فيلم "المؤسس" كيف بنى "راي كروك" كنيسة "ماكدونالدز" الجديدة؟
ما زلت -حتى الآن- أعتنق رأياً متشدداً بخصوص أفلام السير الذاتية تحديداً، إنها من أهم قطـاعات الإنتاج السينمائي على الإطلاق. فكـرة أن يتم تجسيد شخصية ما في فيلم لمدة ساعتين عامرتين بالمواقف والأحداث والمحطات التي مرّت بها هذه الشخصية، هو أفضل وسيلة لكي تفهم ما كان يدور حقاً.
الفيلم السينمائي الذي يتناول سيرة ذاتية لأحد الشخصيات الواقعية، هو نافذة مختصرة لعشرات الكتب التي عالجت هذه الشخصية من زوايا مختلفة. صحيح أنه لا يعوّل دائماً على مصداقيته المُطلقة، ومن أي زاوية تمّ تنـاول هذه الشخصية، إلا أنه -على الأقل- يضعـك في الصورة من حيث أحداثها المكانية والزمانية بشكل كبير. وهذا ما سوف تلاحظه عندما تشاهد فيلم المؤسس The Founder، الذي يتناول السيرة الذاتيـة لـ"رايمـوند كروك" الاسم الشهير الذي ارتبط بتأسيس إمبراطـورية ماكدونالدز العمـلاقة.
يقابل "راي كروك" الأخوين ماكدونالدز، ويتعرّف على عقليتهما، ويعرف أن فرصة عمـره في هذا المطعم. فيقنعهما بالشراكة. يعمل "راي كروك" على توسيع فروع ماكدونالدز بشكل سريع جداً، بشكل يصطدم مع معايير الأخوين ماكدونالدز. تنشب خلافات، يشتري على إثرها "راي كروك" حصّة الشريكين. ويتفرّغ لبناء إمبراطوريّته الكبرى.
بشكل عام، رحلة نجاح ماكدونالدز هي واحدة من أكثر القصص الريادية تأثيراً وأهمية وروعة بالنسبة لأي شخص يهتم بولوج عالم الأعمال أو حتى متابعته من بعيد. هنا سوف نستخلص مجموعة دروس تم التركيز عليها في الفيلم ذاته، ربمـا تساعدك أكثر في فهــم الظروف التي أفرزت بناء هذه الإمبراطـورية. بمعنى أوضح، الدروس التي سنذكرها هنا، هي ما أراد مُنتجـو هذا الفيلم تسليط الضوء عليها من خلال أحداثه ومحطاته.
الصبـر عنصر جوهري في طبيعة رائد الأعمال المميز، لحين مجيء الفرصة الحقيقية التي يدرك تماماً أنه قادر على استغلالها أفضل استغلال. التقدم في العمـر لا يعني أبداً انهيار الأمل في بدء مشروع خاص عبقري مميز.
يدرك الشقيقان أن معظم طلبات الناس تتركز في البرجر والبطاطس والمشروبات، فيقرران تخصيص المطعم لتقديم هذه الوجبات. يلاحظ الشقيقان أن تجهيز الوجبات في المطاعم يستغرق في المتوسط 30 دقيقة، فيقــرران أن يتم تجهيز الوجبة في 30 ثانية!
يدرك الشقيقان أن النادلات اللواتي تعملن في المطاعم يعانين التحرّش، وأن المطعم يحتاج إلى عمّال لتنظيفه. فيقرران تدشين نظـام (اخدم نفسك Help Your Self)، بمعنى اطلب الوجبة بنفسك، واستلمها بنفسك، ثم ألقها بنفسك في صندوق القمامة. ومع كل هذا التنظيم -المختلف كلياً عن المطاعم في تلك الفترة- يعاني الأخوان من مشاكل جهل الناس وعدم قدرتهم على تفهّم هذا النظام سريعاً، ثم إقبالهم الشديد عليه -فيما بعد- بمجرّد فهمه والتعوّد عليه.
باختصار: الأخوان ماكدونالدز قاما بصنـاعة مُنتج وخدمـة يقوم كل منهما -بشكل كامل- على التفرّد. الوجبات السريعة كانت معروفة طوال الوقت، ولكن طريقة تقديم المنتج أو الخدمة كانت مختلفة كلياً عما هو معتاد.
