شعار قسم ميدان

فيلم Annihilation.. تحفة بصرية عن محاولات الإنسان لتدمير ذاته

midan - Annihilation
كان الكاتب والناقد الأميركي جيف فاندرمير في رحلة شمال فلوريدا، وذات يوم راوده حلم غريب، بدأ بكتابته عندما استيقظ فخرجت معه رواية "إبادة". في وقت لاحق، أحد المنتجين المتعاونين مع المخرج أليكس غارلاند قرر تمرير الرواية له، ناصحا إياه بقراءتها، بمجرد أن أمسك غارلاند بالرواية بين يديه، أدرك أنه أمام عمل "أصيل" لا يستقي أفكاره من أعمال أخرى ولا يعتمد في بنيته على إعادة تدوير روايات الآخرين، لقد كان الأمر بالنسبة إليه "أشبه برؤية حلم".(1)

    

يعتبر هذا واحدا من أكثر الأفلام تأثرا بالتقلبات التي مرّت بها هوليوود خلال السنوات السابقة؛ بطولة مطلقة لمجموعة من النساء بأدوار عالمات في مجالات مختلفة، من علم النفس إلى الأحياء، لا يكتفين بهذا الدور فحسب ولكنهن يمزجن بين تلك الوظائف المترفة والدقيقة وبين المهمات الصعبة التي كانت حكرا على الرجال حتى وقت قريب في السينما الأميركية، فنراهن يحملن أسلحتهن الرشاشة ويتطوعن لإنجاز مهمّة مستحيلة يعلمن علم اليقين أنهن لن يعدن منها أبدا.

    

تمتع الفيلم بشعبية ملحوظة عندما بدأ الجميع بتداول نظرياتهم حوله، فهو واحد من الأعمال التي لا تتركك بمجرد الانتهاء من رؤيتها، بل تجعل منك أسيرا لأحداثها مُتأملا في معانيها ومُحاولا إيجاد تفسير لنهايتها. لا يتعلّق الأمر بمقدرتك على استقبال العمل، بل بمقدرة العمل على التأثير عليك، وهنا تكمن "الأصالة" التي تحدّث عنها غارلاند والتي انعكست على الشاشة ببراعة مذهلة شبهها أحدّ الكُتّاب بأنه العمل الذي إن اتحد فيه كل من المخرج الأميركي ستانلي كوبريك والكندي ديفد كروننبرغ لكان الناتج هو فيلم "إبادة".(2)

         

undefined

       

"إبادة" أو "خراب" أو "فناء" كلها محاولات ترجمة لأحدث أفلام أليكس غارلاند كاتب ومُخرج فيلم "Ex Machina" والذي لا يبتعد كثيرا هذا العام عن تناوله لقضايا تكنولوجيّة في إطار سوداوي فريد، فيبدأ بحفر اسمه في عالم أفلام الخيال العلمي بقوّة هذه المرّة بإسناد دور البطولة إلى نتالي بورتمان وأوسكار إيزاك في تعاونهما الثاني معا.

  

         

لا يبدو الخيال العلمي مع غارلاند عاديّا، رغم أنها التجربة الثانية له فحسب في مجال الإخراج بعد أربع سنوات منذ صدر عمله السابق. عالمة الأحياء الأميركية "لينا أندرغوز" تعثر أخيرا على زوجها الذي اختفى منذ عام كامل، يظهر "كين" فجأة في منزله وكأنه رحل بالأمس، اختفى بعد اختياره لمهمة عاجلة من قِبَل قيادة الجيش الأميركي ولكنه لم يعُد منذ ذلك الوقت، وبمجرد عودته يُصاب بالإعياء الشديد وعلى إثره ندرك بأن وجوده كان منافيا للمنطق، فمَن يُفترض عليهم الذهاب وراء "الوميض" (The Shimmer) ليس عليهم أن يعودوا مجددا!

    

ظهر الوميض منذ ثلاث سنوات حول واحدة من المنارات القريبة من الشاطئ بعد أن أصابها جسم سقط من السماء. وميض أخذ بالتوسّع والتهام كل شيء. لم يستطع العلماء تفسيره رغم تعدد النظريات، حدث ديني أم حدث فوق الطبيعي أم بُعد عالمي جديد، الكثير من النظريات ولكن القليل من التفسيرات. ما يجعل الأمر مستحيل الفهم هو انعدام فرصة العودة لمن ذهبوا لتفحّص الأمر، كارثة أشبه بثقب يبتلع كل شيء حتّى البشر أنفسهم. يتلاشون فلا يعد لهم وجود، هذا الاختفاء استطاع السيطرة على كمّ المعلومات التي يعرفها العلماء عن هذه المنطقة، وهو ذاته ما يجعل من عودة "كين" إلى منزله محطّ ارتباك وتساؤل كبيرين: كيف فعلها؟

     

undefined

    

الطبيعة في ذروة غضبها

استخدم غارلاند غابات شمال لندن من أجل خلق عالمه الذي يريد،(3) وهو ما يُميّزه ويجعل من أعماله القادمة تستحق الانتظار، فغارلاند لا يخشى من الإلقاء بكاميرته في قلب الحدث مهما كان غريبا ومُخيفا، لذا عندما تُقرر مجموعة من خمس نساء التسلّح والدخول إلى "الوميض" في محاولة منهن لتفسير ما حدث وما يحدث، فإننا ندخل معهن أيضا ونرى الأشياء بدهشة المفاجأة الأولى كما يحصل مع الشخصيات الخمسة بالظبط.

