شعار قسم ميدان

موسم الهجرة إلى التلفاز.. مستقبل السينما في زمن نتفلكس

midan - TV
اضغط للاستماع

     
"في السابق، اتجه الأذكياء حقا لصناعة الأفلام، أما الآن، فالأذكياء حقا يصنعون المسلسلات". (1) هكذا قالت المخرجة النيوزلندية جاين كامبيون في حوارها مع صحيفة الغارديان البريطانية، في تصريح يتعدى كونه تعبير شخصي عن تفضيلها العمل في وسيط بدلا من آخر، لاعتباره صدى يعبر عن موجة واسعة يشهدها الوسط السينمائي الآن. فكامبيون، صاحبة سعفة كان الذهبية، لم تكن الوحيدة التي انتقلت من السينما إلى التلفاز، حيث رافقها في رحلة الانتقال مخرجون بحجم دافيد فينشر(2) وودي ألان(3) والأخوان كوين(4)، كما سمعنا مؤخرا عن اعتزام المخرج الألماني مايكل هانيكه(5)، الفائز بسعفة كان الذهبية مرتين وصاحب أوسكار أفضل فيلم أجنبي، العمل على مسلسل هو الآخر. ولم يتوقف الانتقال عند فئة المخرجين، فقد أعلن روبرت دي نيرو(6) المشاركة في مسلسل لم يفصح عن اسمه بعد وميريل ستريب(7) عن عملها في مسلسل  Big Little Lies  الذي تشاركها بطولته نيكول كيدمان وريس ازيذرسبون. (8)

        

يبدو الأمر كما لو أن بعضا من أعظم مواهب السينما قد قررت فجأة حزم أمتعتها والهجرة بعد تاريخ طويل ومبهر من السينما إلى التلفاز. يحدث هذا في الوقت الذي نشهد فيه تطورا مستمرا في المسلسلات على مستوى النصوص والإمكانات البصرية-تم تصوير Breaking Bad على خام 35مم (9) ويكلف إنتاج الحلقة الواحدة من "صراع العروش" 10 مليون دولار(10)– واعتماد متزايد من شركات إنتاج الأفلام على إعادة تدوير شخصيات وقصص وأفلام قديمة فيما يبدو تيارا لا نهائيا من سلاسل أفلام الأبطال الخارقين وتحويل كلاسيكيات الرسوم المتحركة إلى أفلام "لايف أكشن". في خضم هذه الظاهرة، علينا أن نتساءل، لماذا يحدث هذا الآن؟ وهل نحن على أعتاب حقبة قد تشهد بداية اضمحلال السينما في سبيل هيمنة متكاملة للمسلسلات؟

  

للإجابة على تلك الأسئلة، ربما نحتاج للعودة إلى الوراء قليلا باحثين عن الجذور المعقدة والمتشابكة لعلاقة السينما والتلفاز؛ وحين نفعل هذا، سنكتشف أن هذه ليست المرة الأولى إطلاقا التي يتسبب فيها النجاح الكبير في واحد منهم في تدني شديد في مستوى الآخر.

  

الوسيلة المثلى للتسلية

إن كنت عائدا للتو من حرب هي الأفظع في تاريخ البشرية، فالقليل جدا سيكون كافيا لإسعادك. وقد كان هذا القليل بالنسبة لشباب جيل الخمسينات في الولايات المتحدة لا يتجاوز بيتا صغيرا في الضواحي مع زوجة جميلة وطفلين أو ثلاث. لكن لا يوجد الكثير من وسائل الترفيه حولك في الضاحية، وأقرب سينما تتطلب القيادة لساعتين على الطريق، الأمر الذي لن يكون لطيفا تماما في وجود أطفال متذمرين يودون التخلص من سجن السيارة الممل جدا في أسرع وقت. كيف إذن ستنقذ أمسياتك من الغرق في ضجر لا يطاق؟

       

undefined

      

بالنسبة للملايين في ذلك الوقت، مثل التلفاز الوسيلة المثلى للتسلية دون أن تضطر لمغادرة البيت. قضت العائلات الصغيرة حينها أمسياتها متحلقة حول التلفاز الذي احتل قلب غرفة المعيشة في كل منزل. وبتقديمه محتوى متنوع من المسلسلات -التي بدأت على هيئة حلقات منفصلة- وبرامج المنوعات والألعاب وعرض أفلام هوليوود القديمة، لم يكن هنالك ذوق إلا واستطاع إرضائه. وهكذا، حظي التلفاز في عقد الخمسينات بشهرة لا تضاهى، وقد جاء هذا بالطبع على حساب السينما.

