شعار قسم ميدان

المرأة بعيون هوليوود.. ظل باهت لرغبات الرجال

midan - المرأة
تدعونا الأديبة البريطانية فيرجينيا وولف في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" لنتخيل أن لوليام شكسبير أختا، ثم تطرح علينا سؤال: بافتراض أن هذه الأخت قد حملت في داخلها نفس بذور موهبة أخيها، فأوتيت شغفه بالكلمات وأحست نفس نهمه للحكايا، فهل يا ترى كانت ستحظى بنفس مصيره؟

 

في محاولتها الإجابة على هذا السؤال، تتبع وولف خطين متوازيين: تسير في الأول طبق ما نعرفه من حقائق عن حياة شكسبير، وترسم في الثاني ما قد تكون عليه حياة أخته طبقا لما وصل إلينا عن النساء في القرن السادس عشر. سيذهب شكسبير، الابن الموهوب للعائلة الموسرة، إلى المدرسة حيث سيتعلم الأدب وتبدأ بذور موهبته في التفتح، وعندما يكبر ويضرب الولع بالمسرح كيانه، سيجد الأبواب مفتوحة أمامه على مصراعيها؛ فعلى خشبة الكثير من المسارح سيؤدي مئات العروض كممثل، وفي الكواليس، سيكتب عشرات الأعمال التي ستخلد اسمه وتقف حائلا بينه وبين الضياع في ثقوب النسيان.

 

في تلك الثقوب نفسها، ستسقط الأخت؛ فعندما يذهب أخوها إلى المدرسة ستبقى هي حبيسة البيت، وعندما تحركها بذور شغفها نحو الكتب ستجد صوت أبويها قادما من الغرفة المجاورة آمرا إياها بالانصراف لمهام المنزل، وحين تكبر ويتفتح في صدرها نفس ولع أخيها بالمسرح ستكون قد بلغت السن التي تُزوّج فيه الأسُر فتياتها برضاهن أو بدونه. تقاوم الفتاة لكن ستخور قواها ولا بد، فلا طاقة بها لمواجهة مجتمع كامل يحاربها. وأمام هذا المصير القاتم، ستختار الهرب من الحياة نفسها؛ عند قبر مُلقى على قارعة الطريق بلا شاهد يحمل اسمها، تتركها وولف. (1)

    

   

تبقى أخت شكسبير مثالا خياليا في صيغته واقعيا أكثر مما نحب أن نعترف عمّا قالته الأديبة في موضع آخر من الكتاب:

"طوال معظم التاريخ، ظل المجهول امرأة".

  

فما جرى لها لم يكن محض حادث فردي يحدث بين الحين والآخر على استحياء، بل ثقافة مجتمعات بأكملها اتفقت في ما بينها على وأد صوت المرأة. ضاع عنا صوت أخت شكسبير، ومعه أصوات آلاف النساء، لنحصل في النهاية على تاريخ لا يحمل بين دفتيه سوى ما اختار أن يسطره الرجال ولا يخبرنا سوى عن منظور جنس واحد فقط عن الحياة، فيما ضاع عنا منظور الجنس الآخر إلى الأبد. قد تظن أن هذا الوضع ما عاد سار الآن، لكن نظرة واحدة على فن السينما ستثبت لك غير ذلك.

  

ففي مطلع القرن العشرين، اختار التاريخ أن يتخذ وسيط آخر غير الكلمة يسجل عبرها نفسه؛ كان هذا الوسيط هو الصورة. وقد ظلت كاميرا العصر الحديث شبه محصورة على الرجل مثلما كان القلم في العصور السابقة رهن يديه. صوّر الرجل المرأة، كثيرا، وشُغفَت كاميرته بتفاصيلها. لكن ظلت الصورة التي تحملها أفلامه عنها لا تعكس سوى رؤيته ورؤية المُجتمع لها فيما كادت تنعدم رؤيتها هي عن ذاتها. وقد بقي هذا الوضع قائما لعقود طويلة دون أن يواجهه أحد بالنقد أو يطرح حوله الأسئلة. لكن في السبعينيات، ظهرت مجموعة من الكتابات المهمة التي عملت على تحليل وتغيير ما ظل ثابتا لعقود طويلة.