أعتقد أن هذا الجزء شديد الأهمية بالنسبة للرياديين؛ وهو أنه مهما كنت مُبدعاً في تنفيذ فكـرتك، عندما ترصد اهتمام الآخرين بفكـرتك ومنتجك يجب أن تكون حذراً إلى حد كبير. في كثير من الأحيان، ينتج الرياديون منتجات عظيمة شديدة التميز، ولكنهم يعتبرونها عادية تماماً، ويتعاملون مع الآخرين بأريحية أكثر من اللازم. ربما هذا السبب الذي يجعلنا نسمع عن صفقات استحواذ لمشروعات ريادية متميزة بثمن بخس. السبب أن أصحابها أنفسهم لا يعرفون روعة المنتج الذي يقدمونه. أو ربما أصيبوا بالملل من مرور الوقت دون تحقيق أحلامهم. بينما "الذئاب" يعرفون قيمة ما يرونه ويسيل لعابهم لامتلاكه!
انفتحْ على الآخرين نعم؛ ولكن بحذر. لا تكن باباً مفتوحاً.. أحياناً "الذئاب" ينتظرون المرحلة التي تبدأ بالشعور باليأس والملل فيها؛ للانقضاض على كنزك. "راي كروك" كان ذئباً تسلل إلى حظيرة الدجاج. وهو ما عبّـر عنه أحد بوسترات الفيلم: "هو أخذ فكــرة شخص آخر، وأكلتها أميــركا!"
كان حله بسيطاً وواضحاً. أدخلوني شريكاً معكم. وأنا سوف أحقق حلمكم بانتشار هذا المطعم من الساحل الغربي الأمريكي إلى الساحل الشرقي. وكلمة السر في الفرانشايز. بيع العلامة التجارية الخاصة بماكدونالدز إلى الآخرين، مقابل مبلغ من المال ونسبة أرباح، مع شروط العمل والتشغيل والمعايير الأساسية للعلامة التجارية. وهو ما نجح فيه طبعاً. مطعم ماكدونالدز القريب من منزلك الآن وأنت تقرأ هذه السطور، يثبت تماماً أنه نجح فيه بالفعل!
"هذا البناء الجميل المُحاط بالأقواس الذهبيـة، لا يعني فقط إشارة إلى وجود وجبة هامبرجر شهية. إنه إشارة إلى الأسرة، دلالة على ترابط المجتمع، إنه مكان يجمع الأمريكيين سوياً. أنا أؤكد لكم.. ماكدونالدز سيكون الكنيسة الأمريكية الجديدة.. يُطعم الأجساد، ويُطعم الأرواح، ولا يفتح أبوابه أيام الآحاد فقط يارفاق.. بل يفتح أبوابه 7 أيام في الأسبوع"
كانت هذه كلمات "راي كروك" وهو يشرح تصوّره للمطعم الصغير. كلمـات حالمة كبيرة ضخمة عملاقة مثيرة للدهشة، ولكنها كانت صادقة وإبداعية. كان يرى -مندوب المبيعات الذي كان يبيع الحليب المخفوق- هذه المشاهد واضحة أمامه. وكان يثير دهشة الأخوين ماكدونالدز أنفسهما بهذا الطرح الخيالي.
وتحققت رؤيته. بعد سنوات من انتشار ماكدونالدز، لم يعد مجرّد علامة تجارية لمطعم ناجح، أو ما يشبه كنيسة جديدة داخل أميـركا فقط؛ بل أصبح شعاراً للإمبريالية الأمريكية كلها، والتمدد خارج الحدود. وجود شعار "ماكدونالدز" في أي دولة في العالم، أصبح يعني دخول الثقافة الأمريكية لهذا البلد.
في العديد من المشاهد، ظهـر لنا "راي كروك" وهو يصرخ في وجــه الأخوين بسبب بطئهما في التعامل مع توسّعاته وقراراته. بدا واضحاً تماماً أن الأخوين يعيقــان حركة الرجل السريعة في تطبيق طموحاته من خلال توسّع سريع لا يتوقف. حالة واضحة من الصدام نشأت ما بين شخص يريد أن يجري كالأرنب، وأشخاص يسيرون كالسلحفاة. ومع ذلك، يشعرك سياق الفيلم أن هذا التوازن كان ضرورياً في لحظات البداية. هذا التوازن هو الذي جعـل ماكدونالدز في مراحله الأولى يتمدد بشكل ثابت، يجمع ما بين الطموح في تحقيق التوسّع والصرامة في تطبيق المعايير.
