شعار قسم ميدان

من "إنترستيلر" إلى "دونكيرك".. ملاحظات على سينما نولان

midan - Christopher Nolan

في عام 1997، انتهى شاب إنجليزي في السادسة والعشرين من عمره من كتابة سيناريو فيلمه الأول الذي يرغب في تنفيذه، لم يكن يملك حينها أكثر من 6000 دولار، ودون أي علاقات بالأوساط السينمائية، ولكنه قرر أن يصنع الفيلم بالإمكانيات المتاحة التي هي في حقيقة الأمر لا شيء! اتفق فقط مع عمّه واثنين من أصدقائه أن يكونوا أبطال الفيلم، ولأن الثلاثة مرتبطون بأشغالهم ودوامهم الكامل اضطر للتصوير معهم في عطلات نهاية الأسبوع فقط لمدة 6 أشهر متتالية.

 

قرر أن يكون الفيلم بالأبيض والأسود، تجاوزا للكثير من المشكلات التقنية التي قد تظهر لو كان ملونا، وأن يُصَوَّر على خام 16 مم، لأن ذلك هو المُتاح تبعا للميزانية الضئيلة جدا. لم يملك معدات إضاءة ولذلك صمم المشاهد ليكون 90% من الفيلم في الضوء الطبيعي، وأن يحدث ذلك في الأماكن المُتاحة: سطح بناية منزله، متجر مهجور خاص بالعائلة، مع استغلال التصوير الخارجي المكثف والملائم لحبكة الفيلم(1). وبعد عام كامل أصبح هذا هو الفيلم الأول للمخرج كريستوفر نولان، والذي يحمل اسم "تتبع" (Following).

 
كانت الميزة الأساسية للفيلم هو إدراكه للنوع السينمائي الذي ينتمي إليه، الـ"نيو-نوار"، وهي أفلام الجريمة القاتمة ذات السمات المحددة التي انتشرت وقت الحرب العالمية الثانية كرد فعل على المزاج السوداوي في العالم(2)، قبل أن يُعاد إحياؤها من جديد بعد ذلك وبأشكال مختلفة. وفيلم نولان كان عملا عن الهوس وخيوط الجريمة التي تتشكل ببطء مع وجود (محقق/بطل) متورط يريد معرفة الحقيقة، ولذلك فإن صورة الفيلم الأبيض والأسود، والعمل المكثف على النور والظل، والأجواء القاتمة التي تغلف كل شيء -كسمات للـ"نوار"- حولت الإمكانيات التي لا يملكها نولان لمميزات في فيلمه، وجعلته ينال استقبالا رائعا جدا، ويفتح له الباب من أجل صناعة فيلمه الثاني. ولكن الملاحظة الفنية الأبرز عن "تتبع" (Following) عند وضعه في سياق مرتبط بمسيرة مخرجه، هو امتلاكه للكثير من السمات والعناصر التي ارتبطت بعد ذلك بمشروعه السينمائي كاملا، ونحاول في هذا التقرير تناولَ بعضٍ منها.
  
   undefined

     

السرد غير الخطي والانشغال بالزمن


"حين أبدأ في الكتابة، لا أخطط أبدا للكيفية التي ستتحرك بها الأحداث، أسير فقط مع القصة وأحاول أن أحكيها بأفضل شكل ممكن"

(كريستوفر نولان، حوار مع هوليوود ريبورتر، (نوفمبر/تشرين الثاني) 2014)

  
الشخصية الرئيسة في فيلم "تتبع" (Following) هي لكاتب يتتبع الناس في الشوارع من أجل أن يجد موضوعا لروايته الجديدة، ومن السهل ربط ذلك بـنولان نفسه الذي يحاول دائما البحث عن حكاية جديدة، ويرى الناقد ستيفن ويتي(3) أن جانبا من السحر الجماهيري في أفلامه هو أنه يقدم قصة عادية وكلاسيكية ويتآلف الجمهور معها، كفريق مكلف بإحدى المهمات كما يحدث في "استهلال" (Inception) أو رجل يبحث عن قاتِل زوجته في "تذكار" (Memento)، أو حتى رحلة فضائية من أجل إنقاذ الأرض في "بين النجوم" (Interstellar) (وهو الذي عُرض بعد مقال ويتي ولكن يمكن ضمه في نفس السياق)، ولكن رغم اعتيادية ذلك الجوهر القصصي فإن نولان يستطيع وضعه في سياق مبهر ومجدد، لأنه يحكيها بشكل مختلف تماما، ولأنه كاتب وقصاص بارع جدا.

