شعار قسم ميدان

"رجل يدعى أوفيه".. رجل غاضب في سباق الأوسكار

midan - a man called ove

تنويه: هذا التقرير يحتوي على حرق لبعض أحداث الفيلم.

تشير دراسة أجريت مؤخراً إلى أن أكثر الرجال يبدؤون بالمعاناة من متلازمة "العجوز حاد الطباع" عندما يبلغون السبعين من أعمارهم، وذلك لأسباب تتعلق بسنّ السبعين باعتباره الوقت الذي يعني وصول المرء إليه أنه سيبدأ برؤية غالبية الأحباب والأصدقاء وهم يفارقون الحياة، عدا عن المشاكل الصحية الجمة، أو انعدام الأهداف التي يسعون لتحقيقها. أي حالة من الفراغ العاطفي والاجتماعي والذهني. (1)

 

تنعكس الإصابة بهذه المتلازمة على الصحة النفسية فتسبب الاكتئاب والقلق الزائد والعصبية السريعة بالإضافة إلى اضطرابات النوم والإرهاق البدني المستمر. ناقش عدد من الأفلام هذه الشخصية بل واستمد منها قصّته وبنى عليها الأحداث مثل فيلم Gran Torino وفيلم About Schmidt وغيرها من الأعمال الأميركية والأوروبية. لكن الفيلم السويدي الدرامي-كوميدي A Man Called Ove، يعتبر بحسب نقاد أكثر حرفيّة في حديثه عن شخصية العجوز حاد الطباع.(2) الفيلم المقتبس عن رواية بنفس الاسم لفريدريك باكمان يترشح لهذا العام لنيل جائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل توزيع جوائز الأوسكار.

 

أوفيه في مواجهة العالم
undefined

أوفيه، نجم هذا الفيلم، شخصية حاده الطباع يتعامل مع العالم بازدراء، رجل أخذ كفايته من البشر فقرر أن يعاملهم بفوقيّة العارف بالأشياء. وظيفته القديمة كمراقب الحي سيطرت عليه فصار يلوّح غاضباً بيديه للمسرعين بسياراتهم في شارعه، معنّفاً الحيوانات الأليفة لجيرانه وشاتماً أطفالهم المزعجين.

 

في المشهد الافتتاحي نعرف الكثير عن شخصيته، فهو الآن أمام موظفة الحسابات الخاصة بأحد المحال الكبرى، يختلف معها حول قيمة ما اشتراه وتحاول هي توضيح سوء الفهم الذي قادهم إلى هذه المواجهة الغريبة. بعد نقاش انتهى لمصلحة البائعة يحاول أوفيه أن يستوعب التفاهات التي آل إليها العالم بعد غياب زوجته التي يزور قبرها وبيده باقتين من الورود اشترى إحداهما رغماً عنه.

 

سيكون من المبرر للمشاهد أن يحاول استيعاب الأسباب التي دفعت بهذا الرجل أن يتصرّف على هذا النحو تجاه العالم المحيط به، لهذا يأخذنا مخرج الفيلم، السويدي هانزهولم، في رحلات مستمرة نحو ماضي أوفيه المليء بالأحداث التي كوّنت شخصيته التي صار عليها اليوم. رحلات تفسّر علاقته مع أبيه ومع أمه وزوجته والمجتمع، صور من تجاربه السابقة كان اجتماعها قد جعل من قدرة أوفيه على الاحتمال أقل مما يتأمله العالم منه، لكن وتحت ذلك كله يقبع إنسان هش وبسيط ومُحب للجمال والعطف، لا نكتشفه إلا بمساعدة من آخرين.

 

كان القطار محوراً آخر في ماضي أوفيه وحاضره، أبيه الذي مات بحادث قطار كان قد أنقذه وهو طفل من الموت بنفس الطريقة. وعندما كبر أوفيه الذي نعرفه أنقذ بدوره أحد الشباب الذين وقعوا على مسار قطار سريع، وعندما أنقذه فكّر لوهلة بالانتحار تحت عجلات القطار ذاته.

كان الدافع الوحيد الذي حرّك أوفيه في كل مرة للنجاة من الموت انتحاراً هو إمّا حاجة الآخرين له أو حاجته هو لتنفيذ قوانينه، أي أن حاجة تطبيق القوانين كانت بالنسبة إليه سبباً للاستمرار بالعيش
كان الدافع الوحيد الذي حرّك أوفيه في كل مرة للنجاة من الموت انتحاراً هو إمّا حاجة الآخرين له أو حاجته هو لتنفيذ قوانينه، أي أن حاجة تطبيق القوانين كانت بالنسبة إليه سبباً للاستمرار بالعيش

محاولة الانتحار هذه لم تكن الأولى، في الحقيقة فإن أوفيه يحاول الانتحار على الدوام معلّقاً نفسه بحبل مشنقة اشتراه من ذات المحل الذي خاض فيه جدالاً مع البائع. كان الغريب هو عدم نجاحه في تحقيق هدفه بالانتحار، فكلما حاول ذلك وجد ما يعيقه عن عمله. لكن ما الذي دفعه للانتحار ولماذا الآن تحديداً؟

 

يؤمن أوفيه أن على الأفراد أن يملكوا هدفاً من وجودهم، أو معنى يتحركون بالاستعانة به ويعرفون أنفسهم من خلاله، كما يكره الأشخاص غير المفيدين بل ويحاربهم ولا يحب التعامل معهم. وفي الوقت الذي وجد نفسه فيه خارج العمل فجأة، أصبح هو الآخر عديم الفائدة وبلا هدف بحسب وجهة نظره وتصوّره عن ذاته، وفي ذلك اليوم قرر أوفيه الانتحار، فقوانينه كما تسري على الآخرين فهي تسري عليه أيضاً، فوجد بأن الوقت قد حان كي يلحق بزوجته.

