شعار قسم ميدان

بطولة متشردة.. أفلام الحرب في سوريا وتجسيد المعاناة

midan - syria

مع أصوات القاذفات والصواريخ ومدافع الهاون التي تُلقى على الغوطة الشرقية، تدخل الثورة السـورية عامها السابع منذ اندلاعها في منتصف مارس/آذار عام 2011 مخلّفة وراءها مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمصـابين والمفقودين، فضـلا عن موجـات نزوح هائلة لملايين اللاجئين إلى دول الجوار فيما اعتُبر أكبر أزمة إنسـانية شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانيــة.

"الكاميـرا"، السلاح الأول الذي استطـاع توثيق الحقائق الدموية(1) لما يحدث في المسرح السوري. على مدار سنوات الحرب السورية تم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية والتسجيلية ذات الطابع الدرامي التي تحكي ما يحدث في الداخل السوري مركزة على الجوانب الإنسـانية والاجتماعية أكثر من الجوانب السياسية المعروفة للجميع بالفعل. في هذا التقرير نستعرض مجموعة من أبرز الأفلام التي جسّدت أهوال الحرب في سوريا.

  

آخر الرجـال في حلب.. تجسيد البطولات يصل أبواب الأوسكار

  

بعد سنوات من الحرب الأهلية يجد سكـان مدينة حلب أنفسهم في حصـار خانق على إثر تحوّل المدينة إلى ميدان معـركة متعدد الأطراف. الصواريخ والبراميل المتفجرة تهوي بلا توقف على المنازل والبنايات والمستشفيات، وأصوات القصف العنيف لا تتوقف، وآلاف القتلى والجرحى والمفقودين والمطمورين تحت الأنقاض من النساء والأطفال والعجزة.

   

فيلم "آخر الرجال في حلب" (Last Men In Aleppo) هو فيلم وثائقي سوري إنتاج عام 2017، يجسّد قصـة ثلاثة شباب: خالد ومحمود وصبحي. الشبان الثلاثة يلعبون دور أصحاب الخُوذ البيضـاء الذين يتطوّعون في تنفيذ عمليات ميدانية لإنقاذ المصابين ونقل الجرحى والقتلى في خضم المعارك، ويرصـدون أثناء عملهم مأسـاة الحرب السورية بكافة تفاصيلها الدموية والوحشية التي تدور على الأرض والتي تعجز وكالات الأنباء عن نقلها بهذه الصورة.

    

الفيلم الذي أخرجه المخرج السوري فراس فياض يعتبر تجسيدا كاملا للكابوس السوري خصوصا في مدينة حلب، أحد أبرز المدن السورية التي تضررت من لهيب الحرب، حيث تصحبنا الكاميرا إلى جولات لاهثة وراء رجال الدفاع المدني راصدة انتشار أشلاء الجثث واهتزازات الأجساد تحت الأنقاض وصراخ الأمهات والأطفال وسط سحب من الدخان والغبار الناتج من قصف الطائرات. وسط كل هذه المجازر يظهر ذلك الرضيـع الذي بقي تحت الأنقاض عدة ساعات قبل أن يطلق صرخـاته ليعلن أنه ما زال متمسّكا بالحياة رغم الموت المحيط.

   

حصد الفيلم تقييما نقديا إيجابيا كبيرا، كما حصد العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية الإقليمية الدولية، ومؤخرا تم إدراج الفيلم في قائمة الأفلام الوثائقيـة الأجنبية المرشّحة لجوائز الأوسكـار لأفضل فيلم وثائقي والذي سيتم عقـده في الرابع من مارس/آذار 2018. (2، 3)

  

غـاندي الصغيـر.. عندما تموت "السلمية" داخل السجن

  

يأتي فيلم "غاندي الصغيـر" (Little Ghandi) كتخليد لذكـرى الناشط السوري غياث مطـر أحد أهم رموز الثورة السورية في بدايات انطـلاقها والذي كان أحد المنظمين الأساسيين لقيادة الاحتجاجات السلمية في مدينة داريا القريبة من دمشق ضد النظـام السوري، قبل أن تعتقله السلطـات ويتم تعذيبه في السجن بوحشية حتى يفارق الحيـاة وهو في السادسة والعشرين من عمره، تاركا وراءه تراثا ملهما جعله يُلقّب بـ "غاندي الصغيـر".

   

الفيلم إنتاج عام 2017، ومن إخراج المخرج السوري الأصل الأميركي الجنسية "سام قاضي"، ويجسّد فيه قصـة الناشط السوري الراحل ومراحل عمـله لقيادة الاحتجاجات السلمية في الشهور الأولى من اندلاع الثورة السـورية وفلسفـة نضـاله التي ترى مواجهـة العنف والقمع بالتظاهرات السلمية، إلى أن تم اعتقاله عبر كمين نصب له وتعذيبه حتى الموت في 10 سبتمبر/أيلول عام 2011. بحسب وصف المخرج كان مطر متأثرا بغاندي ومارتن لوثر كينغ في تبنّي النضال السلمي بغرض الوصول إلى الحرية والسلام، ودفع حيـاته ثمنا لذلك.

