شعار قسم ميدان

مهرجان الإسماعيلية للأفلام.. عندما تصنع الكاميرا فارقا

midan - أفلام

وقفت الكاميرا لتسجل لحظة وصول القطار إلى المحطة وتوافد الركاب على إحدى ضفتي شريط السكة الحديد. راقبت الحدث كشاهدٍ صامت، لا يفعل شيئًا سوى ابتلاع كل ما تقع عليه عيناه وتسجيله فوق ذاكرة محرومة من النسيان. لاحقًا، ستغادر ذكريات الكاميرا محطة القطار، لتنطلق على هيئة أشرطة من ضوء وظلال تتضافر على إحدى حوائط الجراند كافيه بباريس حيث عُرَض فيلم "وصول القطار إلى المحطة" للأخوين لوميير لأول مرة.(1)

 

تقول الأسطورة أن زوار الجراند كافيه ارتاعوا من مشهد القطار وفزوا من مقاعدهم لظنهم أنه قادم نحوهم. لا نعرف حقيقة مدى صواب تلك القصة، لكنها حتى وإن لم تكن سوى شطحة من خيال أحد أبناء ذلك العصر، فستظل تبرهن لنا على السحر الخاص جدًا الذي تمتلكه شاشة العرض.

  

  

مر قرن كامل على تلك الحادثة، نضجت السينما فيه وصارت الفن الأكثر جماهيرية في عصرنا الحالي. وبينما اتجه معظم الجمهور للسينما الروائية، ظلت الأفلام التسجيلية، التي وضع "وصول القطار إلى المحطة" وأفلام الأخوين لوميير الأخرى البذرة الأولى لها، لا تلقى سوى النزر اليسير من الاهتمام. على مدار العام، تحاول مجموعة من المهرجانات السينمائية حول العالم قلب هذا الوضع لتضع السينما التسجيلية مجددًا في بؤرة الحدث. من تلك المهرجانات كان مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، والذي وقعت دورته العشرون في الفترة بين 11 و17 من شهر إبريل\نيسان الحالي.

 

يعود تاريخ المهرجان لعام 1991، حين أسسه مخرج الأفلام التسجيلية المصري هاشم النحاس، رغبة منه في كسر مركزيتين: مركزية الأفلام الروائية في فن السينما، ومركزية القاهرة كمدينة وحيدة تنصب فيها كافة الفاعليات الثقافية؛ ومن هنا تم إنشاء المهرجان بمدينة الإسماعيلية. وقد جاء في دورة المهرجان العشرون كسر لمركزية جديدة بتولي الناقد ذو الثلاثين عامًا "أندرو محسن" الإدارة الفنية للمهرجان، ما مثل خروجًا عن النمط المعتاد في اقتصار إدارة المهرجانات في مصر فقط على الأكبر سنًا. (2)

 

وقد جاء مهرجان الإسماعيلية بطيف واسع من الأفكار والموضوعات في أفلامه التي تنوعت بين التسجيلي والقصير وأفلام التحريك. ظل في ذلك الطيف التركيز الأكبر في الأفلام التسجيلية على قضايا الإنسان، سواء ذاك الذي لا يزال يصارع ليعيش حياة آدمية، أو من تخطى تلك المرحلة ليواجه مصاعب من نوع آخر. فيما يلي، سنستعرض بعض أهم الأهم الأفلام التي تم عرضها في برامج المهرجان المختلفة.

  

أوجاع المقهورين

يقول المخرج والناقد الفرنسي الشهير جان لوك جودار: "الفوتوغرافيا هي الحقيقة، والسينما هي الحقيقة 24 مرة في الثانية الواحدة". (3)ورثت السينما من فن الفوتوغرافيا السابق عليها اتجاهها إلى تصوير الحياة كما هي؛ لكن بينما حلقت السينما الروائية بعد ذلك في آفاق أبعد، ظلت السينما الوثائقية على ولائها للواقع المُعاش.

