شعار قسم ميدان

"كتابة على الثلج".. هل تعمد "عمرو واكد" تشويه المقاومة؟

midan - film

على مدار خمسين يوما بدأت في الثامن من يوليو/تموز عام 2014، كانت الحرب الأخيرة على غزّة محورا فاصلا في طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي. حرب بدأت بقصف الأراضي الفارغة وانتهت باستهداف أبراج سكنيّة كاملة وإزالتها من الوجود خلّفت وراءها 2147 شهيدا فلسطينيا ومئات العائلات المهجرة وانهيار كامل للبنى التحتية في قطاع غزّة.

 

بعد ثلاثة أعوام بالضبط يفتتح فيلم "كتابة على الثلج" للمخرج الفلسطيني ابن مدينة غزّة "رشيد مشهراوي" الدورة 28 لمهرجان "أيّام قرطاج السينمائية" في تونس، وهو حدث يجري تنظيمه دوريا في نوفمبر/تشرين الثاني من كلّ عام. لم يكن العرض الأول للفيلم في تونس فحسب، بل اختار مشهراوي أن تكون مدينة طبرقة التونسية موقعا لتصوير الأحداث.(1) هذا البلد الذي تمتد علاقة مشهراوي به تاريخيا إلى علاقة حُب متبادلة(2) استطاع أن يكون كلاهما على نفس الرتم عندما أهدى مشهراوي عمله إلى "روح الصديق سمير فريد" كما جاء في مقدمته، في الوقت الذي تقرر فيه إدارة المهرجان تكريم الناقد المصري الراحل في افتتاحه أيضا.

  

أخذت قرطاج طابعا غزّاويا هذه المرّة، لا على مستوى الحدث العام، بل حتى في تفاصيله. "كتابة على الثلج" فيلم بسيط لا يتجاوز السبعين دقيقة، تجري أحداثه بشكل كامل داخل أحد البيوت الغزيّة في وقت الحرب عندما يجد خمسة أفراد من خلفيات أيديولوجية مختلفة أنفسهم مُحاصرين في مكان واحد وأحدهم يحمل سلاحا، الفيلم من بطولة الممثل المصري عمرو واكد والسوري غسّان مسعود.

    

مشهراوي يتوسّط عمرو واكد وغسّان مسعود مع طاقم العمل في موقع التصوير (مواقع التواصل الإجتماعي)
مشهراوي يتوسّط عمرو واكد وغسّان مسعود مع طاقم العمل في موقع التصوير (مواقع التواصل الإجتماعي)

    

لا يمكنك التكلّم عن الحرب في غزّة إلا مع تخصيص "عن أيّ حرب تتحدث؟"، الأولى أم الثانية أم الثالثة؟، لأنه و رغم التقارب الزمني بين الحروب الثلاثة وثبات العوامل الفاعلة فيها، حمل كلّ منها طابعا مختلفا باختلاف ميزان القوى بين الطرفين وعدد الضحايا والخسائر الناجمة عنها والصدى الإقليمي الذي رافقها. بدت هذه التفصيلة غائبة عن "كتابة على الثلج" لسبب ما. ربما أراد مشهراوي بشكل مقصود أن يترك ظروف الحرب وطبيعتها مبهمة وعمومية للغاية ساعيا لتحقيق فيلم عن الاختلاف السياسي والأيديولوجي لا عن الحرب نفسها، فانتهى بفيلم لا يُشبه أيًّا من حروب غزّة الثلاث.

      

عمرو واكد بدور رجل حمساوي يحمل مُسدسا على جنبه، يجد نفسه مُحاصرا في منزل لعائلة تتكون من رجل وزوجته (الممثلة الفلسطينية عرين عمري). في المنزل أيضا مُصاب (رمزي مقدسي) من قصف سابق أحضرته مُسعفة طبيّة تعمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني. تُصبح هذه المُسعفة (الممثلة اللبنانية يمنى مروان) طريقهم الوحيد للتواصل مع العالم الخارجي من خلال جهاز اللاسلكي الذي تحمله ويُمكّنها من التواصل مع بقية الطواقم الطبية في المنطقة.

      

أمّا الممثل السوري غسّان مسعود فيؤدي دور صاحب المنزل. رجل مولع بالساعات وإصلاحها حتى إنه بالكاد نراه من دون واحدة منها رغم توتر الأجواء داخل المنزل. يصل ولعه هذا إلى مرحلة مزعجة أحيانا عندما يُكثّف مشهراوي، كاتب السيناريو بمشاركة إبراهيم مزين، إقحام كلمات مثل "الزمن" و"الوقت" و"الانتظار" في كل جملة يقولها مما يُفقده حتى العُمق الذي يحاول أن يكون عليه.

    

إعلان الفيلم

   

تبدأ الأحداث بالتصاعد عندما يباشر الحمساوي (عمرو واكد) بالتكلّم. رجل متزمت متشكك ويرى العالم من أضيق منظور يمكن تخيله، يعاني من أزمات يحاول التغلب عليها من خلال القسوة على أزمات الآخرين، يطرح الأسئلة بكثافة ولا يُحب أن يطرح أحدهم سؤالا عليه، دائم التخوين والتكفير والمزايدة. إنه النسخة الأسوأ من رجل الأمن المنتمي إلى حركة حماس، أو ربما هو الفكر الحمساوي في مخيلة رشيد مشهراوي.

