شعار قسم ميدان

فيلم "الخليّة".. هل تنتصر التسلية على جديّة الطرح؟

midan - فيلم الخلية
كثيرة هي الأفلام التي تناولت خلال السنوات الماضية ظاهرة الجماعات الإسلامية المتشددة، طريقة تفكيرها وآليات اشتغالها. ربما لم يعلق الكثير منها في الأذهان لأسباب مختلفة سيكون أهمها اهتمامها بالصورة على حساب المضمون. أفلام تحكي قصة حركة وعنف من دون سبر حقيقي للأغوار، ولن تكون السينما المصرية استثناءً في هذا خصوصا مع رواج موجة "أفلام محاربة الإرهاب" بشكل ملحوظ مؤخرا والتي وجدت طريقها بسهولة أمام المخرجين الذين يستهوون صناعة أفلام الأكشن والترفيه.

بدأ الاهتمام العالمي بالموضوع بعد الإعلان عن تأسيس "تنظيم الدولة" عام 2012 والذي طالت عملياته أماكن غير متوقعة خارج المنطقة العربية وتحديدا في أوروبا؛ فصار من الضروري من وجهة نظر الجميع محاولة تفكيك هذا التوجه العنيف. مع ذلك، لم ينجح الكثير في الوصول إلى صيغة يمكن وصفها بالجادة ضمن تلك المعالجات.

لربما كانت البداية من "تنظيم الدولة" نفسه الذي أسس لنقلة نوعية في مجال الرسائل المصوّرة لعملياته وأهدافه التي وصفها العديد من المتابعين بالأفلام القصيرة لعصر "هوليوود الخلافة" لما تعتمده من مؤثرات ووسائل سرد فنية لمشاهد القتل التي سيكون أسوأ ما فيها أنها حقيقية جدا هذه المرة.

استفاد المخرج الفلسطيني طارق العريان من هذه الإصدارات عبر تصميم افتتاحيّة متقنة للغاية لفيلمه الأخير "الخليّة" الصادر هذا العيد في صالات السينما. ففي الدقائق الأولى، نشهد أحد الانفجارات التي تستهدف القوى الأمنية في مصر وراح ضحيتها عدد من المدنيين بعد أن امتزجت دماؤهم في ساحة العملية الإرهابية دون تفريق بين كبير أو صغير، فبات التفريق بين خلفياتهم الدينية والقومية صعبا كذلك.

لطالما كانت الدقائق الأولى من أي فيلم ركيزة للعمل ككل، وفي "الخليّة" يقدم العريان شخصياته بشكل متتابع بسرعة معقولة، لكن هذا التقديم أتاح للمشاهد إمكانيّة توقّع خط سير الأحداث القادمة. الإرهابي مروان، يؤدي دوره الممثل السوري سامر المصري، يوجه كلامه إلى رجال الأمن المصريين مؤشرا بسبابته نحو الشاشة بلكنة عربيّة فصحى دقيقة. وفي المقابل نرى الضابط في العمليات الخاصة سيف، يؤدي دوره الممثل المصري أحمد عز، بمشاهد تدريبية سريعة في منزله إيذانا بوجود مواجهة قريبة بين الرجلين.


غياب الواقع في حضور الصورة

أثار مظهر المنزل الذي يعيش فيه الضابط سيف تعليقات ساخرة من بعض المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، يسكن الشاب الأعزب في منزل عالي المستوى وسط البلد مع نوافذ ضخمة ومكتبة كبيرة لا يمكن الوصول لطرفها دون استخدام سلّم طويل، يعيش معه كلبه المدلل صاحب العلاقة القوية به، يلعب الملاكمة وقت فراغه ويحظى بمحبة زملائه خصوصا وأنه بمكان المسؤولية عنهم.

لديه صديقان أحدهما اسمه عمرو، وهو مقرب منه إلى درجة كبيرة ومتزوج من صديقة مشتركة بينهما، يجتمع الثلاثة في منزل عمرو لقضاء بعض الوقت وهو منزل أكثر فخامة بمراحل من المكان الذي يسكنه سيف، يشبه إلى حد بعيد مصر التي لا نراها إلا في المسلسلات الرمضانية. يسبب هذا الأمر نوعا من الامتعاض المفهوم، فعدم واقعية الصورة لا بد وأن ينعكس أيضا على المضمون في مرحلة معينة من الفيلم، إلا لو أراد طارق العريان أن يجعل الضباط المصريين ضمن الفئة البرجوازية في مصر بشكل علني.


