شعار قسم ميدان

"La casa de papel".. حينما تصبح السرقة فعلا ثوريا

midan - La casa de papel

في منتصف القرن الماضي ألقت حركة المقاومة الإيطالية القبض على مؤسس الحركة الفاشية الإيطالية "بينيتو موسوليني" وأخذت جثته مع عدد من أعوانه إلى ميلانو، وتحديدا إلى محطة للبنزين، وعُلقوا رأسا على عقب حتى يراهم عامة الناس(1)، حاربت حركة المقاومة الدكتاتورية الفاشية بكل قوتها وأنجبت الجمهورية الإيطالية والدستور، وسط هذا العمل الثوري كانت هناك أغنية أصبحت بعد ذلك هي الأشهر في مناهضة الظلم والفاشية بالرغم من عدم معرفة مؤلفها، "بيلا تشاو" (Bella Ciao) هي الأغنية التي نقلت صدحات الإيطاليين إلى مختلف دول العالم، وأصبحت رمزا للثورات ولحنا على ألسنة الحالمين بالثورة(2).

  

يجعل المسلسل الإسباني "la casa de papel" هذا اللحن نشيد إنشاد لدى البروفيسور صاحب العقل المدبر في عملية سرقة القرن التي يدخل فيها مجموعة من السارقين إلى دار النقود الإسبانية، لا للسرقة، بل للمكوث هناك عدة أيام محصنين بالرهائن لطباعة كل المال الذي يريدونه، كل شيء مخطط له ومدروس بعناية منذ سنوات في عقل البروفيسور "لن نسرق مال أحد، سنصنع أموالنا الخاصة بأنفسنا".

    

يعطي المسلسل في تفاصيله البسيطة -في كثير من الأحيان- دلالات مهمة بغرض إظهار أن ما يحدث هناك ثورة وليست سرقة، أقنعة الفنان السريالي سلفادور دالي التي ارتداها السارقون لم تكن خيارا عاديا، ولكن دالي هو الفنان الإسباني الذي قصد الحياة التي تتعارض مع الأخلاق العامة والعادات الاجتماعية المتعارف عليها، ولم يسبق له أبدا أن قَبِلَ قوانين المجتمع وراح ينسج قوانينه وأخلاقه الخاصة، فأقنعة دالي كانت تمثل فكرة المخالفة والخروج عن التيار.

    

  

أراد البروفيسور أن تكون هذه الرسائل المهمة واضحة للشعب، والتي ستمثل دورا في كسب عاطفته ودعمه لعملية السرقة، أراد أن تمثل سرقته تلك استرجاعا لحلم الثورة في نفوس الشعب وانتصارا معنويا بالنسبة إليهم على الرأسمالية التي تتمثل في الدولة والشرطة، وفي المقابل جعل السارقين والرهائن بنفس الزي في إشارة إلى كونهم جسدا واحدا يأبى على الردع، الزي الأحمر هو إشارة واضحة إلى الاشتراكية، ومرتدوه هم الرفاق المقاتلون ضد الرأسمالية، ففي الرأسمالية يرسم المال حدود الصواب والخطأ والخير والشر، حتى الأخلاق يحددها المال، لذلك عندما يقوم أحدهم بطباعة الأموال يتم اعتبار هؤلاء الناس أشرارا، ولكن عندما تطبع الرأسمالية المال تستطيع أن تشن حربا بآلياتها في الإعلام وعلى الأرض ضد أي ممن يهاجهما(3)، كانت هذه هي الحلقة التي أراد البروفيسور كسرها، وأراد أن تكون عاطفة الشعب ذخيرته الأولى في تلك العملية.

   

