شعار قسم ميدان

سينما "سبايك لي".. كيف تشرح قضيتك من خلال المشاهد؟

midan - ر فيلم

في نهار يوم خريفي هادئ لا ينذر بأي شر، كانت الحياة تسير بشكل طبيعي في ولاية ألاباما الأميركية إلى أن ارتفعت أجراس الكنيسة المعمدانية في مدينة برمنغهام وتعالت الصرخات الهستيرية من داخلها إلى الخارج؛ الكل لا يفهم ما حدث، أربع فتيات صغيرات تتمدد جثثهن على أرض الكنيسة، الدماء تسيل بجنون والعشرات من المصابين ينزفون، الصلوات والتراتيل لم تطفئ النار في صدور الجميع، ومنظمة الـ"كو كلوكس كلان" على الجانب الآخر تعلن انتصارا جديدا بعد العملية الإرهابية التي قامت بها مستهدفة قتل السود بالكنيسة، خطوة جديدة لانتصار العرق الأبيض لتطهير أميركا من السود. تبدو هذه القصة كأنها فيلم تراجيدي عن العنصرية في أميركا، لكنها للأسف قصة حقيقية دوّنها تاريخ العنصرية الأميركية في بدايات الستينيات من القرن المنصرم.

undefined

      

تحمل بعض الأساطير المنتشرة بين أعراق معينة في طياتها جوانب عنصرية تسعى لترسيخ مبادئ غير أصيلة، مثل سموّ العِرق الأبيض على العِرق الأسود، فيقال إن اللون الأسود آية من آيات غضب الله، فالله خلق البشر كلهم سودا، وعندما عرض الله التطهر عليهم اختار البعض التطهر والاغتسال فابيضّت أجسادهم، بينما الرافضون ظلوا كما هم سودا[1]. لا تكتفي هذه الأسطورة فقط بالتفرقة بين العرقين بقدر ما تدنس العرق الآخر من أجل الإعلاء من شأنها وأصلها، فتحول البشر وفق هذه الخرافات إلى صفات ثابتة (Stereotype)، ويصبح كل إنسان منهم في جهة والعالم كله في جهة أخرى منه، ولهذا يجب أن تبقى هذه المسافة ثابتة ومحفوظة بين الأنا والآخر، الأسمى والأدنى.

عن قصة حقيقية للشرطي الأسود رون ستالوورث الذي استطاع بدهائه كجاسوس أن يخدع منظمة "كو كلوكس كلان" عبر الهاتف وتجنيد زميله الشرطي الأبيض ليخترقوا المنظمة، يقدم المخرج الأميركي سبايك لي فيلمه "بلاكككلنزمن" أو (أو عضو الكوكلوكس كلان الأسود) الذي يستحضر فترة السبعينيات ليقدم لنا صورة من الماضي وإسقاطا على الحاضر الذي لا يزال غارقا في العنصرية. كان العرض العالمي الأول للفيلم في الدورة الـ71 (مايو/أيار 2018) لمهرجان "كان" السينمائي الدولي وحصل الفيلم على الجائزة الكبرى، ويعرض الفيلم ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأربعين.

قاموس سبايك لي السينمائي لا يخلو من وجود أبطال سود، تشغله دائما هذه الفكرة، وفي أغلب أفلامه نجد مشهدا متكررا يذكر فيه أبطالا سودا في الفن والسينما والرياضة، ربما لأنه لم يرَ يوما أي تقدير لهم، ولأن الصورة النمطية للبطل الأميركي دائما "من العِرق الأبيض"، وعلى الأغلب هذا ما يجعله بطلا. في أحد مشاهد الفيلم بين جون ديفيد واشنطن وآدم درايفرو مايكل بوسكيمي يذكرون فيه الممثلين السود المفضلين لديهم، ثم بحماسة شديدة يدركون فجأة أن كل الأبطال الذين يحبونهم "سود"، وأنهم لم ينتبهوا للأمر من قبل. في الفيلم يصنع لي بطلا جديدا وهو ذلك الشرطي الأسود الذي حقق انتصارا لم يسبقه فيه أحد، حيث استطاع اختراق منظمة "كو كلوكس كلان" التي كانت تخطط لتنفيذ عملية إرهابية في رئيسة اتحاد الطلبة السود، وهو تمجيد أيضا للشرطي الأصلي في الواقع، وعلى الملصق الدعائي للفيلم نجد البطل الأسود يرتدي ملابس المنظمة وبشرته السوداء تنذر بالبطولة التي قام بها حقا بخداع المنظمة التي كانت ولا تزال تبث سمومها في أميركا.