    

لا يستطيع هذا الرجل العيش دون هوية واضحة للأشياء التي يتعامل معها. يخوض جدلا طويلا فقط ليعرف انتماءات الآخرين السياسية والتي تُساعده على وضعهم في مراتب أسفل منه، فهو المنتمي إلى جماعة تُحارب الآن بكل ثقلها أمام جماعات انحرفت عن الطريق واختارت بدائل خانعة مستسلمة.  

      

يرى الآخرون أن الطريق الذي اختارته جماعة هذا الرجل مدعاة للعار لا الافتخار، نظرا لحساب الخسائر في ميزان المكاسب. وأمام هذا الاختلاف يضطر الجميع للتعامل بطريقة مختلفة مع هذا الرجل، والذي رغم وجوده منفردا على الجهة المقابلة من الأربعة الآخرين ولكنّه مثّل مصدر ثقل واضح في الفيلم، كونه الرجل الذي ينتمي إلى الجماعة التي تحكم غزّة، وأنّ الاختلاف معه قد يعني المزيد من المتاعب، لن يكون آخرها الاتهام بالعمالة للاحتلال كما فعل للتو مع المُصاب المُحتجز إلى جواره، أو الاتهام بالكفر كما فعل مع المُسعفة الشابة التي ترتدي البنطال وتظهر بشعرها.

   

undefined

     

يتحول وجود هذا الرجل إلى ثقل حقيقي يدفع بعضهم إلى المجازفة بالخروج من المنزل تحت نيران القصف وقبل دخول الهدنة حيزها الزمني للنجاة من الخطر الذي يُشكّله الرجل عليهم، وهو ما يدعونا للتساؤل حول أيّ رسالة يود مشهراوي إيصالها من هذا؛ اعتبار أن العدو الحقيقي هو العدو الداخلي؟

    

يشتد عود هذه النظرية قرب نهاية الفيلم عندما يتعرض هذا الحمساوي لإصابة فيقوم الجميع بمساعدته تزامنا مع وصول سيارة الإسعاف أخيرا، وبمجرد أن تهمّ الطواقم بحمله تتعرض العربة للقصف. تقترب الكاميرا من صاحب المنزل وزوجته، تسأله الأخيرة "ماذا سنفعل؟"، ليصمت زوجها قليلا وتقترب الكاميرا منه: "ننتظر" يردّ عليها. وفي حينها، قد يتساءل المُشاهد، هل الانتظار هنا مأساوي لأنه تحت رحمة الاحتلال أو لأنّه تحت رحمة "حماس"؟

 

العالمي

استفاد النجم عمرو واكد من غزّاوية المخرج، فأتقن لهجة أهل غزّة، واستطاع للمرة الأولى أن يتحدث بطريقة مقنعة للفلسطينيين، متفوقا على ظهوره السينمائي الأوّل عندما أدّى دور "جهاد" الشاب الفلسطيني الوسيم الذي يقرر تفجير نفسه في معسكر لجيش الاحتلال أمام عدسات أحد أصدقائه الصحافيين في فيلم "أصحاب ولا بيزنس".(3)

    

عمرو واكد في فيلم أصحاب ولا بيزنس
عمرو واكد في فيلم أصحاب ولا بيزنس
    

بدا واكد في ذلك الفيلم ساذجا منذ اللحظة التي اختار فيها أداء دور يعزز صورة نمطية معينة عن أشكال المقاومة وطبيعة المُقاومين. ولكن بعد 16 عاما من ذلك الظهور نجد اختلافا جوهريا طرأ على عمرو واكد، الذي اختار لنفسه دورا معاديا ومُعاكسا تماما لذلك الذي أدّاه أوّل مرة. فالمقاومة الفلسطينية التي عُرفت في لحظة من تاريخها بالعمليات الانتحارية كانت في غالبيتها العظمى من تخطيط وتنفيذ رجال ينتمون إلى حركة حماس، هي ذات الحركة التي يؤدي واكد دور واحد منها في 2017 ولكنه بنفسية مختلفة جدا.

    

يعزز هذا رأي محبي عمرو واكد في أدواره، وهو الذي اتخذ لنفسه نمطا مغايرا عن معظم أبناء جيله ساعده للوصول إلى "العالمية" عندما احتفل المصريون بقبلته مع سكارليت جوهانسون في فيلم "لوسي" (Lucy). فهو رجل قادر على أداء نفس الدور بنفسيتين مختلفتين تماما بمعزل عن "طبيعة" الدور وصوابه من الأساس.

    

لا يمكن احتكار ادّعاء العالميّة هنا على عمرو واكد فحسب، خصوصا مع وجود الممثل السوري "العالمي" أيضا غسّان مسعود المعروف بتأديته لشخصيّة صلاح الدين الأيوبي في فيلم "مملكة السماء" (Kingdom of Heaven). يؤدي مسعود هنا شخصية باردة إلى حد بعيد، تعامله مع الساعات جعل منه رجلا يصعب استفزازه بسهولة، شخصية ذات بُعد واحد، لا تتغير (وهو ما يحدث مع بقية الشخصيات) مع مرور الوقت.

