شعار قسم ميدان

بلايد رانر (BladeRunner).. الديستوبيا لا تنتهي

ميدان - بلايد رانر

تطلق كلمة ديستوبيا كنقيض لكلمة يوتوبيا، فالأولى هي المدينة الفاسدة الغارقة في الظلم والظلام والمرارة، والثانية هي المدينة الفاضلة السعيدة حيث لا جرائم ولا أحقاد بشرية. على صعيد الأدب والدراما تبدو الديستوبيا أكثر جاذبية للكتابة وإثارة للخيال، فالمدينة الفاضلة هادئة ومملة بطبيعة الحال، في حين تكمن كل الإثارة والرعب في العوالم الفاسدة.

كتب الكثيرون عن المدينة الفاسدة، ما أثار خيالات مخرجي السينما لتقديم أعمال درامية عنها، يُعد أولها فيلم "متروبوليس" (Metropolis) الذي قدمه المخرج الألماني فريتز لانغ عام 1927 عن سيناريو كتبته زوجته. مدينة العمال في فيلم فريتز لانغ مرعبة بآلياتها العملاقة وضجيجها وميكانيكية حركة العمال فيها، في حين يعيش أصحاب المصانع في رفاهية ورقص وغناء، لكنّ التصادم بين المدينتين حتمي والثورة قادمة لا محالة. في حينه كان الفيلم مذهلا، وحتى بعد مرور قرابة قرن إلا أنه باق كواحد من أهم كلاسيكيات السينما وأكثرها جرأة، سواء على طرح الفكرة حينها أو في مؤثراته البصرية والجموع الغفيرة التي شاركت في تمثيله.[1]

توالت أعمال مخرجي السينما لاحقا عن تلك المدن المستقبلية الخيالية التي سقط الإنسان فيها بعد قمة تطوره إلى القاع، إما تحت سيطرة ديكتاتوريات فاسدة كفيلم "1984" الذي أخرجه مايكل رادفورد عن رواية الكاتب جورج أورويل، أو سقط بسبب استنزافه لموارد الكرة الأرضية وأهمها الماء، كثلاثية "ماد ماكس" (Mad Max) للمخرج جورج ميلر التي قُدمت بين أعوام 1979 إلى عام 1985، قبل أن يعود ميلر لتقديم شخصية ماكس المجنون عام 2015 مع بطله الجديد توم هاردي بديلا عن ميل جيبسون. في عام 1979 كذلك قدم المخرج ريدلي سكوت أول أجزاء سلسلة الخيال العلمي "فضائي" (Alien) وثاني أفلامه كمخرج، ليتوقف بعدها حتى عام 1982 الذي أخرج فيه فيلم "بلايد رانر" (BladeRunner).

فيلم
فيلم "1984" للمخرج مايكل رادفورد  (آي أم دي بي)

كانت البداية رواية كتبها المؤلف الأميركي فيليب كيه ديك بعنوان: "هل تحلم الروبوتات بشاهٍ كهربائي؟" التي نُشرت لأول مرة عام 1968، وتحكي عن عالم مستقبلي دُمر عقب حرب عالمية نووية قتلت الكثيرين، وأجبرت البشرية على البحث عن كواكب ومستعمرات فضائية جديدة صالحة للعيش فيها بعيدا عن خطر التلوث الإشعاعي. صنع البشر روبوتات بإصدارات مختلفة لتعاونهم على العيش، إلى أن صنعوا إصدارا خاصا شديد التطابق مع البشر ويحمل بعضا من صفاتهم الجينية لتجربة قدرته على المعيشة في المستعمرات الفضائية.

تلك الروبوتات جُرّم عيشها على الأرض واقتصرت مهامها على العمل في الفضاء، إلى أن استطاع ستة منها الاستيلاء على مركبة فضائية والعودة إلى الأرض، لتصبح مهمة المحقق ريك ديكارد البحث عنهم وإحالتهم للتقاعد بقتلهم. يتسائل ديكارد في الوقت الذي ينمو فيه تعاطفه مع الروبوتات التي يطاردها عما إن كنت الروبوتات تحلم، بكل تعقيدات الحلم وما يحمله من خيال، طموح، وأمل في حياة أفضل. وفي حين يرتبط الحلم بالبشر دونا عن الكائنات الحية أفلا تجعل الأحلام الروبوتات أقرب للحياة؟