"يجب أن نطرد هؤلاء الناس خارج بلادنا، فهم يغتصبون نساءنا، يأخذون وظائفنا، يحتلون ثقافتنا.. الادعاءات نفسها تُقال مرارا وتكرارا منذ القِدم كأننا في دائرة مغلقة"

سبايك لي

لوحة تشكيلية لسيدة سوداء وابنتها تقفان على باب أحد المحال المخصص للأشخاص الملونين -غير البيض- فقط (مواقع التواصل)
لوحة تشكيلية لسيدة سوداء وابنتها تقفان على باب أحد المحال المخصص للأشخاص الملونين -غير البيض- فقط (مواقع التواصل)

 

فليبارك الرب أميركا البيضاء

سموّ العِرق الأبيض البروتستاني المسيحي على كل الأعراق، هذا هو الاعتقاد الذي نشأت عليه منظمة "كو كلوكس كلان" الأميركية عام 1866[2]، والتي تؤكد منذ تكوينها أنها تحمل شعار العنصرية بشكل صريح، وأن أعداءهم هم السود واليهود[3]، وهي لا تكتفي بمعاداة الآخر، بل إنها ترفض أي مطالبة له بحقوقه، والقضاء عليه هو مبتغاها وهدفها الرئيس. تؤكد هذه المنظمة أن الأميركيين شعب عنصري، فمنذ إنشائها وحتى منتصف العشرينيات زاد عدد المنضمين للمنظمة ووصلت عام 1924 إلى 6 ملايين عضو[4]، وقامت المنظمة بتنفيذ هجمات إرهابية استهدفت السود وبلغ عدد ضحاياها 3450 شخصا[5] تحت شعار "فليبارك الرب أميركا البيضاء" الذي يُذكّرنا بجملة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطابه العنصري الشرس "أميركا أولا". هذه الجملة ليست شعارا جديدا يطلقه ترامب، لكنه أُعلن لأول مرة عام 1920 من منظمة "كو كلوكس كلان"، وهذا يُعيدنا إلى العنصرية التي يبثها ترامب في خطابه للأميركيين، مما ساعد الجماعات العنصرية والمتطرفة في التظاهر والقيام بعمليات إرهابية من هذا المنطلق العنصري الذي يدعمه الرئيس اليميني المتطرف. لا يخجل المخرج الأميركي سبايك لي مطلقا من إعلان آرائه السياسية، وكان فيلمه الأخير "بلاكككلنزمن" إشارة جديدة منه إلى التاريخ الذي يُعيد نفسه، إلى الماضي والحاضر، وأن ما كان يحدث من عنصرية سيستمر في وجود ترامب ولن تتحرك أميركا خطوة واحدة بعيدا عن العنصرية وكراهية الآخر.