    

كيف ترى السينما النساء؟

ظلت سينما هوليوود الكلاسيكية تضع شخصياتاها النسائية في قوالب مُعيّنة قلما حادت عنها. فعلى أحد طرفي النقيض توجد صورة للمرأة كعذراء حيية، وعلى الطرف الآخر صورة لها كغانية جريئة، وبين الصورتين، تقع أطياف عدّة تلعب كل منها تنويعات قريبة الشبه على نفس النمطين.

  

وقد عددت الناقدة "مولي هاسكل" في كتابها المنشور عام 1974 "من التقديس للاغتصاب: كيف صورت السينما النساء" كل تلك القوالب. وتذهب هاسكل إلى كوّن الصورة النمطية للمرأة في الأفلام غالبا ما تكون محض انعكاس لخيالات الرجل عنها دون أن تقترب ولو من بعيد لصورتها الواقعية.

 

فتتمركز حبكات الأفلام حول شخصية الذكر التي تلعب الدور الفاعل، بينما تشغل المرأة دور المفعول به؛ فتقبع عاجزة مُنتظرة أن يأتي الرجل لتخليصها من مأزق ما، أو يُشكل جسدها موضوعا لرغبة الرجل الجنسية، أو يمثل وجودها عقبة في طريق نجاحه. (2)(3) وفي كل ما سبق، ينحصر دور الأنثى في كونها عامل يشدد على صفات الذكر الرجولية، دون أن يكون لوجودها دافع آخر قائم بذاته. ومن المثير للاهتمام أن فيرجينا وولف وصفت شيئا مشابها في الأدب قبل هاسكل بحوالي 40 عاما عندما قالت: "طوال قرون، قامت المرأة بدور سطح عاكس يمتلك السحر والمقدرة اللذيذة على إبراز صورة الرجل ضِعف حجمها الأصلي".

 

بقي تحليل هاسكل مؤثرا لسنوات، ورويدا رويدا، بدأت صورة المرأة في السينما تكتسب أبعاد أعمق. وعلى الجانب الآخر، لم يتغير كثيرا، ما أثار اعتراضات الناقدة "لورا ملفي" في مقالها الثوري "السينما الروائية والمتعة البصرية" منذ بداية السينما وإلى الآن.

 

ويعود مقال ملفي المنشور عام 1975 في البدء لنفس النقطة التي طرحتها هاسكل قبلها، وهي كون الرجل المحرك الرئيسي للمشهد بينما يقتصر دور المرأة على الظهور فيه، وكان الناقد المرموق جون بيرغر قد بلوّر هذه النقطة في عبارته الشهيرة: "يقوم الرجل بالتمثيل بينما تكتفي المرأة بالظهور"(4)

 

وحول ذلك الظهور جاءت أطروحة ملفي. فعندما تظهر امرأة جميلة على الشاشة، غالبًا ما يحدق بطل الفيلم على وجهها وجسدها، ويتم ترجمة نظرته تلك إلى الكاميرا التي تُصوّر المرأة من منظوره، فتركز على البطلة في عدّة لقطات قريبة تهدف لإبراز جمالها، وعلى الجانب الآخر من الشاشة، يجلس المشاهد الذكر، في تماه تام مع البطل، يمثل فيه ظهور المرأة موضوع رغبة له يحققها الممثل داخل حدود الحبكة التي يقوم بتحريك خيوطها. (5)

   

يمثل هذا المشهد من فيلم "The Postman Always Rings Twice" مثالا كلاسيكيا على التصوير النمطي للمرأة كموضوع لرغبة الرجل

   

وقد قال جون بيرغر في سياق مقارب حول الفن التشكيلي في كتابه النقدي المُهم "طُرق للرؤية": "في معظم اللوحات الزيتتية الأوروبية التي تتخذ من امرأة عارية موضوعا لها، لا يتم تصوير البطل الأساسي للوحة، فهو المُشاهد الواقف أمام الرسمة يتأملها والذي يُفتَرض دائما كونه ذكر".