   

فقد مثل رواج التلفاز جنبا إلى جنب مع إنهاء احتكار شركات الإنتاج لدور العرض ضربتين موجعتين لصناعة السينما التي ترنحت بشدة على إثرهما. مرتاعين من سرقته لمشاهديهم، أقدم المنتجون على صناعة أفلام ضخمة الإنتاج وتصويريها بالألوان وعرضها بتقنية الـ     3Dالتي طوروها في ذلك الوقت لتقديم تجربة مشاهدة مبهرة يستحيل للتلفاز أن يوفرها. كانت تلك الأفلام تكلف شركات الإنتاج أموالا طائلة؛ ومع فشل بعضها فشلا ذريعا جعلها مهددة بالإفلاس، اقتصرت الاستديوهات على صنع الأفلام التقليدية مضمونة النجاح، ما ضيق الخناق بشدة على مساحات الإبداع والتجديد، وجعل المجال مفتوحا فقط أمام الأفكار القديمة والمستهلكة الأكثر أمانا.

   

وفي محاولة أخرى يائسة لجذب المشاهدين، استفادت بعض الاستديوهات من اقتصار التلفاز على عرض المواد المحافظة التي تناسب أذواق عائلات الطبقة المتوسطة، وأخذت تنتج أفلاما ذات محتوى جنسي فج ما ساهم هو الآخر في الهبوط العام الذي شاب أفلام تلك الفترة. (11) سينتهي ذلك الفصل البائس في تاريخ هوليوود بإنقاذها على يد جيل جديد من المخرجين اليافعين المتأثرين بالسينما الأوروبية والغير مبالين بالتقاليد-أمثال ستيفن سبيلبرج ومارتن سكورسيزي وفرانسس فورد كابولا وغيرهم الكثير الذين دشنوا لحقبة سينمائية سميت "هوليوود الجديدة". لكن ستظل أسباب ونتائج تدهور مستوى السينما في فترة الخمسينات قريبة الشبه بما يحدث الآن، فيما ستطرأ تغيرات ثورية على التلفاز ستؤهله لمنافسة السينما حتى بعد أن انتهت أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية المنصبة في صالحه والتدشين لحقبة جديدة بعيدة كل البعد عن المناخ العائلي الحميمي الذي جاء فيه متجها لجمهور آخذ في التزايد من الشباب.(12)

      

   
من الجمهور الهوائي إلى المشاهد النهم

"أصبحت السينما شعبية للغاية، مجالا واسعا للترفيه وللعواطف، وهي أشياء لا أرى نفسي فيها فلم يحفزني جني الموال من الترفيه كهدف قط. أما في التلفاز، أشعر بحرية الإبداع"(13) بتلك الكلمات، شرحت جاين كامبيون اتجاهها مؤخرا للتلفاز في بقية حوارها مع الغارديان. وفيما تكاد الجملة الأولى تنطبق تماما على حال السينما في عقد الخمسينات-لولا أنها تصف في الأصل سينما اليوم، فقد احتاجت صناعة المسلسلات التقليدية لثورة بحق حتى تصفها مخرجة في حجم كامبيون بما قالت؛ فقد تم النظر للمسلسلات لعقود طويلة كنشاط أقرب لصنعة منه إلى فن ينتج فيه أنصاف الموهوبين محتوى مسلي لربات البيوت الضجرات.

      

ظل جمهور المسلسلات طوال تاريخه وحتى فترة قريبة جمهور هوائي يمسك الريموت ويقلب القنوات حتى يستقر على شيء يبدو له جيدا فيشاهده، وحتى يجعل صناع المسلسل المشاهد مهتما بإكمال الحلقة، صمموا المسلسلات بحيث لا تعتمد على خط قصصي متتابع يحتاج لمشاهد وفي يتقفى أثره بعناية. وفي المقابل، ركزوا على بيئة معينة أو مكان معين-مستشفى، مكتب محاماة، قسم شرطة-بحيث تصير الخالق الأساسي للحدث الذي ستصير الحلقة وحدته الأساسية، ما يعني عدم الاعتماد على خطوط قصصية طويلة وينعكس في قدرة المشاهد على متابعة أي حلقة صادف أن وجدها في وقت فراغه معروضة على التلفاز ويستوعب المعروض دون الحاجة لمتابعته أي حلقات سابقة.

   

نجح هذا بالفعل في جذب المشاهدين، لكنه أضعف أكثر وأكثر من قدرات التلفاز كوسيط فني يطرح قضايا وأفكارا مبتكرة، وينجح في خلق شخصيات واقعية يستطيع المتلقي أن يتماهى معها. وبخلطاته ومعادلاته المحفوظة لتحريك الأحداث، بدا أقرب لكونه نشاط تجاري منه لعمل فني، لكن كل هذا كان على وشك أن يتغير.

