شعار قسم ميدان

هل قتل الفن جيم كاري؟

midan - ر كاري

ليس مخوّل للسيد "مخلل" أن يصبح تعيسا، الرجل الذي جلس على مدار ثلاثين عاما في كل البيوت الأميركية بداخل صندوق التلفزيون يسامر الأطفال الصغار بينما آباؤهم مشغولون، والطمأنينة والسعادة لا تستقر بداخل هؤلاء الأطفال إلا بمشاهد ابتسامته الهادئة تعتلي وجهه وهو يتحدث للعرائس ويحكي الحكايات ويدندن أغنية جديدة.

 

"إن سبب إحساسنا بالغربة في هذه الدنيا التي كنا نظن في يوم من الأيام أنها حلوة ومناسبة لنا هو الاضطراب الذي حدث في نظرتنا للموت، وكنا حتى الآن متمسكين أشد التمسك بتلك النظرة"

(سيجموند فرويد)

  

   

يلعب چيم كاري في مسلسله الجديد المعروض على قنوات شوتايم "Kidding" شخصيتين، "چيف" رب الأسرة الهادئ المُحب، والسيد "مخلل" مقدم برنامج الأطفال الشهير الذي يقضي ساعات عمله في العالم الافتراضي للحياة الطفولية، يضحك ويغني ويلعب مع الأطفال بالعرائس. تبدو حياته سعيدة ومثالية للغاية إلى أن جاء الموت ليفقده ابنه في حادث سيارة لم ينج منها سوى الشقيق التوءم والأم، تنقلب حياة چيف تماما لأنه في هذه اللحظة غير المتوقعة اختبر شعورا جديدا لم يُشف بعد من آثاره، اختبر الموت.

 

في تحليله لتأثير موت المقربين علينا يرى فرويد أن الموت يعود بمشاعرنا إلى مرحلة بدائية للغاية، فقديما كانت القبائل الهمجية تحكم على أحباء الميت بالموت معه، وهو فعل شديد القسوة والغرابة يحكم بالموت على الأحياء فقط لأن شخصا عزيزا ومقربا منهم مات[1]، كأن الموت هو نهاية الحياة للمحيطين به كما هو له، لكننا الآن وبعد ما وصلنا له من حضارة ما زلنا نتعامل مع مشاعرنا تجاه الموتى بالقسوة نفسها، مؤكد أن الحزن والشعور بالفقد أمر طبيعي وفطري، لكن الأمر يصل عند البعض لما وصلت له تلك القبائل الهمجية، فيشعر أن كل الآمال والأحلام والسعادة دُفنت مع الميت في المقبرة ولا يحق له استعادتهم.

 

الرجل الحزين ذو الندوب الغائرة

السيد مخلل وچيف شخصان في جسد واحد، الأول هو مُنتَج تجاري يُقدّر بـ 112 مليون دولار، تجده في التلفزيون ومحال ألعاب الأطفال وفي أسطوانات الـ "DVD" والكتب، والآخر حبيب خائب وأب حزين ما زال بداخله جرح لم يداوه، لكن چيف لم يستطع التحكم في هذا الحزن الذي ينخر قواه، والابتسامة التي يطلقها في وجه الأطفال لم تعد حقيقية، وكل الأحاديث الخيالية عن عوالم سعيدة أدرك أنها مجرد خدعة لا تمت للواقع بصلة، لطالما عاش مخلل وچيف كشخصيتين منفصلتين، لكن الجرح الذي انفتح بداخل چيف امتد خلسة لينزف بداخل السيد مخلل، والحزن الذي يكسو ملامح چيف انتزع من مخلل ابتسامته الطيّبة. يخيل إليّ أن چيف الذي يعيش حياتين منفصلتين يحمل وجها من وجوه چيم كاري؛ لطالما واجهت كاري أزمة نفسية يمكننا أن نسميها "من هو چيم كاري الحقيقي؟"، والإجابة تخص كاري بالتحديد والتي لا أظن أنه يعرفها جيدا.