كيف صُنع الفيلم؟(2)

في البداية، وبعد نشر الرواية عام 1968 تحمس المخرج مارتن سكورسيزي لتحويلها إلى فيلم، لكنه لم يتخذ خطوات جادة للمطالبة بحقوق السيناريو الخاص بها، وبعد محاولة كتابة سيناريو فاشلة لأحد الكتاب عام 1970 التي لم تنل رضا مؤلف الرواية، كتب هامبتون فانشر سيناريو أفضل عام 1977 وظلت محاولات الإنتاج معلقة إلى أن تفرغ ريدلي سكوت لإخراج الفيلم أخيرا عام 1980 وأعيدت كتابة سيناريو فانشر بمعاونة كاتب آخر هو دايفيد بيبولز، ورشح داستن هوفمان لبطولته في البداية قبل أن يحصل هاريسون فورد على الدور.

تمزج الرواية بين الخيال العلمي والفلسفة، وتتساءل عن مغزى الوجود، وما الذي يجعل البشري بشريا من خلال شخصيات الآليين الذين يُطلق عليهم ريبليكانتس. شركة تايرل لا تكتفي بصنع الآليين أو الريبليكانتس على الصورة البشرية فحسب، بل تزرع في عقولهم ذكريات عن إنسانيتهم، فلا يُدرك الآلي منها أنه ليس بشريا. لكن بعد أربعة أعوام يُدمر الآلي ذاتيا لاعتقاد صانعيه أنه حينها سيطور مشاعر إنسانية، وأفكارا ذاتية، وسيصبح بالذكاء الكافي للتمرد على إرادتهم بأن يكون له إرادته الخاصة. هذه الفكرة تكررت لاحقا في عدد من الأفلام السينمائية أشهرها "أنا روبوت" (I, Robot)، لكن أحدا لا يستطيع إنكار أصليتها بربطها بالفيلم والرواية.

في الفيلم استطاع كاتبا السيناريو أن يمزجا فلسفة الرواية مع أجواء الفيلم نوار التي تعتمد على الجريمة الغامضة والإثارة، إلى جانب المدينة التي صنعها ريدلي سكوت بسوداويتها وضخامتها، بين ناطحات السحاب والأغنياء، وبين الشوارع الضيقة المزدحمة والفقراء، بين البشر الخائفين من الفناء والموت وفقدان آدميتهم، وبين ربوتات أصبحت -على حد قول إعلانات شركة تايريل المنتجة لهم- أكثر بشرية من البشر أنفسهم. تلك الروبوتات اختبرت الخوف والمرارة، ومنبع عدائيتها ليس كراهية البشر ومحاولات السيطرة على العالم كأغلب أفلام الذكاء الصناعي، لكنها تبحث عن إرادتها الحرة كالبشر تماما، وفي حين يبحث البشر عن الحياة بعيدا عن كوكب الأرض الملوث بالإشعاع تبحث الروبوتات عن الحياة بعيدا عن مستعمرات الفضاء لأنها بالنسبة لهم عبودية وعمل لانهائي.

في حينه لم يحقق الفيلم نجاحا تجاريا أو جماهيريا لائقا، فلم يكن المشاهدون معتادين بعد على تلك الرؤية السوداوية المقبضة للمستقبل، وكان البعض يكتفي بالانبهار بالمؤثرات البصرية عالية المستوى -مقارنة بفترة إنتاج الفيلم- التي تأثر بعضها بفيلم ستانلي كوبريك الشهير "2001: ملحمة الفضاء" (2001 Space Odyssey)، ورغم أن سكوت على مدار السنوات اللاحقة أعاد إصدار الفيلم في نسخ جديدة بعد العمل على مونتاجها أو تصحيح الألوان أو خلافه فإنه لم يغير في المؤثرات البصرية ولم يستعن بتكنولوجيا الجرافيكس "CGI" لصنع طابع أكثر حداثة للفيلم. لقد ظل تركيزه على جعل الحكاية هي محور الفيلم، وإن كانت الصورة أبهرت مشاهدي الثمانينيات فمشاهدو الألفية الجديدة يبحثون عن جودة القصة نفسها.