التلاعب السردي في أفلام نولان لا يكون -في أغلب الأحيان- مجرد حلية، ولكنه جزء من حكاية الفيلم نفسه، وجانب من انشغاله بجزئية "الزمن" التي تمثل جوهر عدد من أهم أعماله، "تذكار" (Memento) يبدو المثال الأوضح على ذلك: كيف يمكن أن تستغل إصابة البطل بفقدان الذاكرة قصير الأمد من أجل أن تحكي فيلمك؟ وإذا كانت الأمور في عقله أقرب للأحجية فكيف تجعل السيناريو نفسه يحمل ذلك التداخل والجنون الزمني وعدم اليقين اتجاه أي مما حدث أو يحدث؟ في "استهلال" (Inception) تتداخل طبقات الأحلام ويتوه الخط الفاصل بين الحقيقة والتوهّم في سرد الفيلم لأن ذلك أيضا هو جوهر الحكاية، وهو الخط الذي يمتد لـ "بين النجوم" (Interstellar) أيضا: ما الزمن؟ وهل بالضرورة أنه خطي ومنتظم ومتتابع؟ ومن هذا السؤال تحديدا تأتي الخيارات السردية في أفلام نولان.

"الألم وليد العقل"(4)
أسس نولان لشخصية
أسس نولان لشخصية "باتمان" بشكل أكثر قتامة من أي فيلم قصة مصورة آخر قبلها، معتمدا على معاناته وهربه من الذكريات وفوبيا الوطاويط التي تحرّكه
 
يستخدم نولان في أغلب أفلامه وجهة نظر البطل لسرد الحكاية، يتوحّد المُشاهد مع الشخصية الرئيسة، يعرف فقط ما تعرفه ويسير معها في رحلتها، ولكن -في أغلبِ الأفلام أيضا- يعاني البطل من تشوّش، ألم حقيقي يرتبط بالفوضى التي تجري في عقله. ومن خلال التناقض بين التورط مع البطل من ناحية، وجنونه من ناحية أخرى، يأتي جانب محوري ومتكرر من دراما أفلام نولان.

في "تتبع" (Following) نسير مع البطل، نظن طوال الوقت أننا المسيطرون على مجريات الأمور، أن الرواية التي تُكتب/الحكاية على الشاشة هي ملكنا، قبل أن ينقلب ذلك الهوس علينا ونكتشف اللعبة. "تذكار" (Memento) الذي تبرز فيه سمات سينما نولان في أوضح صورها، تبدو فيه تلك الجزئية أكثر وضوحا: نحن بداخل عقل ليونارد شلبي، لا نعرف غير ما يحيكه لنا، تتوقف الحكاية عن التتابع حين يفقد جزءا من ذاكرته القصيرة، وفي النهاية نصل إلى أن الأحجية التي يدور -وندور- داخلها هي من صنع عقله. الفيلم الثالث لـنولان -وواحد من أقلهم شهرة دون سبب- هو "أرق" (Insomnia)، ورغم أنه إعادة إنتاج لفيلم نرويجي يحمل نفس الاسم، وكان هدفه الأساسي -على الأغلب- الاختبار من قبل استوديو "وارنر برازرز" لقدرة نولان على الوقوف وراء فيلم كبير تمهيدا لمنحه فرصة إحياء سلسلة "باتمان"، ليصبح "أرق" هو الفيلم الوحيد بين أفلامه العشرة الذي لم يشترك في كتابته، فإنه مع ذلك يحمل تيمة "الجنون" و"عدم الثقل في العقل" التي يحبها: محقق يعاني من الأرق أثناء تتبعه لخيوط جريمة قتل ويصبح غير متأكد مما يراه أو يسمعه ومدى تورطه حتى في كل ما يحدث!

بعد ذلك، أسس نولان لشخصية "باتمان" بشكل أكثر قتامة من أي فيلم قصة مصورة (كوميكس) آخر قبلها، معتمدا على معاناته وهربه من الذكريات وفوبيا الوطاويط التي تحرّكه. سحرة "العَظَمة" (The Prestige) يفقدون في لحظة ما القدرة على معرفة ما إذا كان  ما يحدث جزءا من اللعبة التي يتحكمون فيها أو أن الأمور خرجت عن سيطرتهم وأصابهم الجنون. وصولا لـ "استهلال" (Inception) الذي لا يعرف بطله -ولا نعرف نحن بالضرورة- حتى لحظته الختامية ما إذا كان داخل حلم أو في العالم الحقيقي، ويعاني طوال الوقت لإدراك حقيقة ما حدث في وفاة زوجته، كتكرار لنفس محرك بطل "تذكار" (Memento).