  

الفيلم حاز تقييما نقديا إيجابيا كبيرا، وتم عرضه في العديد من المهرجانات الإقليمية والعالمية، ويعتبـر ثاني الأفلام السـورية التي تم ترشيحها لجائزة الأوسكـار عن فئة الأفلام الأجنبية في الدورة التي تُعقد في مارس/آذار عام 2018 إلى جانب فيلم "آخر رجال حلب". (4، 5، 6، 7)

  

ميـاه الفضـة.. عندما تحول الشعر الأبيض إلى أحمر

منذ أن تركت سـوريا أصبحت جبانا – بصوت أسامة محمد مخرج الفيلم

    

أشلاء في الطرقـات، سيول من الدماء تغمر الشوارع، أصوات صراخ في كل مكان، أبنيـة مدمّــرة وأطفال صارخون، حتى القطط تبدو مشوّهة تماما في مدينة حمص ثالث أكبر المدن السـورية التي طـالها نصيب هائل من الدمار على مدار سنوات الحرب الأهلية. يظهـر في خضم هذه المشاهد رجل مسن اشتعل رأسه شيبا، ليتحوّل لون شعـره فجأة إلى اللون الأحمر. فقط ليدرك المشاهد -مع اهتزاز الكاميـرا العنيف- أن الرجل أصيب بطلقة في رأسه حوّلت شعره الأبيض إلى لون الدم. إنسان بريء آخر سقط في بركة دمائه إذن.

  

فيلم "ميـاه فضيـة.. صورة ذاتية لسـوريا" (Silvered water: Syria self portrait) هو فيلم أُنتج عام 2014 وتم إخراجه بواسطة المخرج السوري أسامة محمد الذي غادر سوريا إلى باريس في منتصف عام 2011 هربا من جحيم الحرب. الفيلم يوثّق الدمار الهائل الذي أصاب مدينة حمص التي كانت تعتبر يوما ما من أكبر المدن الصناعية في سوريا، لتتحول إلى واحدة من أكثر المناطق المنكوبة في البلاد. يجسد الفيلم أوجها مختلفة من الحياة والموت في المدينة، سواء الحرب وأصوات القصف ومشاهد الاعتقالات وانتشار الجنود. مشاهد قاسية للغاية تنقل المشهد السوري كما هو على الأرض.

 

الفيلم تم عرضه في مهرجـان كـان في مايو/أيار عام 2014، وعلى الرغم من المشاهد الوحشية التي استعرضها فإنه اعتُبر أحد أبرز الأفلام التي تُظهر قوة أثر "التوثيق" لما يحدث على الأرض. (8، 9، 10)

  

العودة إلى حمص.. توثيق حياة اللاعب والساخر

على الرغم أن المخرج السوري طلال ديركي من مواليد دمشق فإنه قرر أن يتخذ حمص محورا لفيلمه التسجيلي باعتبارها تُلقّب بين السوريين بعاصمة الثورة. فيلم "العودة إلى حمص" (The Return To Homs) هو فيلم تم إنتاجه عام 2013، يسلط الضوء على مراحل تطور الثورة السورية منذ لحظة اندلاعها في منتصف مارس/آذار عام 2011 حتى لحظة صدور الفيلم بنهاية 2013، وكان قد وصل عدد القتلى -حينئذ- إلى نحو 160 ألفا.

  

الفيلم يوثّق الحياة اليومية للمدينة عبر تسليط الضوء على كل من "عبد الباسط الساروت" و "أسامة الحمصي". الأول كان لاعب كرة قدم شاب -19 عاما- كان يلعب كحارس مرمى لمنتخب الشباب السوري ولاعب في نادي الكرامة. انضم الساروت إلى المظاهرات السلمية ثم أصبح قائدا لها في المدينة، وعندما قوبلت الثورة بالعنف والقمع تحوّل الساروت إلى قائد عسكـري في مواجهة النظام. أما الثاني فهو ناشط إعلامي سلمي لعب دورا في تأييد الثورة السورية عبر توثيق يوميات الصراع بشكل ساخر، حتى تم اعتقاله واختفت أخباره.

  

حقق الفيلم تقييما نقديا إيجابيا كبيرا بين المشاهدين والنقاد، وتم عرضه في العديد من المهرجانات السينمائية حول العالم بالتحديد عام 2014، وحصل على جائزة مهرجان ساندانس الأميـركي للسينما المستقلة إلى جانب جائزة في مهرجان سان فرانسيسكو الدولي للأفلام. كما تم عرض هذا الفيلم في العديد من القنوات الفضائية الأوروبية واليابانية كواحد من أهم الأفلام التي تبرز حقيقة الصراع الدائر في سوريا وتوضّحه للعالم. (11، 12، 13)

  

سبعـة أيام في ســوريا.. صحفي أجنبي يرصد الواقع عن كثب

  

سوريا الآن رسميـا هي أخطـر دولة على الإطلاق يمكن لأي صحفي أن يعمل بها. في خضم هذا التحذير، يقرر محرر مجلة النيوزويك الشرق الأوسط "جانيني دي جيوفاني" أن يتخذ أكبر مغامـرة في تاريخه المهني ويذهب إلى سوريا ليكون شاهد عيـان على ما يحدث على الأرض دون الاعتماد على أخبار من وكالات الأنباء، ومن ثم ينقل ما رآه بعينيه إلى العـالم بخصوص ما شهده من معاناة الشعب السوري.