تصدّر فيلم
تصدّر فيلم "الخليّة" إيرادات اليوم الأول في شباك التذاكر المصري بعيد الأضحى (مواقع التواصل)


في ذلك المنزل نتعرف على واحد من الأدوار الذي تحوم علامات استفهام عن مغزى وجوده في الفيلم، وهو الدور الذي تلعبه الممثلة أمينة خليل، والحقيقة أنها لا تقدّم أي شيء لقيمة الفيلم بدورها المقتصر دوما على ردات الفعل بطريقة صار واضحا معها أنها أُقحمت في العمل من أجل توفير البيئة المناسبة لسيف كي يمارس "غلاسته" المفترض بها أن تُضحكنا، وهو ما تقوله أمينة خليل ذاتها في واحدة من مقابلاتها. 
(1)

  

وبينما حاول أحمد عز الظهور بمظهر البطل صاحب الدم الخفيف والذي لا تشوبه شائبة، كانت شخصيّة محمد ممدوح أكثر عمقا وإقناعا، فهو ضابط بيروقراطي يحب الالتزام بالطرق المتعارف عليها في العمل لكن ذلك لا يمنعه من ابتكار أساليب ذكية في تعقب المطلوبين، مظهره ساعد على شرح تفاصيل شخصيته وحتى ذوقه في الملابس. ورغم المغامرات الخطيرة التي يخوضها في العمل، إلا أنه ضعيف للغاية أمام زوجته. غير انفعالي؛ إلا حينما يلمس غباءً لدى الطرف الآخر، ويستطيع إضحاك الجميع بكوميديا تجد على الأغلب مكانها المناسب بالضبط.

يزداد تعقيد الفيلم عندما يتعرض عمرو للقتل على يد المجموعة الإرهابية التي تتعرض لاقتحام مباغت من قبل قوات الأمن التي ينضم إليها سيف ورفاقه. وبعد انفجار يتسبب في إقعاد الأخير عن العمل، فإنه يقرر الاستمرار في ملاحقة الإرهابي مروان حتى من خارج إطار المنظومة الرسمية.

تعاملت العديد من الأفلام العالمية مع هذا المنطق الانتقامي خارج إطار القانون، ولكنه كان دوما في ظلال رفض عجز الجهات الرسمية عن تحقيق العدالة، فيصبح رواج تلك الأفلام ينبع من إحساس فطري بأن الأشخاص الذين يرتكبون الأخطاء الفادحة يستحقون العقاب بأي طريقة كانت.

يبدو هذا متناقضا مع إهداء منتج الفيلم العمل لأرواح شهداء الجيش والشرطة المصرية،(2) فإن كان كذلك فلماذا لم يَسعَ بطلهُ لتحقيق العدالة على طريقة المؤسسة ذاتها دون أن يتجاوزها؟ ولماذا بدا ذات الرجل وكأنه أنهى مهمته بمجرد التخلص من الإرهابي قرب نهاية الفيلم، وكأن الأمر تحول إلى مسألة شخصية بحتة تتعلق بالرجل الذي قتل صديقه لا بالأمن الذي يجب أن تتحلى به البلاد بسواعد رجالها؟

undefined

افتقرت العديد من الشخصيات إلى عمقها الذي تستطيع أن تبني عليه مقولتها، ولم تكن شخصية الإرهابي مروان على قدر أفضل من التعقيد، فهو رجل متطرف تزوج امرأة استطاع إقناعها بالعمل معه رغم أنه غير مصري الجنسية ومع ذلك فهو قائد للمجموعة في مصر، لديه حالة من التصالح مع ذاته بأن كل ما يقوم به بهدف الحصول على المال. تركيبة تشبه إلى حد بعيد الشخصية التي ظهر بها الممثل محمد رمضان في فيلم "جواب اعتقال" قبل أكثر من شهرين.

لم يكن المال المحرك الوحيد لدى مروان فهو أيضا يحركه الانتقام بعد مقتل زوجته عندما حاصرها الضابط سيف فقررت تفجير نفسها. يحمّل مروان المسؤولية كاملة للدولة عن مقتل زوجته الحامل بطفلهما الأوّل فيقرر تفجير أحد محطات المترو وسط القاهرة ويستخدم في هذه العملية الصلاحيات التي منحتها وظيفة سيف له بعد أن ابتزه بخطف ابن صديقه عمرو الذي قتله هو سابقا.