"ترامب رجل الكراهية والعنف، ولا يمكن الوثوق به في اتخاذ أي قرارات أخلاقية. لا يمكن أن نظل صامتين على ما يحدث، إنه على الجانب الخاطئ من التاريخ، بينما نحن بهذا الفيلم نقف على الجانب الصحيح"

(سبايك لي)[6]

  

 فيليكس كندريكسون، عضو المنظمة الأكثر خبثا وشراسة، حضوره في أي مشهد يثير ارتباك المُشاهد، نظراته مخيفة وذكاؤه خطير، في كل مرة يلتقي بالجاسوس فليب في الجلسات السرية للمنظمة نشعر أنه سيكشفه، وبإهانة شديدة يسأله: "أنت يهودي؟ هل تعرضت للختان؟"، يعكس فيليكس الوجه القبيح للبيض، في مقابل ايفانهو الشاب الأبله الذي يسخر ويضحك دائما دون هدف، ولا تعرف تماما ما السبب الحقيقي لانضمامه لهذه المنظمة سوى أنه يرى السود في كل مكان وهذا يزعجه، نموذجان يجتمعان في المنظمة يجعلنا نفكر، هل البيض حقا بكل هذا القبح؟

في مشهد ينفرد فيليكس بالجاسوس فليب أو روث، يحدثه عن اليهود وأن الهولوكوست مجرد خدعة لم تحدث حقا، اختلقها اليهود ليثيروا شفقة العالم، فليب له جذور يهودية، والممثل الذي يلعب دور فليب هو يهودي بالفعل، هنا نشعر أن كل الاتهامات موجّهة له حقا وأنت في انتظار دفاعه عنها، لكنك تتذكر أنه جاسوس ولن يقع في هذا الفخ، فيقول: "الهولوكوست هو أجمل شيء رأيته في حياتي"، ويمدح في هذه الفكرة الشيطانية التي تجعلك تتخلص ممن تكرههم بحرقهم والخلاص منهم.

undefined

أيها السود.. استيقظوا

يملك المخرج الأميركي سبايك لي نظرية خاصة فيما يتعلق بالفن والسياسة، فهو يرى أن كل شيء في العالم حولنا سياسي، والفنان بطبيعته يتخذ القرارات ويترك السياسة بعيدا عن الفن الذي يصنعه، وببراعة يصنع لي مزيجا خاصا ليتحدث سياسيًّا من خلال الفن[7]، وشاغله الرئيس هو الأميركان السود وحقوقهم في أن يعيشوا في بلدهم بمساواة مع البيض الذين لم يتخلصوا بعد من جذور العنصرية بداخلهم، وسينماه لا تداعب التسامح بلطف ولا ترفع شعارات مسالمة، بل تبرز وحشية البيض وتمثل السود في الصورة التي يرفض البيض أن يُظهروهم فيها، سواء في الأفلام أو في الساحة الفنية بشكل عام.

على مدار أحداث الفيلم يتكرر التلميح والتذكير بفيلم "مولد أمة" الذي يُعد واحدا من أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، وهذا صحيح على المستوى الفني، أما على مستوى القصة والمعالجة الدرامية فهو يدعو بالفعل للعنصرية ويتعمد تشويه صورة السود في أميركا، الأسود هو الشخص الغاضب، غير المؤتمن، المغتصب، هو الوحش الذي يهدد الأمة الأميركية والذي يجب الثأر منه.

في فيلمه الشهير "افعل ما هو صواب" (Do the right thing) مثّل سبايك لي برمزية شديدة كل ما يريد أن يقوله عن الصراع بين البيض والسود في حي للسود يتوسطه أسرة إيطالية، لكنه لا يدعو للتسامح بقدر ما يدعو لمواجهة العنف بالعنف، لا يرى لي أن الاستسلام والخنوع يجعل من السود أقوياء، لذلك فهو يعلن دائما تأييده لمالكوم إكس بضرورة المقاتلة من أجل حياة أفضل للسود، بعكس مارتن لوثر كينج الذي يدعو للتعايش مع البيض وإعلاء مبادئ التسامح والحب.

undefined

نشاهد سبايك لي دائما يعلن عن هويته وأيدولوجيته كأنه يؤكد على وجوده في الحياة، فرغم أنه تجاوز الستين فإنه يرتدي السلاسل والتيشرتات الشبابية المزينة بعبارات تعكس أفكاره. في عرض الفيلم في مهرجان[1]  وعلى مدرات فعاليات المهرجان كان يعتمر دائما قبعة مكتوب عليها "Black" فهو لا يكف عن التعبير عن انتمائه، هو أسود ويعلنها دون خجل وبكل فخر.

