شعار قسم ميدان

"توني إيردمان".. الزيف كحيلة على صعوبات الحياة

midan - movie

بعد أن انتهت من تنظيف شقتها، وتزيينها، واطمأنت على أصناف الطعام، كان عليها فقط أن ترتدي ثوبها الجديد؛ لتنتهي كل ترتيبات حفل عيد ميلادها، لكنّ الثوب ضيق جدًا، وارتداؤه صعب للغاية، ظلت تحاول.. فساتين الحفلات يجب أن تكون ضيقة على أيّ حال.

 

الضيوف على وشك الوصول، الفستان ما زال ضيقًا، والحركة به تزداد صعوبة، تخلع الفستان سريعًا بحركات عصبية، يرنّ جرس الباب عدة مرات، الفستان لا يترك جسدها، تُغالب دموعها وغضبها، في حياة "إينيس" كلّ شيء جاهز للتحول إلى كابوس ما؛ حتى حفل عيد ميلادها!

 

رُبّما آخر شيء كان يتوقّعه المشاهد من "إينيس" التي تبدو صارمة وجادّة في عملها أن تُحول حفل عيد ميلادها إلى "حفل عراة"، هو حفل عراة أخرق، وسخيف، وربّما أسوأ حفل عراة ممكن، وهو استمرار للمشاهد الخرقاء السخيفة الأخرى في الفيلم، مثل مشهد الجنس الغريب، أو دعابات والدها الرديئة؛ لا تبدو المخرجة وكاتبة السيناريو "ميرين إيد" مُهتمة بإظهار شكل جماليّ لليوميّ في حياة أبطالها، بقدر إظهار العادي القبيح فيها، ولحظات الارتباك والحرج.

undefined

"إينيس" امرأة ثلاثينيّة تركت بلدها (ألمانيا) لتعيش في "بوخارست"، حيث الشركة التي تعمل بها، تأخذ وظيفتها جُلّ وقتها واهتمامها، وتحاول في الفيلم الحصول على عقد عمل مع عميل مهم، "وينفريد". والد "إينيس" معلم متقاعد ومطلّق، فقد كلبه مؤخرًا، ما أدى إلى أزمة نفسية جعلته يسافر لزيارة ابنته.

 

يحب "وينفريد" المزاح والمرح، إنها الصفة الأساسية التي بنيت عليها شخصيته في الفيلم، إنه لا يهتمّ بمظهره، ولا يجيد ارتداء الملابس بشكل أنيق ومتناسق؛ يستمتع "وينفريد" بتقمص الشخصيات، منها شخصية السفير الألمانّي، و"توني إيردمان"، مدرب التنمية البشرية الذي يتلصص على "إينيس" في عملها، ويطاردها حتى في حفلات سمرها الخاصة بين أصدقائها.

 

على مدار فيلمها الطويل، تحاول "إيد" سبر أغوار التفاصيل الدقيقة للعلاقة المعقدة بين الأب وابنته؛ الأب الذي لا يبدو أنه يخجل من سخافاته المستمرة، ومزاحه الطفوليّ الرديء، وابنته التي لا تهتمّ بشيء أكثر من عملها، وصورتها بين زملائها، وانطباع الآخرين عنها.

 

"حياة" على حلبة المسرح.. وزيف يقف حاجزًا أمام الحياة
undefined

من النظرة الأولى يبدو "إينيس" و"وينفريد" مختلفين كليًّا، لكنّ كليهما يعيشان بشخصيات يكسوها الزيف، وإن اختلفت السياقات وإطارات ذلك الزيف المكثف، تحت طبقات التعقيد في علاقة يظهر كل من طرفيها على غير حقيقته أمام الناس، يحاول الطرفان مدّ خيط أكثر حقيقية واقترابًا من الواقع.

 

"وينفريد" يختار بإرادته أن يكون ممثلًا، إنّه فاشل في ذلك، لكنّه راضٍ، لقد أصبح مهرجًا بالأحرى، ومهرجًا سخيفًا، من أولئك الذين يضحك الناس عليهم لا على نكاتهم؛ "إينيس" ممثلة هي الأخرى، لكن على مسرح مختلف، هو مسرح الواقع اليوميّ الذي تعيشه، إنها تحاول أن تكون المرأة القوية التي تسيطر وتنجح في مكتب ملْؤه الرجال الذين ينظرون لها نظرة دونية؛ لكنّها تنهار بكثرة عند اختلائها بنفسها، كما أننا نكتشف من عريها في حفل عيد الميلاد، وممارستها للجنس أنها لا تقلّ غرابة عن أبيها.

 

يستخدم "وينفريد" زيفه كمحاولة لأن يكون حيًا، وأن يمتصّ من الواقع أكثر درجات السعادة والمتعة فيه، أما زيف "إينيس" فهو ليس إلّا مهربًا من الحياة نفسها، وسجنًا يقف عائقًا دونها، على الرغم من أن زيف "وينفريد" يبدو زيفًا، إلا أنه مجال خصب لعفويته وشخصيته الحقيقية، ورسم الابتسامة على وجهه ووجوه الآخرين، أما زيف "إينيس" الذي يبدو حقيقيًا تمامًا، لا يقف إلا ستارًا بينها وبين ذاتها، لإرضاء الجميع، دون أن ترتسم بسمة واحدة على وجهها، إلا إذا كانت مجاملة هنا أو هناك.