التقاء ضعف الحبكة مع تماسك الفكرة

في بداية المسلسل تستطيع أن تربط بعض الأحداث مع غيرها من أعمال درامية سابقة، ولا شك أن هذه الأعمال ألهمت صانع المسلسل الإسباني "أليكس بينا"، ولكن مع مرور الوقت يأخذ المسلسل منحى متفردا في عرض فكرته الأصلية وتدوير الأحداث بتشويق يجعل من الصعب عليك أن لا تشاهد حلقات المسلسل بأكملها في وقت قصير، للوهلة الأولى الأشخاص بارعون، أدوار جيدة وتمثيل متقن، يمر الوقت والانتقادات تتبادر إلى ذهنك حول الشخصيات، كيف يتصرفون بهذا الغباء في أوقات كثيرة، وقد يتساءل المشاهد في أوقات أخرى عن مدى ركاكة الحبكة في بعض الأفكار والحلول التي يلجأ إليها المخرج، لكن تماسك الفكرة الأصلية وتطور الخطة للوصول إلى مناطق لم تكن تتصورها هو ما يجعل الأمر تجربة مشرقة للدراما الإسبانية (4)، كل واحد من الممثلين يتناسب تماما مع دوره في المسلسل ولا ينطق كصورة كاريكاتورية، خلال الحلقات الـ 13 للمسلسل تتعرف على كل واحد منهم بشكل وثيق، يحاول المخرج خلق عمق لكل واحد منهم من خلال منحهم مساحة كافية للتفاعل مع الآخرين والكشف عن دوافعهم ومحركاتهم وأحلامهم الخاصة للمستقبل(5)، ولكن المؤسف أن الكثير من المشاهد الجانبية إذا حُذفت قد لا تُشعرك بأن المسلسل قد فقد الكثير، فالمشاهد قد أتى من أجل قصة السرقة التي ستمنحه وحدها الإثارة إلى آخر حلقة وهو على حافة مقعده.

    

عمل يجمع بين الغباء ومبرراته

يحتوي هذا الإنتاج على سبع شخصيات رئيسية وزعيمهم الذي هو بمنزلة الإغواء الحقيقي للمشاهدين في هذه السلسلة عبر خطته التي لم تترك ثغرة إلا ووضعت لها حلا سابقا، ومع الوقت يبدأ هؤلاء السبعة في إظهار عدد من الاضطرابات النفسية وعدم الالتزام بالخطة وافتعال الغباءات المحبطة للجمهور، تدفعك تلك الأخطاء إلى التساؤل عن مدى دقة اختيارات البروفيسور لأشخاص الفريق، كيف يمكن أن يضع خطته المتقنة لهذه الدرجة في أيدي أشخاص متساهلين إلى هذا الحد، يرجح العمل في طياته الأولى عن أسباب اختيار البروفيسور للفريق وأنه لم يقم بتأسيس بحثه على أكثر المجرمين ذكاء بل على أكثرهم يأسا، "أبحث عن أشخاص ليس لديهم شيء يخسرونه"، تظهر هذه الفكرة بشكل واضح في الاسم الأول الذي كان المسلسل سيحظى به وهو "Los Desahuciados" أي (المطرودون) وذلك للدلالة على القاسم الذي تشترك فيه شخصيات الفريق السبعة الذين يعتبرون أنفسهم مطرودين من المجتمع(6).

    

undefined

  

يستمر المسلسل في تبرير سقطات بعض الشخصيات في الغباء المتقن بإرجاعه إلى الضغط المكثف الذي عانوه في الأيام التي قضوها داخل دار الورق لطباعة النقود في أحد المشاهد على لسان الراوي: "حينما تستيقظ لأكثر من 100 ساعة تعاني من الأعراض الجسدية مثل القلق وتوتر العضلات والتعرق والرعشة والغثيان والإثارة وكل ما يزعج هدوءك ويدفعك إلى التصرف باندفاع عند الشعور بالتهديد تجاه فكرة نجاتك"، فيما سبق تبرير على أعتاب القبول حول بعض السقطات، كما أن السرقة نفسها هي ذريعة قوية لتبرير الصراع بين الشخصيات، لا ينحرف المسلسل بعيدا عن هذه الفرضية، إنه يضع مجموعة من غير الأسوياء في وضع يحتاج إلى المراقبة من خلال قوانين لا يستطيعون اتباعها، ولا شك بأن صناع المسلسل لجأوا إلى النظريات النفسية في العديد من المشاهد، يظهر هذا واضحا حينما يفسر أحد أفراد العصابة لولده العلاقة العاطفية التي نشأت بينه وبين إحدى الضحايا قائلا: "ألم تسمع عن متلازمة ستوكهولم".