 

في عام 1999، أطلقت شبكة  HBO  مسلسل    "عائلة سوبرانو"(The Sopranos)، وقد ثور هذا العرض مفهوم المسلسلات بالكامل؛  [1] [2] فبتركيزه الأساسي على شخصية رجل العصابات توني سوبرانو وعائلته التي تمحورت حولها الأحداث، وبناءه الدرامي المتصاعد للقصة التي تحررت من قيد الحلقة الواحدة واحتلت ستة مواسم بأكملها بنيت بعضها فوق بعض في هيكل روائي متتابع، وبرسمه الواقعي والذكي لشخصياته-خاصة شخصية توني- والاهتمام بتطوريها خلال المسلسل، بدا كما لو أن هذا العرض يدشن بالفعل لحقبة جديدة مختلفة كليا. وفي هذا السياق يقول دافيد لاندجارف مدير شبكة فوكس التلفيزيونية: "جاء مسلسل "عائلة سوبرانو" كاسرا للأنماط، ففي كل فترة، يتم اختراع شكل جديد من أشكال العروض: أول برنامج مسابقات، أول برنامج حواري، وقد افتتح"عائلة سوبرانو" طريقا جديدة كليا للسرد في المسلسلات".

     

undefined

 (مسلسل عائلة سوبرانو)  

   

تأثر صانع المسلسل "دافيد تشايز" بشكل كبير بأفلام هوليوود الجديدة، خاصة ثلاثية فرانسيس فورد كابولا "الأب الروحي" (The Godfather)، حتى أنه في تصوره المبدئي لـ"عائلة سوبرانو" رأى القصة في قالب فيلم لا مسلسل. يعطينا هذا لمحة عميقة عن مدى تأثر الشكلين الفنيين ببعضهم البعض بطريقة صار معها صانع أحدهما يجد الإلهام الذي يرتقي فيه بشكله الفني بالكامل من خلال الآخر.

    

وعلى غرار "عائلة سوبرانو"، جاء مسلسل "بريكنج باد" الذي تمحورت قصته الأساسية حول البطل "والتر وايت" وتحوله من مواطن صالح ومدرس كيمياء شريف، إلى أحد أباطرة صناعة المخدرات، في مسلسل آخر اهتم بالبناء النفسي لشخصياته في طبقات مركبة أكثر من جعلها شخصيات سطحية سهلة التناول والاستيعاب في إطار حلقة واحدة.

   

أدى هذا الانتهاء عصر المشاهد العشوائي وميلاد ما أسمته الناقدة الثقافية "آنا ليسكويز" بـ"المشاهد النهم". وبمجيء المشاهد النهم إلى الصورة وحلول عصر "الفيديو تحت الطلب" الذي قادته نيتفلكس ومن بعدها أمازون، صار لكل عرض جمهور خاص به لا يجد المتعة سوى في تتبع حلقات المسلسل كاملة لإدراك منحنيات الشخصيات والقصة. وقد غير هذا من بناء المسلسلات بالكامل، وجعلها تعتمد أكثر وأكثر على إنهاء الحلقات على محك لحظات حاسمة ما يجعل المشاهد لا يملك سوى متابعة الحلقة التي تليها، وجعلنا ندخل في عصر جديد تحكمت فيه مصطلحات النهاية المعلقة (Cliffhanger) والمشاهدة بشراهة (Binge Watching).(14)

      

undefined

   

المشاهدة بشراهة في عصر النهايات المعلقة

في وقت صار فيه من الممكن متابعة أحداث مسلسل بأكمله دفعة واحدة على نتفلكس، وصارت فيه المسلسلات مصممة بحيث تدفعك لفعل هذا بالضبط، دخلنا في عصر المشاهدة بشراهة. وقد عرف مشتركي شبكة نتفلكس المشاهدة بشراهة على أنها متابعة ستة حلقات من عرض واحد في جلسة واحدة، فيما اعترف 75% منهم بفعل هذا بشكل منتظم.(15)

       