   

خمس نساء غاضبات مسلحات بالرشاشات والكثير من المعلومات في المجالات العلمية المختلفة يضعن أقدامهن داخل عالم لم يره أحد من قبل وخرج منه ناجيا، سوى "كين"، يحق حينها التساؤل عن المغزى من قيامهن بأمر كهذا؟ تنوعت نفسيات تلك النساء بين الاكتئاب والرغبة في الانتحار والفضول العلمي القاتل والاضطراب النفسي وغيرها من الأمور، كل حالة منهن كانت مُحمّلة بأسبابها الخاصة لجعلها تُقدم على خطوة لا عودة عنها في مهمة انتحارية كهذه.

   

في الداخل كان غارلاند قادرا على خلق تصوّر جديد مختلف كليا عن "الفضائيين" لم نره سابقا في السينما. في الحقيقة نحن لا نتعامل هناك مع أي كائنات أتت مباشرة من خارج كوكب الأرض، كل ما نراه هو كائنات من داخل كوكبنا بالفعل ولكنّ تعديلا جينيا طرأ عليها أدّى إلى تغيّر في هيئتها وصوتها ووظيفتها. ينسحب هذا التغيّر على أي كائن حيّ يحمل شيفرة وراثيّة (DNA)، وهذا يفسّر إلى حدّ بعيد سبب عدم عودة أيّ من الجنود والعلماء الذين دخلوا "الوميض" فيما سبق؛ هذا الوميض غيّرهم، بالمعنى الحرفي والنظري للكلمة.

        

يستمد العمل فكرته من أمر مبدئي جدا في الحياة العلمية للبشر وهو انقسام الخلايا، وهو التطور الطبيعي لأي شيء حي، ومرتبط بنظرية التطور ذاتها والتي تفترض وجود كائن حي وحيد في الكون أدّى انقسام خليته إلى اثنتين فأربعة فثمانية، إلخ، إلى أن وصل إلى هذا الكم من التعدد والاختلاف والتطور فيما يخص الحياة عامّة على كوكب الأرض وليس تلك التي تخصّ البشر وحدهم.

  

undefined

          

ولكن تحدث "الإبادة" في عالم غارلاند حين تنعكس تلك العمليّة فجأة، وبدلا من الانقسام الخلوي فإن الخلايا تعيد الاندماج مجددا، ولكن هذه المرة هي خلايا لا تنتمي إلى بعضها البعض. هذا الاتحاد الذي يتحوّل من إيجابيّة إلى نقطة ضعف وهلاك كبيرة داخل الوميض. بكل بساطة فإن أشجارا على هيئة بشر تزرع الطرقات هناك، وغزلانا بقرون من فروع الأشجار، وبشرا بجسد حيوان وصوت إنسان، بينما هناك على الشاطئ تمتد أشجار من الكريستال اللامع.

   

تبدو فكرة في غاية الجنون، أن يستطيع البشر الاتحاد مع أي شيء غير أنفسهم، إن حدود الخيال لهذه الفكرة غير محدود على الإطلاق، فتخيُّل الأشكال الناجمة عن اتحاد البشر مع أيّ شيء لا نهائيّة، من منفضة سجائرك الصخريّة إلى النمل الذي إنّ مرّ أسفل قدميك لن تراه بسهولة.

   

من الموت تُخلق الحياة

هُناك جمال وغرابة لا تُصدّق في الطفرات التي يبتكرها الوميض في مخلوقاته، ولكنها غرابة رغم جمالها أحيانا مرعبة في أوقات أُخرى، فقد ثبت أن هذا الوميض الغريب لا يدمج فقط الأشياء المادية، ولكنه قادر حتى على الوصول إلى الذاكرة واستخراج ما فيها، مثل حالة خلقه لمنزل لينا والذي رأته داخل الوميض كما لو كان هناك منذ الأزل.

   

يجعل هذا من الوميض "كائنا" قائما بذاته، لذا تتعرض لينا لسؤال عند التحقيق معها: "هل تواصل الوميض معك؟" لتقول: "كان يتفاعل ويردّ عليّ". لم يخلق الوميض تواصلا مباشرا ولكنه خلق ردود فعل، محاكاة، وبينما كانت لينا تحاول القضاء عليه وتسعى لهذا جاهدة، كان هو يمثّل رد فعل معكوس لها، يحاول القضاء عليها، وهو التعامل الذي يمارسه مع البشر أصحاب المكان والأرض والزمان.

