"دونكيرك".. أفظع معارك الحرب العالمية بعيون نولان
كثيرون يتحدثون عن انتصاراتهم، وقليلون يتحدثون عن هزائمهم، ونادرون من يتحدثون عن أسوأ هزائمهم. دونكيرك (Dunkirk) هو فيلم المخرج العالمي كريستوفر نولان (Christopher Nolan) الجديد؛ والذي يروي قصة أسوأ هزائم بريطانيا في العصر الحديث.(1)
مئات الآلاف من الشباب اليافع على بعد أميال ليست كثيرة من أرض الوطن ينتظر الموت عطشا أو بقنابل الطائرات إذا بقوا على اليابسة وبطرابيد الغواصات إذا سلكوا البحر في أكبر حصار لقوات في التاريخ، الحصار الذي دام لأسبوع انتهى بوفود مراكب ويخوت المدنين الإنجليز عابرة القنال الإنجليزي لنجدة قواتها المحاصرة على الساحل الفرنسي في واحدة من أبدع ملاحم الحرب العالمية.
يسير الفيلم الذي لم يتجاوز وقت عرضه 106 دقيقة في ثلاثة مسارات درامية، الأول يحكي عن الجنود على اليابسة ويمتد لمدة أسبوع، والثاني لليخوت القادمة من إنجلترا ويمتد لمدة يوم، والثالث لمجموعة من طائرات السلاح الجوي البريطاني تقوم بمحاولات يائسة لإيقاف الطائرات الألمانية ومدته ساعة. تتقاطع المسارات الثلاثة صانعة خليطا من المشاهد غير المرتبة قد تحير المشاهد، فيمكنك أن ترى نفس الحدث مرة من البر، ثم مرة من الجو ومرة من البحر، وبشكل عام اعتبر نولان دونكيرك أكثر أفلامه تجريبية لهذا السبب.(2)
شعور بنسبية الوقت تنتابك أثناء مشاهدة الفيلم، تلك الفكرة التي يحب نولان تناولها دائما في أفلامه. لا يخفى على متابعي سينما نولان الذي يصر لسبب ما على كتابة أفلامه منفردا أو بالاشتراك مع أخيه جوناثان أنه محب للأفكار المعقدة والسيناريوهات المركبة. شاهدنا ذلك منذ "تذكار" (Memento 2000) عن شخص يبحث عن قاتل زوجته رغم أنه يعاني من فقدان في الذاكرة القصيرة، ثم "العَظَمة" (The prestige 2004) وهو الفيلم الذي بدأ مجده عن منافسة بين ساحرين، مرورا بـ "استهلال" (Inception 2010) حيث استخدم أسلوب المسارات الدرامية المتقاطعة هذا لأول مرة ولكن داخل عقل إنسان تلك المرة، حتى نصل لأعقد أفلامه (Interstellar 2014) عن رحلة عبر ثقب أسود بحثا عن وطن جديد للبشر.
الأمر غير المفهوم هنا لماذا الحرص على استخدام هذه الأساليب المحيّرة في فيلم حربي؟ لقد تعود نولان على إخفاء نقاط ضعف السيناريو وركاكة الحوار بالأحاجيّ السينمائية والإبهار التقني حتى بات لا يستطيع كتابة سيناريو أصيل. عموما يحمل الفيلم بصمات نولان في أكثر من نقطة غير تلك.
(فرانسس كوبولا في افتتاح فيلم "القيامة الآن" بمهرجان كان 1979)(3)
أعظم ما يمكن أن يفعله مخرج لتصوير حرب هو إعادة إنتاجها كما هي ثم تصويرها، ذلك ما فعله فرانسس كوبولا في رائعته "القيامة الآن" وما فعله نولان في "دونكيرك" مع الاختلاف طبعا. استطاع نولان تقديم تجربة سينمائية شديدة الواقعية وشديدة الدقة، المُخرِج الذي صرَّح قريبا بأن على صُنَّاع السينما تقديم شيء جديد للمشاهدين وإلا فإنهم سيتوقفون عن الذهاب إلى السينما.(4)
كان على قدر الحدث، الفيلم تجربة ثرية لم نرها منذ وقت طويل، صنع نولان فيلما عن رعب الحرب ورغبة الإنسان المحمومة في النجاة واستخدم كل حرفيته في التصوير ليضع المُشاهد داخل الحدث وليس مجرد شاهدٍ من بُعدٍ ثابت، حتى تجد نفسك في بعض المَشاهد تتفاعل بقلق وأحيانا بصُراخ مع معاناة الجنود.
لن تسمع حوارات طويلة في ذلك الفيلم، وبذلك تجاوز نولان أضعف عناصر أفلامه السابقة، وربما قلَّل ذلك من قيمة الدراما لكنه عوَّض ذلك بالإثارة كعادته،(5) وكذلك لم يهتم ببناء الشخصيات طوال الفيلم، بل فضَّل تصويرهم كأشخاص مجهولين يتفاعلون مع الرعب المحيط، وباستثناء مارك رايلانس (Mark Rylance) لن تشاهد بصمةً للتمثيل، لأن نولان فضَّل أن يتجاوز الأشخاص للأحداث، وبشكل عام فالمجاميع المتحركة للجنود هي البطل الحقيقى لهذا الفيلم.
يقدم نولان فيون ويتهيد (Fionn Whitehead) الذي يقوم بأول أدواره في دور تومي الشاب الذي يحاول الهرب بأي شكل من هذا الجحيم، ويُحسب له التصوير الواقعي لنفسية الجنود أثناء الحصار وبعد الهزيمة، فلم يتحسس من توصيفه بالجُبن، ويستمرُّ نولان في التعاون مع توم هاردي (Tom Hardy) للمرة الثالثة في دور طيَّار في سلاح الجو البريطاني، ورغم صغر الدور وقلة أسطر حواره فقد ترك توم أثرا عميقا. كيليان مورفي (Cillian Murphy) الذي يتعاون معه للمرة الرابعة قدَّم أداءً أنيقًا كعادته.
لم يستخدم نولان تقنية "سي جي آي" "CGI" التي تُستخدم لتصوير المشاهد الحربية داخل الاستوديو بمساعدة برامج الكمبيوتر، بل فضَّل استخدام الطرازات القديمة من التصوير بتثبيت كاميراته على أجنحة الطائرات للتصوير الجوّي.(7) كل ذلك صنع تجربةً بصرية مهولة لم نُشاهدها في فيلمٍ حربي منذ زمن. تعمَّد نولان إخفاء العدو الألماني تمامًا مُستخدمًا حيلة أفلام الرعب (الخطر الذي لا نراه بدلا من الخطر الذي نراه)، فالخطر قد يأتي فجأة من السماء ولن نرى الطائرات، وقد يأتي من الماء ولن نرى الغواصة، وقد يأتي من الأرض ولن نرى مصدر الرصاص. إنه رعبٌ حقيقي.
لا يطرح نولان أي أفكار للنقاش ولو حتى بالتورية كعادته، لا يتحدث عن السلام، بل تحدث عن الصمود، وأنهى الفيلم بتكرار كلمة "يجب أن نقاتل". الشعور العام الذي خرج به المشاهد -خصوصا الإنجليزي- هو الانتشاء الوطني وتصفيق ألهب أكف المشاهدين المتشوقين لمشاهدة أفلام نولان في تلك السينما القديمة ببوسطن.
"يجب أن نستمر للنهاية
يجب أن نقاتل على السواحل
بجب أن نقاتل على الأرض
يجب أن نقاتل في الساحات والشوارع
يجب أن نقاتل في السهول
يجب ألا نستسلم."