنّ الأمر اختلف تمامًا عندما ظهرت السينما، لقد كانت ساحرة لجمهورها، وساحرة أيضًا لأصحاب رأس المال، ومثّلت لكليهما إغراءً لا حدود له؛ تراقصت أمام رجال الأعمال أحلامٌ كبرى بنفوذٍ وسيطرةٍ مِنْ نوعٍ مختلف، وتراقصت أمام الفنانين الصغار أحلام الثراء ودعم رجال الأعمال.

شركة "ديزني" هي مثالٌ صاخب على "علاقة الحُب" بين الفن والمال، والرابط الوثيق بين المنتج الفنيّ كمؤثِّرٍ ثقافيّ واقتصاديّ، إنّ شركةً مثل "ديزني" تستطيع بمفردها أن ترسم شكل أذهان الأطفال حول العالم، ليست "ديزني" شركة لإنتاج الأفلام فقط، لكنّها إمبراطورية عملاقة تضم مجموعة شركات عالمية تستطيع من خلالها أن تشكل حصارا ثقافيا على عقول مشاهديها، منتزهات "ديزني لاند" تروِّج لشخصيات أفلام "ديزني"، شبكات تلفزيونية مؤثرة مثل ABC هي في الواقع مملوكة لديزني، كما تصنع "ديزني" عددًا هائلًا من المنتجات وألعاب الأطفال تملأ خيالاتهم بقصص "ديزني". طبقًا لدراسة "بوهاس، فإن مُلاَّك "ديزني" "يُوجِّهون سُلوكَهُم، يُمْلونَ عليهم قراراتهم، ويزرعونَ أحكامًا مُسبقةً في رؤوسهم"، ربّما حتى بعض أعضاء الأكاديمية اليوم مِمَّن يختارون الأفلام الفائزة، شَكَّلَتْ "ديزني" خيالات طفولتهم، مع كل هذا الإنفاق لترسيخ الأفلام والدعاية لها ليس غريبًا إذن أن "ديزني" حصلت على عشرات الجوائز في مختلف تصنيفات الأوسكار.
 

undefined

مثال آخر هو مجموعة شركات "وارنر بروس" للإنتاج السينمائي، وهي مملوكة لإمبراطورية "تايم وارنر" العملاقة، إنها تمتلك شبكات مثل CNN وCW وشبكات الإنتاج التلفزيونيّ الشهيرة HBO، كما أطلقت مؤخرًا خدمة Hulu لمشاهدة الأفلام من خلال الإنترنت، مجموعة "يونيفيرسال" هي مملوكة لإمبراطورية "كومكاست" التي تمتلك بدورها العديد من الشبكات التلفزيونية ولها علاقاتها الهائلة في مجال الإعلام.

تنطلق حملات دعائية مكثفة منذ عرض الأفلام لإقناع أعضاء الأكاديمية بالتصويت لفيلم بعينه، طبقًا لتقديرات مجلة التايم، فإن مبلغًا يقدر بـ 100 مليون دولار يصرف على حملات الدعايات في موسم الأوسكار، تتضمن الحملات التعريف بالأفلام على شاشات القنوات التي تملكها أحيانًا شركات الإنتاج، وعرض إعلانات للفيلم وسط البرامج ذات الشعبية بتكلفة هائلة، وإرسال الفيلم على أقراص مدمجة لأعضاء الأكاديمية، وغيرها من الأساليب الكثيرة، في الحقية الترشيح نفسه، مجرد إعلان الفيلم مرشحًا للجائزة يكسبه مبالغ طائلة.
 

الغُربة الحديثة.. مزيدٌ مِنَ الضآلة للإنسان

يعتبر "ماركس" أن مجتمعًا تتزايد فيه سلطة الإنسان على الطبيعة ويسيطر عليه العمل والإنتاج لا يملك إلا أن يملأ الإنسان شعورًا بالغربة، فهو محاط بما صنعته يداه، لكنّ الإنسان يشعر بالضعف والضآلة أمام المنتج الذي صنعه بيده، تصبح حركة المال حركة مستقلة غير إنسانية، تحمل معها الكائنات الإنسانية كما يُحمل تيار الماء فروع الشجر، وتُصبح الأشياء فيه أقوى من الناس، لهذا لابد للإنسان أن يشعر بالغرابة كلّما أصبح أكثر سيطرة وتطورًا.(1)

إن صاحب الحِرفة يشعر بالاطمئنان إلى عمله، إنه يعرف كل شيء عن ذلك العمل، ويطمئن وينتمي له، لكن عاملًا في مصنع، أو موظَّفًا في شركة، أو حتى مخرجًا لفيلم، كل واحد منهم هو في النهاية جزءٌ مِنْ نظامٍ هائل، يزداد فيه تقسيم العمل والتخصص، بشكلٍ يُفَتَّتُ الإنسان نفسه ويجعله أداة ينقسمُ كيانها إلى أجزاء.. يفقد الإنسان حينها ارتباطه بالكل، ولا يملك إلاَّ أن يقف من نتاج هذا العمل مع آلاف الأشخاص الآخرين؛ إلا موقف الغريب. صاحب الحرفة يعرف مشتريه، ويُنتجُ مِنْ أجل مُشْتَرٍ مُحَدَّدٍ علاقته به شخصية، أما صاحب الشركة فلا يعنيه ماذا ينتجُ ومِنْ أجلِ مَنْ، إنَّهُ يغتربُ شيئًا فشيئًا عن منتجه وعن كيانه ذاته. (1)

undefined


"من أين لي أن أعرف ما الأرز؟ 
ومن أين لي أن أعرف شخصًا يعرف ما هو؟ أنا لا أدري ما الأرز، كل ما أعرفه عنه هو ثمنه"
(برتولد بريشت، أغنية التاجر)

تُغذِّي شركات الإنتاج أفلامها بكل أشكال الدعم والمال، تنتشر الأفلام انتشارًا واسعًا، ما يُكسب الشركة سُلطَةً أكبر وأموالًا أكثر، تسمحُ للشركة بإنتاج المزيد من الأفلام بجودةٍ أعلى وإنفاقٍ أكثر، وتستمرُّ الدائرة المغلقة بشكلٍ يجعلُ أيَّ حديثٍ عن المنافسة العادلة بين الأفلام جميعها، تلك المنتجة مِنْ قِبَلِ شركاتٍ ضخمة أو بميزانيات متوسطة مجرد خرافة.

لِكُلِّ طريقةٍ يختارُها المبدع لإنتاج فَنِّهِ تعقيداتُها، ولا يمكنُ توقُّعُ الطريق الذي يسلكه عمله بعد أن ينتهي منه، ولا يمكن افتراض أنه مُلِمٌّ بالتفاصيل خلف تعقيدات الصناعة والإمبراطوريات الاقتصادية. إنَّ تَصُوُّر معايير دقيقة لا تخضع للمال.. معايير تحمل نفس البراءة التي تحاول الشركات أن تحيط بها أسماءها وفنَّها.. معايير تقف خارج النظام لا داخله، أمرٌ صعبٌ حَقًا، مع هذا تبقَّى الأوسكار جائزة لها وجاهتها الكبيرة، ولا أحد يستطيع لوم فنان على سعادته بذلك.

المصدر : الجزيرة