      

undefined

       

كان البشر يعتقدون بأنّ الوميض وُجد لتدمير كل شيء، هنا تتدخل لينا لتُصحح: "لا يُدمّر ولكنه يعيد خلق شيء جديد". كل ما يريده هو الحصول على بداية جديدة مختلفة عما هو موجود. وهو مسعى مفهوم للغاية بالنسبة للبشر الذين يركضون دوما وراء ما هو جديد عبر "تدمير" ما هو قديم، وهو ما يحصل قرب نهاية الفيلم عندما يُدرك المشاهد بأنّ كين الذي نجا في بداية الفيلم هو نُسخة خلقها الوميض من كين الأصلي، وأنّ لينا التي يتم التحقيق معها الآن بعد نجاتها لم تكن لتنجو سوى لأن الوميض أراد لها النجاة، ففي المشهد الأخير يظهر أنّ الوميض يعيش بداخلها، أيّ إنه اختار أن يتم تدميره من أجل أن يستطيع الحياة.

    

واحدة من الشخصيات الرئيسية في الفيلم هي بروفيسورة مُصابة بالسرطان، لا يبدو أن لديها ما تخسره فتقرر الدخول إلى المنطقة المنكوبة بنفسها مع بقية الفريق المكون من النساء. جاءت بعض التفسيرات للفيلم بأنه فيلم عن "السرطان" كمرض، وهو ما يُشير إليه المخرج بنفسه ولكن ضمن صورة أوسع عندما يتحدث بأنه فيلم عن "التدمير الذاتي"، والسرطان كمرض يقوم فيه جسد الإنسان بمهاجمة نفسه بنفسه فهو جزء من هذا التدمير، ولكنه كمفهوم يبدو أوسع من السرطان ويشمل كافة أنماط الشعور بعدم الاستحقاق والتكاسل عن خدمة الذات مما يؤدي إلى "تدميرها".(4)

   

يستمر الفيلم بإرسال ومضات من خيانة لينا لزوجها مع أحد أصدقائه، علاقة جنسية جمعتهما قرر كين من بعدها الرحيل ومن هنا تحديدا بدأت قصّتهما، منذ اللحظة التي قررت فيها لينا "تدمير" ذاتها وحياتها الزوجية الهادئة. لذا وعند حدود هذه النظريّة فإن خيار لينا لدخول "الوميض" لم يكن أكثر من محاولة أخيرة لإصلاح ما أفسدته يداها، محاولة لمواجهة أزمتها مع ذاتها ومحو أثر الدمار الذي سببته لنفسها. ولكن ومع نهاية الفيلم، يعود كلاهما للعيش معا مجددا، ولكنهما يدركان كما يُدرك المشاهدون تماما أن شيئا من حياتهما القديمة لن يعود مجددا، وأن كلّ شيء تغيّر منذ حادثة الخيانة، وأن المياه أحيانا لا تعود لمجاريها بسهولة أو لا تعود أبدا.(5)

      

undefined

      

استطاع غارلاند اللعب بالزمن والذاكرة باحترافيّة عالية، وهو ما يظهر من المشاهد الأولى في الفيلم عندما نتعرف على لينا "نتالي بورتمان" وهي تتعرض لتحقيق نعرف من خلاله أنها دخلت الوميض وخرجت منه سليمة، لذا ينقل غارلاند هنا التشويق والإثارة والترقب من كونه مجرد متابعة لقصّة لينا ومحاولة الإجابة عن سؤال هل ستعيش أم تموت بعد دخولها الوميض، وينقله إلى ترقّب من نوع آخر يستقر فوق لافتة كبيرة عنوانها "الوميض"، ما هو؟ ومن الذي يُحركه؟

 

التشوه الذي يسببه "الوميض" (The Shimmer) لا يقتصر على الجينات والشيفرات الوراثية والهيئة العامة للأشياء، ولكنه يمتد إلى تشويه الزمن ذاته، فغياب الشخصيات داخل الوميض رغم ما يبدو عليه من القاطنين في الخارج من طول وتمدّد ولكنه بالنسبة لمن هم في الداخل مختلف، قصير ومتقطّع ينتج عنه أحيانا انطباع هوسي قد يُصيب من لا يحتمله بالجنون.

 

يضعنا فيلم "إبادة" في حالة غير مستقرة شعوريا، مُسببا قلقا لا ينحسر ولا يقل بل يتوسّع مع مرور الوقت، تماما كما يتوسّع الوميض الذي أوشك على الاقتراب من المدن والبلدات المأهولة بالسكّان. إنّ فقدان التوازن الذي يسيطر على شخصيات وأحداث الفيلم لا يسبب الرعب فقط لمن عاشوا القصّة، بل لهؤلاء الذين يرونها من موقع المُراقب الذي ينأى بنفسه عن تجربة مرعبة كهذه، نحن، المشاهدون، مَن يتوقون إلى معرفة النهاية مع توجس عظيم منها، ومَن يُراقبون آثار بصماتهم على أصابعهم للتأكد من أنها لا تتحرك من مكانها هي أيضا.