 

كان الدافع الوحيد الذي حرّكه في كل مرة للنجاة من الموت انتحاراً هو إمّا حاجة الآخرين له أو حاجته هو لتنفيذ قوانينه، أي أن حاجة تطبيق القوانين كانت بالنسبة إليه سبباً للاستمرار بالعيش، وكلما صار بلا معنى كانت حاجة الآخرين له تضفي المعنى المطلوب لتحقيق الهدف من وجوده، وبهذا فإن فكرة الانتحار تغيب سريعاً، لكن هذا الغياب يكون مؤقتاً في غالبية الوقت، فكيف سينجو أوفيه من نفسه؟

 

الحب المدمر
undefined

قبل معرفته بسونيا لم يكن لحياته معنى، وبعد موتها عاد لحالة الضياع الأولى،
(3) يصبح الحب حبل مشنقة آخر يجره نحو حتفه، ولا يبدو على هذه المرحلة انتهاء إلا عندما تحقق له جارته الجديدة بعض التوازن الذي يفقده في حياته.

 

هذه الجارة المهاجرة القادمة من إيران، براونا وعائلتها، لا يعرفون طبيعة العلاقات بين الجيران في بلد كالسويد فتمارس عاداتها الطبيعية مع جارها أوفيه الذي يستغرب من كل ما يحيط بها، حتى ابنتها التي ترسمه بالألوان في الوقت الذي ترسم كل الشخصيات التي تريدها بالأسود. وكأن هذه العائلة هي الوحيدة التي رأت ما بداخل أوفيه.

 

يحمل أوفيه النقمة على كل مشاهد الحياة العصرية التي ينعم بها الآخرون، ويعتبرها فارغة للغاية، لكنه لا يستطيع الاعتراف بأن نظرته نحو الأشياء لا تكون صائبة بالمجمل، خصوصاً نظرته نحو جيرانه الجدد. فجأة تتغير الأشياء في حياته؛ القطة التي كان يحاربها بالأمس أصبحت صديقته وتبناها في منزله تعيش وتنعم بحياة جيدة.

القصة التي يتناولها الفيلم تعتمد على المتخيل الجمعي، فهاجس الشيخوخة وسط أجواء باردة من الوحدة يلمس وجدان أيّ منا، أي أن أوفيه هو شخص يسهل التعاطف معه لأنه
القصة التي يتناولها الفيلم تعتمد على المتخيل الجمعي، فهاجس الشيخوخة وسط أجواء باردة من الوحدة يلمس وجدان أيّ منا، أي أن أوفيه هو شخص يسهل التعاطف معه لأنه "نحن" في ظروف أخرى

أوفيه -كاره القطط- استطاعت قطة وحيدة أن تملأ عليه حياته، ليكتشف أن أكثر ما كان ينقصه هو بعض التواصل. وأن السعادة تكمن في أن تعطي الآخرين ما يحتاجونه، أن تساعدهم تماماً كما كانت تحب زوجته أن تفعل، فيصلح دراجة أحد الشباب ويستقبل آخر في منزله ويساعد جارته على تعلم قيادة السيارات عدا عن احتوائه للقطة.


الحقيقة الوحيدة الثابتة في قصّة أوفيه أن الحزن أخف وطأة عند مشاركته مع الآخرين، عدم مشاركته مع الآخرين يعني أنه يكبر ويتضخم في ذات المصاب به وحده. خصوصاً إذا اعتبرنا أن أوفيه هو الاستثناء من مبدأ "أقدارنا هي نتيجة حماقاتنا" لأن قدره هو كان نتيجة لحماقة جيرانه، كما يقول.

 

لعل العيب الوحيد لهذا الفيلم هو أنه مفرط في حميميته ونظرته الودودة للعالم ونهايته المُرضية وكل هذه الانسيابية في القصّة، لكن ومن زاوية أُخرى فإن ما سبق ذكره يجعل من الأحداث مألوفة للغاية، فالقصة التي يتناولها "رجل يدعى أوفيه" تعتمد على المتخيل الجمعي، فهاجس الشيخوخة وسط أجواء باردة من الوحدة يلمس وجدان أيّ منا، أي أن أوفيه هو شخص يسهل التعاطف معه لأنه "نحن" في ظروف أخرى.

المخرج
المخرج "هانز هولم" مع أوفيه بطل الفيلم

يقول مخرج الفيلم "هولم" بأن وجود عمل عن رجل عجوز ناقم هو أمر مكرر، "لكنني بعد أن قرأت الرواية بكيت بسبب ما وجدته فيها من عناصر تجذبني، ففي هذه القصة سندخل لأوّل مرة داخل عقل العجوز لنعرف أسباب كل هذا التذمر".

تنبع أهمية هذه الكلمات إذا وضعناها كمحور للمقارنة مع أفلام أخرى كتلك التي في مقدمة هذا التقرير، الأفلام التي تعاملت مع نفس هذا النوع من الرجال لكن مع التركيز أكثر على تفاعل الآخرين معه ومدى تأثرهم به أكثر من دوافعه الخاصة، (4) وهذا سبب كاف لجعل فيلم "رجل يدعى أوفيه" مرشحاً قوياً لنيل جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي هذا العام.

المصدر : الجزيرة