جاء هذا نتيجة ترك المسلسلات بناءها الكلاسيكي الذي اتخذ من حلقة واحدة وحدة للحدث على هيئة "بداية (تصاعد) – وسط (عقدة) – نهاية (حل)"، وجعلها تبدو أكثر كـ"حل عقدة سابقة – بداية عقدة جديدة (تصاعد) – وسط (ذروة العقدة) ". هكذا يأتي تتر النهاية في المنتصف تماما من الذروة، وقد يأتي هذا على هيئة رؤيتك لأحد أبطال المسلسل يصوب مسدسا على آخر وقطع لشاشة سوداء قبل أن تعرف مصير الشخصية الأخرى، مما لا يترك أمامك من خيار سوى مشاهدة الحلقة التالية. وقد علق باحث الدراسات السينمائية سكوت هيجنز على تلك الظاهرة قائلا: "هنا، يتم تحويل الفضول إلى تبادل تجاري"، إشارة للاستمرار في المشاهدة كاستمرار في شراء كميات أكبر وأكبر من سلعة ما. (16)

      

أعطى سلوك المشاهدة بشراهة -ومقاربته في بعض الأحيان للإدمان-للمسلسلات أفضلية اقتصادية على الأفلام. فالمسلسلات لديها المقدرة على اجتذاب جمهور أوسع وربطه لما تقدمه فترة أطول من الزمن، ومع الأخذ في الاعتبار كونها في معظم الأحيان أقل في التكلفة الإنتاجية من الأفلام، تصبح البديل الأكثر جذبا للمنتجين. وفي هذا السياق يقول روي برايس مدير شركة استديوهات أمازون: "الفيلم هو حدث لا يتكرر سوى مرة واحدة فقط، ومع أنه مجال يوجد به الكثير من الفوائد ونحن مهتمون بالتواجد فيه، لكنه عندما يتعلق الأمر بالترويج لخدمة فيديو، لا يوجد مثيل لمسلسل تلفيزيوني".(17)

    

وهكذا أصبح المشهد كالآتي: مشاهدون نهمون ومنتجو مسلسلات يودون صنع محتوى جيد لهم ما يعني المخاطرة من آن لآخر وتنفيذ فكرة مبدع آخر مجنون، وصناعة أفلام مكلفة لا يرغب منتجوها أبدا في المجازفة فيبقون في حيز النقل من مساحات ذات جماهيرية عالية أصلا من قصص أبطال خارقين وأفلام رسوم متحركة قديمة وإغراق دور العرض بأجزاء متعددة لها – في الواقع لم يتربع أي فيلم ليس جزءا من سلسلة أفلام سابقة عليه أو ليس منقولا من المجلات المصورة على عرش الإيرادات في السنوات الخمس الأخيرة.

      

undefined

     

بهذا، أصبحت الأفلام مساحة غير رحبة بالنسبة للراغبين في الخروج عن الأنماط المألوفة، بينما يفتح عالم المسلسلات ذراعيه لكل ما هو غير معتاد. فمن المثير للانتباه أن الأخوين دافر صانعي مسلسل "أشياء أغرب" (Stranger Things) رأيا فكرة مسلسلهما في الأساس على هيئة فيلم، لكنهما وجدا من غير المثمر تكبد عناء إقناع المنتجين الحذرين به واتجها فورا لتحويله لمسلسل. (18)

   

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي الآونة الأخيرة، أخذت شركات إنتاج المسلسلات من نتفلكس وأمازون تحتل مساحة السينما وتنتج أفلام تعرضها على شاشتها دون أن تعرض في دور العرض السينمائي، ما يهدد بتدمير مفهوم السينما كمكان من الأساس.

في مقاله عن مستقبل السينما في صحيفة الوال ستريت جورنال، يتوقع المخرج البريطاني المرموق كريستوفر نولان مستقبلا ليس مشرقا تماما للسينما في المستقبل القريب ويقول: "تعطي ردود الأفعال اللحظية الأفضلية دائما للمألوف، لهذان ستحتاج الرؤى الجديدة لوقت حتى تصنع لنفسها جمهور. الأفلام الأصغر، الأغرب، لن يتم قبولها وسينتقل الابتكار بالكامل لوسائل الترفيه المنزلية، بينما ستبقى دور العرض المتبقية فقط كمكان تجمع لحضور فعاليات جماعات المعجبين. "(19)

لكن سينتهي هذا في لحظة ما، وتعود الأصوات المبدعة مرة أخرى في الانبثاق من جديد، "كما حدث في التسعينات، وساءت العلاقة ما بين الجماهير والسينما بعد سنوات طويلة من العروض السيئة، وحينها، اخترق مخرج شاب اسمه كوانتن تارينتينو السينمات بوعي عميق بتاريخ السينما وحدس مكنه من إعادة السينما في مكانها الصائب على رأس الثقافة الشعبية". تحقق الجزء الأول مما قاله نولان في الحاضر بشكل كبير، فيا ترى، هل سيأتي تارانتينو هذا العقد في أي وقت قريب؟ (20)