بلايد رانر 2049

"يجب عليّ أن أجد طريقة لجعل هذا العالم عالميا. ألا أصبح كالمخرب الذي يدنس الكنيسة ويلطخ الحوائط. هذا المشروع هو أضخم تحد فنيّ يواجهني حتى الآن"
(المخرج الكندي ديني فيلنوف)[3]

 

عدة سيناريوهات كُتبت لاحقًا كجزءٍ ثانٍ للفيلم، لكن أحدًا منها لم يكتمل. أشهرها كان عام 2011 حين فكر اثنان من منتجي النسخة الأصلية للفيلم في الاستعانة بكريستوفر نولان لإخراج جزء جديد[4]، لكن المحاولة لحقت بسابقيها، إلى أن تأكد رسميا مشروع جزء جديد عام 2015 بالاستعانة بالمخرج الكندي ديني فيلنوف بعدما لفت الأنظار في هوليوود بفيلمه "سجناء" (Prisoners).
 
تحمس فيلنوف للمشروع بشدة لحبه للفيلم الأول بنسخه العديدة. فيلم "بلايد رانر 2049" (Blade Runner 2049) لن يكون أول أفلام الخيال العلمي التي يُخرجها بعد أن قدم العام الماضي فيلم "الوافد" (Arrival) واستطاع به أن يثبت أقدامه أكثر كمخرج ناجح في هوليوود لديه فلسفته ورؤيته الخاصة لأفلام الخيال العلمي التي لا تعتمد على الإبهار البصري أو الحبكات المعقدة أكثر من اعتمادها على حبكة قوية عميقة وفلسفية.

قصة الفيلم الجديد ستدور بعد ثلاثة عقود من الفيلم الأول، وسيقوم ببطولته رايان غوسلينغ، مع مشاركة قصيرة من هاريسون فورد بشخصية ريك ديكارد. في الفيلم الأول كانت القصة تدور حول ستة روبوتات، لكن الفيلم لم يركز إلا على خمسة منها، ودارت حينها تساؤلات ومناقشات عديدة عما إذا كان ديكارد نفسه هو الروبوت السادس، لكنّ أحدا من صناع الفيلم لم يؤكد أو ينفي الأمر، في حين صرح ريدلي سكوت أنه يميل إلى كون ديكارد واحدا من الريبليكانتس[5].

 المخرج ديني فيلنوف (آي أم دي بي)
 المخرج ديني فيلنوف (آي أم دي بي)

في الفيلم الجديد سيستعين المحقق الجديد كيه بالمحقق القديم للكشف عن سر ما، وربما حينها يعرف المشاهدون حقيقة البطل القديم، وإن كان الأمر ليغدو مربكا بشدة، فشخصية ديكارد لم تكن فقط بشرية، لكنه كان البشري الوحيد المحترم ذا المبادئ، فإلى أين سيؤول العالم إن كان آليوه أكثر بشرية من البشر فعلا؟

يشارك كاتب السيناريو هامبتون فانشر في كتابة الجزء الجديد، ورغم اختلافه عن الأفكار التي راودته بعد الجزء الأول فإنه يَعِد بأنه سيظل محافظا على روح الفيلم الأصلية. من السهل تحقيق ذلك بوجود فيلنوف الذي شغلته فكرة الإنسانية والبشرية في أغلب أفلامه، إن كانت عن أب يبحث عن ابنته المختفية حتى لو اضطر لاختطاف وتعذيب شاب صغير للحصول على أية معلومة ذات فائدة كما في فيلم "سجناء" (Prisoners)، أو كان الفيلم عن غزو فضائي يُساء فهمه ولن يحله إلا أن يجد الأرضيون لغة للتواصل وطريقة سلمية لتوضيح معنى أن تكون بشريا كما في فيلم "الوافد" (Arrival).

يصدر فيلم "بلايد رانر 2049" (Blade Runner 2049) في (أكتوبر/تشرين الأول) القادم، في حين صدرت آخر نسخة معدلة لفيلم "بلايد رانر" (Blade Runner) عام 2007، وهي النسخة التي يراها ريدلي سكوت الأفضل بين كل إصدارات الفيلم، في حين يرشح فيلنوف الفيلم الأصلي بنسخته القديمة للمشاهدة. أيا كانت النسخة فالفيلم تجربة سينمائية تستحق المشاهدة.

المصدر : الجزيرة