أظهر الفيلم شخصية الإرهابي كأنه يبحث فقط عن المال ولا يهتم بالأسباب الفكرية وراء ما يقوم به، وكأن الإرهاب تافه وبسيط إلى هذا الحد، وهي رؤية قاصرة لجماعات العنف الديني

انعكس شخصنة الأمور إلى هذا الحد على نهاية الفيلم التي بدت وكأنها أُنجزت على عجل فاشتملت على حوارات مُباشرة للغاية ويمكن وصفها بـ"الترويجية" الفجة عندما يتقابل كل من سيف ومروان وجها لوجه فيلقي مروان خطبة قصيرة يقول فيها: "انت صعبان عليّ، الجماعة بتاعتكم ضاحكين عليكم زي ما إحنا ضاحكين علي العيال في جماعتنا، بنقعد نكلمهم عن الاستشهاد والجهاد في سبيل الله لغاية ما نقنعهم يفجروا نفسهم عشان مصالحنا زي ما جماعتك بتقعد تكلمكم عن الأمن والاستقرار عشان تضحي بنفسك وهم يعيشوا ويكبروا.. كله مصالح".

كانت الجملة في غير موقعها خصوصا مع حالة التوتر الحاصلة في الفيلم في اللحظة التي وصل فيها إلى ذروته، بدا الحوار مقحما خصوصا عندما رد عليه سيف قائلا: "البوليس عندنا مايتشافش لكن يتحس"، وكأن دائرة الشؤون المعنوية هي التي أشرفت على كتابة الفيلم لا جهة مختصة بالعمل السينمائي ولها باع طويل في ذلك.

الملفت للنظر هنا هو جمود الصورة التي يتخيل فيها طارق العريان عقلية الإرهابي المتديّن. رغم اشتغال الفيلم على الأبعاد الإنسانية للرجل ضمن سياق درامي جيد لكنه لم يتعرض لطريقة تفكيره بالأشياء حوله بصورة مختلفة عما قدمته السينما المصرية منذ دخلتها أعمال العنف الدينية.

نشاهد مروان في منزله وفي الشارع وفي مخبأه، ونراه يلقي الدروس وينفذ العمليات، وهذا يُحسب للعريان بعدم تقديم شخصية الإرهابي الذي يظن الجميع أنه ولد في معمل للمتفجرات. لكن العجز الحقيقي كان على مستوى دوافع الرجل الذي يبحث فقط عن المال ولا يهتم بالأسباب الفكرية وراء ما يقوم به، وكأن الإرهاب تافه وبسيط إلى هذا الحد ومليء بمجموعة من الأشخاص الذين لم يقتنعوا يوما بما يفعلونه، وهي رؤية قاصرة لجماعات العنف الديني.

فيلم عيد

undefined

صرّح المخرج محمد دياب على صفحته على فيسبوك بأن فيلم الخلية أفضل فيلم أكشن في تاريخ السينما المصرية يشاهده،(3) كان دياب قد اختير ليكون عضوا في لجنة تحكيم الأفلام المرشحة للأوسكار مؤخرا. ومع ذلك، فهو لم يوضح الأسباب التي جعلته يدلي بهذا الرأي، لكن لا بد وأنه سينال إعجاب المخرج طارق العريان الذي يعود هو وأحمد عز بعد غياب عامين عن الشاشة منذ صدور فيلم "ولاد رزق" عام 2015.

تصدّر الفيلم إيرادات اليوم الأول في شباك التذاكر المصري بعيد الأضحى وذلك بعد أن وصلت إجمالي إيراداته إلى 3 ملايين و850 ألف جنيه مصري.(4) قد يفسر ذلك ترفيهية القالب الذي صنعه العريان لفيلمه رغم موضوعه الثقيل وهو الذي صرّح بأن الفيلم مدعوم من وزارة الداخلية المصرية(5) حيث عرضت إدارة الأمن المركزي أن يتم تصوير مشاهد الاشتباكات لديها بعد تصميم الموقع بالصورة المناسبة.

كانت إحدى المميزات في "الخلية" هو علاقة الزمالة التي تتكون بين أحمد عز ومحمد ممدوح بعد وفاة صديقهم، شخصيتان تختلفان بالمطلق عن بعضهما البعض اضطرا للاجتماع في مكان واحد للتحقيق في القضية ذاتها، وتظهر بالفيلم عدد من المشاهد التي تعلق بالذاكرة كمشهد المطاردة الطويلة لأحد خيوط الأدلة أو مشهد هروب المواطنين من نفق محطة المترو مثلا.

حاول طارق العريان أن يحور هدف الفيلم في بعض أجزائه ليعطيه طابعًا وطنيًّا لا يستطيع أحد الاختلاف عليه ولكنه انحرف منه بدرجة حادة نحو فيلم أكشن مسلي لكن بلا إقناع في غالبية أحداثه خصوصا فيما يتعلق بالقدرات الجسدية لبطله الذي لا يبدو أنه ينتمي لدائرة مكافحة الإرهاب بقدر ما ينتمي إلى عالم الأبطال الخارقين. ليتركنا مع تساؤل بسيط دون إجابة: هل يستطيع شاب أعزب بصحبة كلبه إنقاذ مصر؟

المصدر : الجزيرة