  

وعلى الجهة الأخرى من الكاميرا، يجلس مخرج ذكر أيضا، يمثل له الظهور الأنثوي هو الآخر موضوع رغبة تملي نفسها في بعض الأحيان على خياراته الفنية-فأغلب أفلام ألفريد هيتشكوك، على سبيل المثال، تقوم ببطولاتها شقراوات، وتكاد لا تخلو أعمال كوانتين تارانتينو من لقطات طويلة تُركز على أقدام بطلاته. وخلال كل تلك النظرات المُشبعّة بالرغبة، يتم تصوير المرأة؛ وقلما تأتي صورتها كمحض إنسان عادي يخوض صراعاته الخاصة في الحياة، بل غالبا ما تظهر كشيء جذّاب يحرك غرائز الرجل تجاهه.

  

لن نستطيع مطالبة الرجال بإخراج صورة حيادية عن النساء، ففي النهاية، ستبقى الأنثى بالنسبة للذكر هي "الآخر". السبيل الوحيد لامتلاك صورة واقعية عن المرأة هو أن تقوم هي بتصوير نفسها مُستفيدة بالحرية النسبية التي صارت تتمتع بها-مقارنة بأخت شكسبير الافتراضية والتي ما كان ليصلنا أبدا أي شيء مما قامت بكتابته. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت بالفعل مجموعة من كاتبات السيناريو والمخرجات اللاتي أمسكن القلم وحملن الكاميرا راسمات لنا أخيرا صورة ذاتية عن المرأة من منظورها الشخصي. فكيف جاءت تلك الصورة التي طال انتظارها؟

  

كيف ترى المرأة نفسها

ربما لن نجد مثالا أفضل عن فيلم كتبته وقامت بإخراجه امرأة ليعبر عن العالم من منظور النساء أفضل من فيلم جاين كامبيون "البيانو" (The Piano-1993). ففيه، حوّلت كامبيون حالة البَكْم الرمزية المفروضة على الأنثى طوال أكثر فصول التاريخ إلى بَكْم فعلي أصاب بطلتها وجعلها تلجأ لغير لغة الكلام.

  

undefined

    

فتعبر "آيدا" عن نفسها عبر الموسيقى، تجلس إلى البيانو خاصتها وما إن تلمس أصابعها أصابعه حتى ينسابان معا في ألحان أعطتها صوتا بدل ذاك الذي فقدته. لكن حتى هذا الصوت تجده آيدا مهددا بالضياع؛ فعندما يبعثها أبوها مع ابنتها إلى بلد آخر لتتزوج رجلا اختارها له دون أن تراه قط، يرفض ذاك الزوج أن يأخذ البيانو لبيته ويتركه مُهمَلا على الشاطئ. (تقع أحداث الفيلم في أستراليا في القرن التاسع عشر)

    

يمثل فقدان البيانو ومحاولة آيدا استعادته العقدة الأساسية للأحداث، وعبر تلك العقدة، استطاعت كامبيون أن تصنع خطها القصصي ليترجم بعمق وحميمية كيان آيدا بشكل لم يكن أي رجل يستطيع تصويره. فيتمحور الفيلم في جزء كبير منه على رغباتها الجنسية كأنثى، ترفض منح جسدها لزوج سلبها صوتها ولم يعطها أي لمحة حب، وتشاركه آخر استطاع أن يفهمها دون الحاجة للكلمات.