      

مشهراوي وأخلاقيات صاحب السلطة

يُعدّ "كتابة على الثلج" الفيلم الروائي الطويل السابع لرشيد مشهراوي، والثالث الذي يعتمد فيه على التصوير في مكان واحد بعد فيلمي "الملجأ" و"حتى إشعار آخر".(4) تبنى مشهراوي فيه خطابا يمكن القول بأنه خطاب "فتحاوي"، وهو أمر مفهوم بالنسبة لرجل ينتمي سياسيا إلى هذا المكان، وهو مقرب من مراكز القوى في رام الله، وقد أشرف على إنشاء متحف الزعيم الراحل ياسر عرفات في مقاطعتها.

    

مشهراوي مع عرفات في تونس (مواقع التواصل الإجتماعي)
مشهراوي مع عرفات في تونس (مواقع التواصل الإجتماعي)

       

يتمثّل هذا الخطاب بجملة مُباشرة للغاية يُلقي بها الممثل "رمزي مقدسي" في وجه الرجل الحمساوي المتسلط فيقول: "أنت تتصرف كأنك تخطفنا.. نحن مختطفون لديك الآن"، وهو الشعار الكبير الذي تتحرك من ورائه كافة التصريحات السياسية القادمة من رام الله نحو غزّة "المختطفة من قبل حماس".

   

ينتقد مشهراوي الفلسطيني الذي ينهمك في صراعه مع أخيه الفلسطيني بدلا من مواجهة الاحتلال بصدق في إطار سعيهم للسيطرة والسلطة، ويرى فيها أزمة عربية رغم خصوصية الموقف الفلسطيني. فما فعلته حماس في غزة من وجهة نظره هو ما حاولت بقية الحركات الإسلامية إنجازه في بعض البلدان العربية الأخرى، غير أن الصورة الأوسع هي حالة تفاقم الخلافات الداخلية على حساب الوحدة ومواجهة المخاطر الخارجية في كل بلد عربي.(5)

   

رسالة أخلاقية أو جرس إنذار يدقّه مشهراوي رغم أنه على المستوى الشخصي أثبت بُعده التام عنه أكثر من مرة، منها عندما قام بإنجاز فيلمه السابق "رسائل من اليرموك" معتمدا على مشاهد قام ابن المخيم "نيراز سعيد" بتصويرها وإرسالها لمشهراوي الذي بقي على تواصل معه من أحد فنادق رام الله عبر السكايب.(6) بعد عرض الفيلم اعتُقل نيراز من قِبَل المخابرات السورية، وقام مشهراوي بتجاهله تماما في كافة المهرجانات التي شهدها وحتى على حسابه الشخصي وصفحة الفيلم الرسمية، فقامت حملة استنكار واسعة ضده.

      

undefined

    

وفي مرة سابقة (7) استطاع مشهراوي أن يناقض رسالته "الإنسان أهم من الفيلم، والإنسان أهم من المهرجان، وإن لم يكن أهم فلماذا الأفلام؟ ولماذا السينما؟" كما وردت كلماته في ختام فيلم "رسائل من اليرموك"، ففي فيلم آخر يُدعى "فلسطين ستيريو" قام مشهراوي متواطئا مع آخرين بخداع مجموعة كبيرة من أهالي الأسرى الفلسطينيين عندما دعاهم لوقفة تضامنية في سبيل نصرة قضايا أبنائهم، ليكتشف الحضور بعد قليل بأن ما يحدث لا يتعدّى كونه مسرحية وأن الحافلات لم تأت بهم من أماكنهم البعيدة من أجل وقفة تضامنية بل من أجل تصوير مشهد في فيلم!

    

لا يمكن إغفال أن الحرب في فيلم "كتابة على الثلج" لم تكن في مصلحة أحد سوى المخرج رشيد مشهراوي، فهي غطاء للأحداث يمكّنه من الهروب بسهولة كلما وجد طريقه مسدودا، أي كلما احتدم الصراع بين الشخصيات فإنه يتحايل عليه بكل بساطة عبر الإلقاء بقنبلة في بهو المنزل تُنهي مع انفجارها أيّ توتر في الموقف وتتسبب في عودة كلّ شخصيّة لمكانها الأصلي كي تعاود البدء من جديد.

    

إن الرمزيّة التي يحملها اسم الفيلم توحي بحالة أشبه بالرقص في العتمة، وهو النقد الذي يوجهه مشهراوي للأحزاب والحركات الفاعلة فلسطينيا وعربيا ربما، تلك الوضعية التي تفرض على الفاعل فيها عبثية ما يقوم به من مجهود. وفي مجال السينما وكلما كبر اسم رشيد مشهراوي أكثر فأكثر دون وجود أساس فنّي قوي قادر على أن يشفع له، يبدو هو نفسه كالراقص في العتمة.. أو كمن يكتب على الثلج!