السخرية السوداء من البيض

لا ينحو سبايك لي إلى السينما العنيفة، الكئيبة، التراجيدية، ورسائله السياسية لا تمنعه من إضفاء أجواء كوميدية على أحداث أفلامه، وهو بشكل ما يكسر الصورة النمطية للكوميديا التي تسخر من السود، فهو على العكس يسخر من البيض ومن العنصرية.

يتساءل هنري برجسون لماذا نسخر من السود؟ وتفسيره لأسباب الضحك تأتي من الخلفية نفسها التي انطلقت منها أساطير البشر الذين رفضوا التطهر فظلوا سودا، والأسود في الذهنية العنصرية هو ليس مجرد لون بشرة بل هو بشرة بيضاء متسخة نسخر منها كما نسخر من ذوي الإعاقة ومن أصحاب التشوهات، ويشبه برجسون هذه الأفكار غير المنطقية بالأحلام، لكنها ليست فردية، بل هي أحلام مجتمع بأكمله[8].

"أغلب الزنوج في بلادنا محبوسين في هذا المجتمع، ويجب عليهم أن يتحملوا ما يتعرضون له من اضطهاد فقط لأنهم سود وضعفاء عديمو القوة، والآن نحن نتعرض للقتل كالكلاب في الشوارع من قِبل رجال الشرطة البيض العنصريين، نحن لم نعد نتحمل هذا القمع دون عقاب"

(الفيلم)

undefined

خطبة حماسية ووجوه محلقة

في لقاء سري ومهم يلتف طلبة الجامعة حول "كوامي توريه" ليسمعوا خطبته ويستمدّوا منه القوة والتحفيز من أجل مواصلة نضالهم الثوري تجاه البيض وتجاه الشرطة التي تعنّفهم، في هذا المشهد الذي يبدو كأنه انتُزع من السياق العام للفيلم نرى الجمهور المنصت للخطبة كأنهم رؤوس محلقة في السماء يطيرون عاليا بأحلامهم وأفكارهم إلى عالم بعيد لا يوجد فيه سواهم، ويختبرون فيه معاني لطالما نشدوها كالحياة والحرية والإنسانية والكرامة، كأنهم يستمعون إلى إله خاص، الشغف يملأ عيونهم والحياة تبدو أكثر احتمالا الآن. يخبرهم كوامي أن الجمال لا معايير له، وأن الشعر المجعد والأنف الأفطس والبشرة السوداء هي عماد جمالهم وقوتهم. يريدون حقا أن يستعيدوا الثقة بأنفسهم، وعيونهم تبحث عن الخلاص من القيود التي تجعلهم أسرى في بلد تطفو على بحار من الكراهية.

"أستخدم صورا من الحاضر كي لا ينسى الناس أن الأمر ما زال يحدث إلى الآن"

(سبايك لي)

 

ينتهي الفيلم بالواقع، مشاهد من تظاهرات الحادي عشر من أغسطس/آب عام 2017 بمدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا الأميركية التي استمرت لأيام، مرت سبعة أشهر على تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة، والأعلام في المظاهرات تهتف "الدماء والتربة"، البيض لا يريدون أحدا سواهم، لا السود ولا اليهود. يقف ديفيد دوك مدير منظمة "كو كلوكس كلان" ليقول أمام الصحافة إن خطاب ترامب يُذكّرنا من جديد بضرورة إعادة أميركا من جديد. صرخة مؤلمة لامرأة سوداء بعد أن كادت سيارة تدهمها في المظاهرات، وفي مشهد يشبه الكابوس صوت ترامب يطوف حول ولايات أميركا.. يجب أن نعود من جديد.. هيا بنا نستعيد عنصريتنا.

المصدر : الجزيرة