   

على الشاطئ الذي تتسلل له آيدا لتعزف البيانو يولد هذا الحب؛ فبينما تفعل ذلك، يشاهدها ذاك الآخر -"باينز"- الذي يتنامى فضوله تجاهها متحولا شيئا فشيئا إلى غرام عميق. ينظر باينز إليها، لكن كاميرا كامبيون لا تلتقط تلك النظرات من منظوره أو تحيل آيدا لموضوع إعجاب جنسي عبره، بل تتحرك في المكان خالقة جوا جماليا مُرهفا. فبدلًا من استخدام المخرجين الذكور جسد المرأة كوسيط يعبرون خلاله عن رغبات الرجل العاطفية منها والجسدية، استخدمت كامبيون كل ما في جُعبتها من جماليات سينمائية لتترجم عبرها -صورة وموسيقى- عذوبة الحب في قلب النساء.

     

  

طوال الفيلم، تأخذ كامبيون لقطاتها من منظور آيدا مُبدلة بهذا الطريقة التقليدية في التصوير حيث تُؤخَذ اللقطة غالبًا من منظور أحد الرجال. فكما صوّرت كامبيون "باينز" ينظر إلى آيدا دون أن تُغيّر اللقطة لمنظوره، صورت "ستيوارت"-زوج آيدا- أيضًا ينظر إليها في إحدى اللقطات عبر عدسة الكاميرا-ولمثل تلك اللقطة إرث سينمائي طويل، فمشهد الرجل المُمسك للكاميرا ليلتقط عبرها شكل الأنثى أو يتلصص عليها في بعض الأحيان كثير التكرار في الأفلام، ويعتبر فيلم هيتشكوك "النافذة الخلفية" أحد أفضل الأمثلة عليه- وبدلا من أن تبدل زاويتها لتتقمص كاميرا "ستيوارت" الناظرة لآيدا في مجاز سينمائي عن الرغبة في التَمُلك، اختارت كامبيون أن تقلب كاميراها هي لتصير عين "ستيوارت" موضوعها مُغيّرة بذالك المنظور التقليدي لهذا المشهد. (6)

     

ويعكس اختيار كامبيون لزوايا تصويرها لتكون مُتماهية مع بطلتها فعالية آيدا ومحوّريتها في الأحداث؛ فهي امرأة قوية، ذات رغبة وشغف جبّارين وإرادة لا تنثني تصير هي ما تُخلصها في النهاية دون أن تقبع على الهامش منتظرة أن تهبط عليها النَجدة من السماء.

     

undefined

 

مرّت 15 سنة على إنتاج فيلم "البيانو"، ربما لم يُصنع خلالها فيلم بمثل قوته في تبني نظرة المرأة؛ فلا أحد سيستطيع في النهاية التعبير عن الأنثى سوى أنثى، وما زالت النساء في مجال صناعة السينما لا يُمثلن سوى أقلية تجلس على الهامش. ربما يتسع الهامش هذا يوما ويصير مساحة تسع كل رؤى النساء وفنونهن، ربما تتحقق نبوءة فيرجينيا وولف التي اختتمت بها "غرفة تخص المرء وحده" ويعود للنساء صوت أخت شكسبير مرة أخرى.

   

"لو واجهنا حقيقة ألا ذراع لنستند عليه ولا خيار أمامنا سوى المضي وحدنا، أن علاقتنا لا تتوقف عند عالم النساء والرجال بل تمتد لعالم الواقع، فحينها ستأتي الفرصة؛ ستنبعث أخت شكسبير الشاعرة في جسدها الذي طالما دفنته، ستنبعث مُستلهمة حياتها من حيوات المجهولات اللاتي سبقنها. أما أن تأتي بلا تحضير، بلا مجهود نبذله من ناحيتنا ولا إصرار على انبعاثها من جديد، فذلك ما لا نستطيع أن نتوقع، لأنه سيكون المُستحيل بعينه. لكنني أؤكد أنها ستعود، لو عملنا من أجلها ستعود؛ وعملنا على هذا، حتى وسط الفقر والنسيان، سيؤتي ثماره يوما ما".