     

undefined

   

"كل ما هو موجود وجد بلا مبرر، ويستمر في الحياة من خلال الضعف، ويموت عن طريق المصادفة"

(جان بول سارتر)

 

كانت فلسفة سارتر الوجودية كالمطرقة التي تدق في لوحة الفكر الأوروبي الحديث، لا لتهدمه بل لتضع إطارا جديدا لفهم الإنسان وعلاقته بكينونته، يرى سارتر أن الوجود الإنساني سابق على الماهية، وأن الفرد منا يخلق نفسه من خلال أفعاله، وخياراتنا في الحياة تجعلنا ما نحن عليه[2]، فنحن لسنا مادة لزجة تصب في قوالب، نحن خُلقنا قبل أن تُخلق لنا القوالب، وعليه، فليس هناك طرق محددة يجب أن نسير عليها، ولا قيم سابقة ولا تشريعات إلهية. تعيدنا فلسفة سارتر إلى التفكير في چيم كاري، تُرى ما الأفكار التي تعج بها رأسه؟ وكيف يرى كينونته؟

 

يقول كاري في الفيلم الوثائقي "Jim and Andy the great beyond": "في مرحلة ما، عندما تخلق لنفسك شخصية لتنجح سيكون عليك إما التخلي عن هذه الشخصية التي خلقتها والمخاطرة بأن تصبح محبوبا أو مكروها بسبب شخصيتك الحقيقية، وإما سيكون عليك أن تقتل شخصيتك الحقيقية وتموت متمسكا بشخصية لم تكنها يوما".

    

وحيدا يطارد أشباحه

في صيف 2016 استيقظنا في أحد الأيام على خبر انتحار حبيبة چيم كاري السابقة، ومنذ ذلك الحين أصبحنا نطالع وجها جديدا لكاري لم نعهده من قبل، أصبح هزيلا وهشّا وحزينا للغاية، نكاد نشعر بالعذاب والألم الذي ينخر قواه من الداخل. بعدها بفترة وجيزة في لقاء معه على السجادة الحمراء في أسبوع نيويورك للأزياء تحدث چيم كاري بكلمات تعكس فلسفة غريبة عن الحياة، قال إنه لا يؤمن بالشخصيات وبأننا لسنا موجودين حقا في الحياة، فنحن محض نسمات جميلة عابرة في الجو، حقول من الطاقة والحيوية تتراقص في الكون، وما يؤمن به حقا هو السلام والهدوء الكامن وراء كل واحد منّا.

   

   

"ليس الجسد هو ما يتألم، وإنما الفرد في معنى حياته وقيمتها"

(ديفيد لوبورطون)

 

لأنه لم يتخلص بعد من شعوره بقسوة الموت يُصر چيف على أن يقدم للأطفال حلقة في برنامجه التلفزيوني عن الموت ليشرح لهم فيها حقيقته وأنه حتمي وسيحدث لنا، إذا فقد الطفل إحدى ألعابه سيشعر بالحزن الشديد عليها، مثل هذا الشعور يجب أن يفهمه الأطفال كي لا يصطدموا بفاجعة موت أحد المقربين منهم كما حدث له عند موت ابنه، لكن والد چيف -وهو منتج البرنامج- يرفض تماما أن يقدم چيف هذه الحلقة، يسأله بتعجب كيف سنتحدث مع الأطفال عن الموت؟! نحن لا نتحدث أمامهم إلا عن الأمور السعيدة والحياة المبهجة، هنا تذمّر چيف ورفض الاستمرار في هذه الخدعة.

 

أراد چيف حقا أن يتعافى من موت ابنه فقرر أن يشارك هواجسه وقلقه مع الأطفال، هم ملجأه الوحيد في الحياة، من يتحدث لهم دائما ويبني معهم صداقة غير مشروطة، يختبئ چيف في عالمه المليء بالعرائس والأغنيات الحالمة بينما القلق الوجودي يشعل بداخله نيرانا يعجز عن إطفائها، أما چيم كاري الممثل الموهوب والنجم الكوميدي العالمي فما زال متخبطا في دوامة الحياة، لا يعرف جيدا من هو؟ وأين تقع ذاته؟ فقرر الاختباء في كل شخصية يمثّلها لعله يعثر على مرآة تعكس صورته الحقيقية، لكنه مع الوقت وشيئا فشيئا أصبح تائها وحزينا وغير مرئي.

 

"ما الذي يعنيه فقدان شيء ترغب حقا في بقائه؟

ماذا لو أرسلوا جواربك المفضلة بعيدا لملايين المربعات السكنية؟

إذا كنت تعرف أنها تدفّئ أقدام شخص ما

ياللروعة!