   

الحب.. سبب وجيه في فشل كل شيء

يأخذ صانع المسلسل موقفا واضحا من الحب في هذا العمل، فهو لا يتجاهله أو يتوقع عدم حدوثه، ولا يقف منه أيضا موقفا محايدا، ولكن يقدمه على نحو نبيل يتسبب دائما في صناعة المشاكل، يضع البروفيسور العلاقات الشخصية أحد الخطوط الحمراء في عمليته التي التقى في تلقينها بفريقه خمسة أشهر، ولكن بمرور الوقت تقع الشخصيات عرضة لهذا المحظور متسببين للخطة بوابل من المشكلات، لم يتوقف الوقوع في الحب باعتباره خطأ عند الفريق، بل يقع البروفيسور نفسه عرضة للحب، بل ومع الخصم نفسه، على هذا النحو يقدم المسلسل الحب باعتباره في كل المرات التي حدث فيها لقاء بين الجنوب والشمال، والنهار والليل، بين صغير السن مع من تكبره ب 15 سنة، بين المجرم والضحية، وبين زعيم العصابة وزعيمة الشرطة، ويجد صاحب العمل نفسه مجبرا في النهاية على حل المأزق من خلال علاقات الحب بعدما استخدمه سببا في العديد من المتاعب.

     

سرقة بنك؟ يا له من كليشيه!       

undefined

   

قد لا يوجد عمل فني يمكنه حصد الإعجاب من كل مشاهديه، بل في الواقع فإن الكثير الأعمال الدرامية تحاول دون حظ، لذا فإن تقديم الترفيه الخالص أمر معقد، وبالتحديد عندما تكون فكرة العمل العامة شبيهة بكل تلك الأفلام التي شاهدناها ليالي الأحد على محطات أفلام الأكشن بعد العاشرة مساء دون الحصول على الترفيه في معظم الأوقات، ولكن إذا تكرر هذا الكليشيه مرة أخرى على سلسلة مطولة من الحلقات فإن معدة المشاهد لن تسعفه في احتمال هذا العمل بترقب شديد إذا لم يكن شيئا أصيلا ومحكما، قد لا تكون المعدة هي المقصودة بالتحديد، وجنبا إلى جنب مع هذا الترفيه المكثف والمهارة العالية في السرد يواجه العمل عدة إخفاقات على مستوى كتابة النص في كثير من الحوارات، قد لا تدفع هذه الإخفاقات المشاهد إلى التوقف عندها، بل وقد يشعر كما لو أنها بمنزلة بعض الأبيات غير الموزونة في قصيدة شعرية جميلة، فكما ستشعر أثناء بعض الحوار بالشبع، فهناك أوقات أخرى تنتهي بنجاحات نصية مخطط لها منذ البداية، (مثل مرض الزهايمر مع والدة المحققة، الشيء الذي لا يبدو ذا معنى في البداية ولكن ينتهي به الأمر إلى توليد لحظات ممتعة في نهاية المطاف)(6).

  
نجاح غير مسبوق للدراما الإسبانية

صنع "La casa de papel" رغم لغته الغريبة نسبيا على المشاهدين زخما منقطع النظير بالنسبة للدراما الإسبانية، ظهر هذا الزخم جليا في المشاهدات التي حققت رقما ضخما للشباب من منتصف العقد الثالث وحتى الرابع من العمر.

   

بل وأخذت تلك الشعبية مظاهرها في ملاعب كرة القدم حتى في العربية منها، فقد عبّر جمهور نادي اتحاد جدة السعودي في إحدى دخلاته عن دعمه للفريق برفع "تيفو" يحمل فكرة المسلسل وصورة لاعبي الفريق بقناع دالي، فيما عبر الممثل الإسباني "ألفارو مورتي" صاحب دور البروفيسور عن انبهاره بذلك على صفحته الشخصية على موقع تويتر.

      

  

جسد الممثل الإسباني "ألفارو مورتي" دور البروفيسور بإحكام متقن، والذي ظهر أمام العامة بهوية مزورة تحمل الاسم "سلفا"، وسلفا أيضا هو المقطع الأول من اسم الرسام "سلفادور دالي"، سواء كان هذا الخلط بقصد أو من غير قصد فإن العمل الإسباني قد لجأ إلى العديد من الدلالات في مختلف المشاهد، وقام "بيدرو ألونسو" أيضا في دور "برلين" بعمل يستحق الإشادة بالنسبة إليه في تقديم الشخصية.

    

مع بداية المسلسل نجد بعض الأمور غير المبررة من ضمنها تقديم "طوكيو" باعتبارها الشخصية الرئيسية منذ الحلقة الأولى، وهو الشيء الذي عجز المسلسل حتى نهايته عن تبريره أو إلحاق تفسير له، ولكن يبقى أن المسلسل قد نجح في تقديم المتعة والتشويق المكثف منذ البداية وحتى النهاية، مع امتياز واضح في التصوير وبناء الفكرة وبعض الإسقاطات العميقة، جنبا إلى جنب مع عدد كبير من الإخفاقات في كتابة النص.