    

مجاز عن صناعة الأفلام
undefined
 
هناك طبقة مكررة في أكثر من فيلم لـنولان"، وهي الموازاة وصنع المجاز بين الحكاية التي يسردها فيلمه، وبين عملية صناعة الفيلم ذاتها. بدأ كل شيء مع "تتبع" (Following) أيضا، وحكاية "الصانِع" الذي يتتبع الناس بحثا عن رواية، ولكن الأمر كان في صورة أوضح بعد ذلك من خلال فيلمي "العَظَمة" (The Prestige) و"استهلال" (Inception). في الأول تكون الموازاة بين صانع الأفلام والساحر، وفي بداية فيلمه يقسّم على لسان أحد أبطاله (مايكل كين) عملية السحر إلى 3 أجزاء: الوعد، والتحول، والسحر، أن ترى شيئا عاديا يتحول إلى شيء غير عادي، ثم (تفسّره/تعيده) لطبيعته، تقديم العناصر، تنفيذ الخدعة، الانقلابة الختامية التي تجعل الناس يصفقون، وهذا تحديدا هو نفس شكل البناء الذي اعتمده نولان في فيلمه، كأنه يصنع لعبة سحرية خادعة. 

في "استهلال" (Inception) كان هذا المجاز أوضح، عن صناعة حلم ودعوة آخرين لمشاهدته، عن الاتفاق على القواعد، وعن كسرها، وعن التحولات والزمن ومستويات التلقي والوعي، "الفيلم كحلم"، أو كما يقول نولان نفسه(5): "شخصيات "إنسبشن" يشبهون طاقم الفيلم السينمائي"، "دام كوب هو المخرج، آرثر هو المنتج، أرديان هي مصممة الديكور، إيمز هو الممثل، ساتيو هو الاستوديو/المموّل، ويوسف هو مصمم المؤثرات الخاصة"، وبناء على هذا يمكن اعتبار أن شخصية فيشر (الهدف الأساسي من الحلم/الفيلم) هو نحن المشاهدون(6). وبهذا المنوال يمكن تفسير عشرات التفاصيل المتناثرة داخل الفيلم، والإحالات إلى أفلام أو مشاهد أخرى، باعتبار "الصور في مخيلتنا جزءا من إلهامنا لصناعة كل فيلم جديد" كما يقول نولان أيضا.

 

 
وفي تلك المساحة من التأثر بالصور المُلهمة في مخيلتنا سيكون من المثير جدا انتظار مشاهدة فيلم نولان القادم "دونكيرك" (Dunkirk)، الفيلم الحربي الأول في مسيرته الذي لا يشبه -من عروضه الدعائية على الأقل- أيا من التيمات والهواجس المتكررة في أفلامه، ربما فقط يحتفظ فيه بهوسه الشخصي بـتنفيذ الخدع بصورة كلاسيكية، وصنع سفن ومعدات وانفجارات حقيقية عوضا عن الـ (CGI) والمؤثرات المنفذة رقميا.

 

ولكن السؤال الأكبر: ما الصورة المُلهمة التي سيبتكر من خلالها رؤيته للحرب العالمية الثانية؟ تأثر برعب وفزع وجنون المعارك القتالية على نمط "إنقاذ الجندي رايان" (Saving Private Ryan) الذي استدعاه الكثير من محبي سينما نولان عند مشاهدة دعايا "دونكيرك" (Dunkirk)؟ أم أثر الحرب على الروح والنفس البشرية كما يحدث في "الخط الأحمر الرفيع" (The Thin Red Line)؟ الفيلم الحربي الوحيد في قائمة نولان للأفلام المفضلة والذي قال عنه: "واحد من أفلام قليلة لا يمكن تخيلها بوسيط آخر غير السينما، فالكثير من الأفلام يمكن تخيلها على المسرح أو الراديو أو قراءتها في كتاب، ولكن "الخط الأحمر الرفيع" هو سينما خالصة"(7). المقالات القليلة التي نُشرت عن الفيلم حتى الآن تؤكد أن العمل العاشر في مسيرة نولان، ورغم تأثره بالكثير من الأفلام الحربية الأخرى فإنه "معالجة لا تشبه أي شيء آخر"(8)، وإضافة مهمة في مسيرة الـ19 عاما التي بدأت بـ6000 آلاف دولار و3 ممثلين غير محترفين وفيلم يسمى "تتبع" (Following).

المصدر : الجزيرة