"راي كروك" لم يكن يعمل برأس مال سائل في يده طوال الوقت؛ بل كان يعمـل بإمكانيات مالية ضعيفة إلى حد كبير، جعلته يمر بأزمات مالية خانقة أثرت على حياته الشخصية ذاتها لفتــرة.
يُفاجئنا الفيلم أن "كروك" لم يكن مُلماً حتى بأساسيات ما يفعله. أخبــره أحد الاقتصاديين -بالصدفة- أن الصناعة التي يعمل عليها ليست صنـاعة (أغذية أصلاً) وأنها صناعة عقارات بشكل أساسي. وهو الأمر الذي يستلزم أن يقوم "راي كروك" بتعديل عقود الفرانشايز التي يقوم بتسويقها؛ لتشمل بنوداً أخرى تدرّ عليه أرباحاً أكبر.
استمع "كروك" للنصيحة ونفذها، وأثبتت نجاحها المُبهر. بمعنى آخر، "راي كروك" كان نموذجاً للريادي الذي يكتشف أثناء رحلته الريادية أنه يسير في مسار خاطئ، ولا يتردد في دخول الطريق الصحيح بمجرد أن يلوح له!
"العقــود مثل القــلوب.. إنها وُجدت لكي تُكسـر!"
هذه المقولة جاءت على لسان "راي كروك" في الفيلم، عندما قرر أن يستبعد الأخوين ماكدونالدز، ويتفرّد هو فقط بهذا المشروع. قام بعمل إجراءات بعضها غير قانوني، انتهى الأمر بأنه بدأ في مساومة الأخوين، وحاصرهما في زاوية ضيقة جعلتهما يضطـران إلى التنازل بشكل كامل عن حصتهما في ماكدونالدز. مقابل مبلغ مليون دولار لكل منهما. مبلغ كبير وقتئذ. ولكنه شديد التواضع إذا قورن بالمليـارات التي هطلت على ماكدونالدز على مدار السنوات اللاحقة!
"الآن.. أعرف ما تفكـرون فيه.. كيف تمكّن بائع حليب مخفوق في الثانية والخمسين من عمـره، أن يبني إمبراطورية من 1600 مطعم للوجبات السريعة في خمسين ولاية أمريكية، وخمسة دول أجنبية، مع إيرادات سنوية تبلغ 700 مليون دولار؟.. كلمـة واحدة: الإصرار ! .. لا شيء في هذا العالم يمكن أن يحدث إلا بالإصرار..
الموهبـة لن تُجــدي.. لا يوجد في الحياة أكثر شيوعاً من أشخاص فاشلين وأصحاب مواهب في الوقت ذاته.. العباقرة لا ينجحون كذلك.. العباقرة الفاشلون المجهولون أصبح وجودهم من الكليشيهات المعروفة للجميع.. أصحاب الشهادات لا ينجحون أيضا؛ً لأن العالم مليء بالحمقى أصحاب الشهادات.. الإصرار والعزيمة بمفردهما هما القوة التي تحقق النجاح!"
مونولوج في نهاية الفيلم، يوضّــح طريقة تفكيــر "راي كروك" بخصوص النجاح الضخم الذي حققه في بناء إمبراطورية ماكدونالدز. وهو يحمل معاني كافية تماماً بدون الحاجة إلى المزيد من التوضيح.
أعتقد أن فيلم The Founder من أفضل الأفلام الريادية التي يمكن مشاهدتها. الفيلم مصنوع بحرفية عالية، ويحقق كافة عناصر الإبداع الفني. وهو بعيد تماماً عن الملل، وفي نفس الوقت عامر بالدروس التي حاولت تلخيص بعضها هنا في هذا التقرير. ومع ذلك، فهذا لا يغنيـك عن مشاهدته في أقرب وقت.
أكثر ما أعجبني في الفيلم بشكل عام هو أنه ذو مصداقية عالية. أوضح الصورة بكل إيجابياتها وسلبياتها، ولم يقدم "راي كروك" بصورة خياليـة؛ باعتباره الأب الروحي لماكدونالدز، وإنما أوضح ما له وما عليه. وإن كان في مناخ عام من تمجيد الرجل وتخليد سيرته.