يمكنها فورا أن تذهب بعيدا"

(أغنية من المسلسل)

   

undefined

   

الموت كمعنى جديد للحياة

ليس من المفترض أن ندفن أنفسنا عند موت أحبائنا، عندما مات ابن چيف قرر أن يعطي لحياته معنى، راح يبحث عن الحب ويوطد علاقته أكثر بالأطفال، فوضع أقدام السيد مخلل على الأرض بدلا من الطير وسط السحاب، وعندما ماتت حبيبة چيم كاري راح يفتش عن ذاته فأدرك أن لا وجود حقيقيا له، وهذا في حد ذاته وجود. يقول چيم كاري إن حياته كانت مليئة بالخيبات[3] وكانت بوابة الفن والكوميديا مدخله ليثبت أقدامه في عالم جديد سيحدث لاحقا أنه سيضيع فيه ويفقد هويته ولن يعود هناك ظل يتتبّعه وهو يسير تحت الشمس.

 

وهو في سن الثامنة والعشرين رسم الفنان التشكيلي إدفار مونش لوحة "الحزن" التي تجسّد الوحدة التي كان يعانيها والهم الذي يثقله، كان مونش يعيش وشبح الموت يحيط به، الموت الذي اختطف أمه وأخته وحبيبته، لم يجد لنفسه متسعا أن يصرخ أو يبكي لكنه بفنية شديدة استطاع أن يصور بريشته أشباحه المتخبطة بين مشاعر القلق والخوف والحزن، كأن اللوحات تصرخ في وجوهنا، تماما مثل لوحته الشهيرة "الصرخة". يقول مونش في مذكراته: "كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفُّ بي منذ أن ولدت ولم تكفَّ عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدِّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية"[4]. اختار مونش الفن ليعبر عن مخاوفه وليجد لنفسه بوابة سرية للحياة.

 

"الرسم يحررني من الماضي والمستقبل، من الندم والقلق"

(چيم كاري)

     

undefined

   

چيم بحاجة إلى الألوان

في عزلة تامة وعلى خلفية هادئة يضرب كاري بالفرشاة ليصنع لوحات تشكيلية تعج بالألوان الصارخة، ومنذ أن اكتشف هذا العالم أصبح منزله محاطا باللوحات في كل مكان، يعكس امتزاج الألوان في لوحات كاري الظلمة التي تقبع بداخله والحكايات التي يريد أن يحكيها، الفرشاة في يده تتراقص في مسارات عشوائية على اللوحة البيضاء لتخلق شيئا ما، معنى ما، وتخبط هذه الفرشاة يشبه تماما تخبطه في حياته. في مرحلة التعافي من انفصاله من الممثلة چيني مكارثي ليستعيد توازنه من جديد وجد نفسه يتجه إلى الرسم الذي اعتاد أن يمارسه في صغره وهو وحيد في غرفته الصغيرة، كأنه بهذا الفعل ينقذ روحه من التلاشي ويجعل لحياته معنى.

 

يقول ديفيد لوبرتون إن الإنسان بدون جسده ووجهه لن يكون على ما هو عليه، وستكون حياته اختزالا مستمرا للعالم في جسده عبر الرمز الذي يجسّده[5]. اختار چيم كاري ألا يعترف بوجوده الجسدي، يرى أنه نسمة عابرة في الكون وأنه لا ينتمي إلى هذا الجسد الذي يؤدي به فقط بعض المهام ويلبسه بعض الشخصيات، وفي النهاية قرر أن يترك لنا وجهه معذبا وحزينا للغاية، وبداخل جسده في أكثر نقطة إظلاما يقبع چيم كاري الحقيقي الذي قتله بداخله للأبد، وفي المساء بصحبة صحن كبير من الفشار يشاهدان معا كل الشخصيات التي ابتكراها في الأفلام. أما چيف فما زال يقاتل ليُثبت وجوده في برنامجه الخاص، ويعارض أباه الذي يحاول طمس هويته ليحافظ على السيد مخلل السعيد المحب للحياة الذي ينشر خرافاته الحلوة للأطفال عن السعادة والحب والحياة.

المصدر : الجزيرة