   

فيلم "سبعة أيام في سـوريا" (7 Days in Syria) فيلم وثائقي من إنتاج أميـركي، تم تصويره عام 2012 وإطـلاقه للجمهور عام 2015. الفيلم يسجـل الثورة السورية في مراحل بداياتها مرورا بالنزاع العسكـري وتحوّل الثورة من تظاهرات سلميـة إلى حرب أهلية نتج عنها نزوح مئات الآلاف من اللاجئين، فضـلا عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمرضى الذين لا يجدون الحد الأدنى من الرعاية الصحية. كما سلط الفيلم الضوء أيضا على معاناة الصحفيين في سوريا والمشاكل التي يمرون بها لتوثيق الأخبار ونقلها، سواء صعوبات التضييق من النظام، أو مخاطر وجودهم في ميادين المعارك.

   

الفيلم تمّ عرضه حتى الآن في خمسين مدينة حول العالم، وتم إعطاؤه مساحة للعرض في التلفزيونات المحلية والفضائيات لمجموعة من الدول مثل التلفزيون الدنماركي والسويدي والصيني وغيره. كما حاز الفيلم على تقييم نقدي إيجابي في مواقع تقييم الأفلام، ووصفه موقع "موديريت فويس" (Moderate Voice) النقدي بأنه من أكثر الوثائقيات التي تستحق المشاهدة. (14، 15) 

  

طعـم الأسمنت.. معـاناة السوري في دول الجوار

  

في إحدى ضواحي بيـروت الراقية، ينهمك مجموعة من عمّال البناء السوريين في تشييد ناطحة سحاب عمـلاقة، في مفارقة مريرة بين ما يعيشـونه اضطـرارا كلاجئين في لبنان، وبين حقيقة أن منازلهم في سوريا تتعرّض للقصف بالقنابل والقذائف الصاروخية. عمّال منهمكـون في البناء في بلد مجاور، بينمـا منازلهم هم تتعرّض للهدم.

   

فيلم "طعم الأسمنت" (The Taste of cement) هو فيلم من إخراج المخرج السوري زياد كلثوم، تم إنتاجه عام 2017 ويسلط الضوء بشكل محدد على أزمة اللاجئين السوريين في لبنـان والأزمات التي يعانونها متخذا من هؤلاء العمّال نموذجا. نرى في أحداث الفيلم أن العمّال لا يُسمح لهم بمغادرة مواقع البناء بتاتا لأنهم لاجئون، ولا يُصرّح لهم بمغادرة الموقع إلا بعد غروب الشمس، بينما يقضون بقية يومهم في مكان بائس لا يُسمح لهم بمغادرته حتى اليوم التالي، يتقلبون فيه ما بين القلق والألم والحرمان والخوف من المستقبل المجهول، بعد أن فقدوا أبسط حقوقهم الإنسانيـة.

   

المفارقة الأبرز في الفيلم الذي يمتد على مدار 85 دقيقة هو اتخاذ المخرج لحكاية شاب سوري يعمل في مجال البناء، يتضح أن والده كان يعمل أيضا في نفس المجال لترميم وبناء البنايات التي دمّرتها الحرب الأهلية اللبنانية. الآن الابن يعمل في نفس الوظيفة ويقوم بنفس المهمة، ولكن في الوقت الذي تدمّر فيه الطائرات بلده.

   

الفيلم من أكثر الأفلام الشائكة التي تستعرض أزمة اللاجئ السوري لدول الجوار تحديدا، ويوثّق أقسى لحظـاتهم بشكل صادم إلى حد كبير، وربما هذا ما جعله من أكثر الأفلام السـورية التي لاقت تقييما إيجابيا لدى الجمهور، باعتباره لا يقدم مادة وثائقيـة فقط بقدر ما يحكي حكـاية عامرة بالمعـاني. ترشح الفيلم لعدد كبير من الجوائز الإقليمية والعالمية، وفاز بالفعل بجائزة المهـر الطويل في مهرجان دبي السينمائي لأفضل فيلم غيـر روائي. (16، 17)

     

undefined

    

أخيرا، لعبت هذه الأفـلام الدور الأبرز في تجسيد ملامح الأزمة السورية حتما بشكل أكبر وأعمق بكثير من مجرد تداول الأخبار في وكالات الأنباء، حيث أبرزت الجوانب الإنسـانية والبطولية لسوريي الداخل والخارج على السواء، واعتبرت أداة التوثيق الأولى للصـراع الميداني الدائر على الأرض التي سوف تستمر في أرشيف ذاكرة السوريين والعالم بعد انتهاء الأزمة، وإن طالت.