حين يسألها والدها عن السعادة والحياة والمتعة، تفشل في تعريف أي من الكلمات؛ بينما والدها يستطيع أن يلتقط -حتى في انتظاره لها لتفرغ من تسوقها- لحظات تسلية ومتعة
حين يسألها والدها عن السعادة والحياة والمتعة، تفشل في تعريف أي من الكلمات؛ بينما والدها يستطيع أن يلتقط -حتى في انتظاره لها لتفرغ من تسوقها- لحظات تسلية ومتعة

تضع "إينيس" كلّ شيء على هامش عملها، إنها تسكن بمفردها، لكن في منتصف الفيلم الذي يتجاوز الساعتين والنصف نكتشف أنها في علاقة عاطفية، لا نعرف الكثير عن تلك العلاقة التي تقف على الهامش تمامًا من حياتها، لكنّها فقط إحدى متنفسات "إينيس" للاستمرار في صراعها مع حياتها، حين يسألها والدها عن السعادة والحياة والمتعة، تفشل في تعريف أي من الكلمات؛ بينما والدها يستطيع أن يلتقط -حتى في انتظاره لها لتفرغ من تسوقها- لحظات تسلية ومتعة، ممثلة في مشاهدة "بعض التزلج الرائع".  

 

تحيط "إينيس" حياتها العملية جدًا ببعض المتنفسات، مع ذلك نراها تفشل باستمرار في فصل الحياة عن العمل والاسترخاء بهدوء دون توتر وقلق، سواء كانت تمضي وقتًا عائليًا في جلسة "ماساج"، أو تمارس الجنس، أو تشرب في حفلة سمر ليلية. تمزج الممثلة "ساندرا هولر" (التي تؤدي دور "إينيس") ببراعة هائلة بين المشاعر المتعددة في تعبيرات وجهها وجسدها؛ إنها تستطيع أن تعبر عن مشاعر متناقضة في مشهد واحد، ولقطة واحدة، مثل مشهد غنائها المليء بالحنين والغضب، والدفء والألم.

 

على الرغم من محاولات الأب المستمرة لإلقاء النكات والمزاح، إلا أن وجهه أيضًا استطاع أن يعكس الحزن العميق، والإحباطات المستمرة، والتطلع لحياة أكثر مرحًا، وابنة أكثر تقبلًأ. استطاعت "إيد" أن تتحكم في السيناريو بقوة، ما جعلها تخرج في النهاية فيلمًا حزينًا وبائسًا بامتياز، على الرغم من الظاهر الكوميديّ له، لم تكن في ذلك أقل براعة من البطلين اللذين تمكنا من عرض التناقضات العميقة في الشخصيتين بأفضل صورة.

undefined

بعد الكثير من الشد والجذب في العلاقة المعقدة، يصل الفيلم إلى لحظة ذروته، في حفل عيد الميلاد الأخرق، يرتدي الأب زيّ شجرة، ليظهر في أكثر صوره غرابة، بينما تتخلى هي عن ملابسها كليّا، لتكشف بدورها عن الجانب الغريب فيها، في اللحظة التي كان كلاهما في أكثر حالات غرابته على الإطلاق، يأتي ذلك الحضن الطويل، والسكينة والهدوء، والهرب من جميع المحيطين، حتى المدعوين للحفل.

 

لا تقع المخرجة "إيد" في فخّ السياق النسويّ؛ على الرغم من السيناريو المهيأ لذلك، إنها تعرض حياة بطلتها بما فيها من هشاشة وضعف، دون أن تكون "إينيس" امرأة خارقة تؤدي الأعمال بتميّز بين زملاء رجال لا يقدرونها، "إينيس" تُخفي خلف شخصيتها الجادة انكسارًا هائلًا، وطفولة تحتاج لعاطفة الأب الغريب الذي تحبه وتخجل منه، وتقديرًا للعلاقة بكل ما فيها من ارتباك وصعوبة.

 

تسمح مدة الفيلم الطويلة بعرض بطيء ومفصل للكثير من اللحظات في علاقة الأب بابنته، عرض يقف على الجانب الآخر من تسارع الحياة المتوترة التي تحياها "إينيس"، لكنه يأتي متناسبًا مع النمط -غير المبالي- الذي يمثله "وينفريد"، لكنّ النمطين ينجحان في اقتناص بعض لحظات الانسجام بينهما، حتى إن "إينيس" ترتدي في المشهد الأخير الأسنان القبيحة التي يستخدمها الأب في مزاحه، وتقبل أن يصورها بها، في لحظة يبدو فيها أنها تستطيع أخيرًا أن تنخلع من حياتها ولو للحظات. 

المصدر : الجزيرة