 

ظهر هذا واضحًا في الوثائقيات التي عُرضت بالمهرجان. ففي فيلم "امرأة أسيرة" A Woman Captured، ، تتبع المخرجة "بريندت توزا ريتر" الخادمة الهنغارية "ماريش" التي وقعت في أسر الخدمة الإجبارية لمخدومتها إيتا، وتعرضت في إثر هذا على شتى طيوف الامتهان اللفظي والجسدي.

  

  

وبالرغم من أعوامها التي لم تتجاوز الثلاثة والخمسون، تظهر ماريش وقد حفرت أعوام الخدمة الإجبارية الإحدى عشر أخاديد عميقة في وجهها المتغضن، مضيفة عُمرًا آخر على عمرها؛ وبالرغم من كونها أم لعدة أطفال، فلم نجد طوال الفيلم أثرًا يذكر سوى لواحدة منهم، لتقف ماريش هكذا وحيدة وعزلاء أمام قهر مخدومتها؛ حتى تتدخل المخرجة. 

 

على العكس من كاميرا لوميير التي وقفت على الحياد لترقب الموقف من بعيد، محت كاميرا ريتر المسافة بين العدسة وموضوعها، ليتحول تسجيلها لحياة ماريش ومعاناتها إلى تدخل فعّال أدى في النهاية لانقاذها. فلم تكتفي ريتر بالرصد السلبي لماريش، بل امتدت يدها لما وراء الكاميرا لتشجعها على الهروب لحياة أفضل.

 

وفي إحدى أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا، نرى ماريش بعد هروبها وهي لا تمتلك من الدنيا سوى بضعة يوروهات من المفترض أن تكفيها لأجلٍ غير معلوم تستقل التاكسي وهي تصارع البكاء، وتستسلم له في النهاية.  في تلك اللحظة، لم يكن معها سوى ريتر التي شاركتها المقعد الخلفي لتوجه لها الحديث قائلة: "أقسم أنني لا أثق بأحدٍ سواكِ". وفي مشهد آخر كانت ريتر هذه المرة هي من توجهت بالحديث إلى ماريش لتقول لها على لسانها وعلى لسان كل المشاهدين: "نحن نحبك يا ماريش". كانت طاقة الحب الغير مشروط تلك التي شعر بها حتى المشاهدين على بعد مئات الأميال في قصر ثقافة مدينة الإسماعيلية الصغيرة هي ما تمكنت من تحرير من عبوديتها الحديثة. حاز فيلم "امرأة أسيرة" على جائزة لجنة التحكيم في المهرجان

   

  

وفي الوقت نفسه، لم تستطع الدول العربية مجتمعة تحرير "أبا أياد" وغيره من آلاف اللاجئين الفلسطينيين من إقامتهم الجبرية بمخيم "عين الحلوة" بلبنان حيث وقعت أحداث وثائقي "عالم ليس لنا" للمخرج مهدي فليفل. عُرَض الفيلم المنتَج عام 2012 في خلال "البرنامج الذهبي" الذي يعاد فيه عرض الأفلام الفائزة في السنوات السابقة. وفيه، يتبع المخرج، ابن عين الحلوة الذي ساعده جواز سفره الدنماركي على الطيران بعيدًا عنها، حيوات عائلته وأصدقائه العالقين داخلها. وبينما وجد الجيل الأكبر سنًا الذي عاش  طفولته بفلسطين في البقاء سبيلًا للتمسك بحلم العودة يومًا ما، لم ير الجيل الأصغر في المخيم سوى ساحة واسعة من الخراب تلتهم حياتهم يومًا تلو الآخر.

 

 في لقطاته الافتتاحية، شدد المخرج على هذا المعنى بلقطة من زاوية عين الإله حلقت فوق المخيم وصوت المخرج في الخلفية يفسر لنا ما نرى. على أحد جوانب الصورة، وقعت المقابر التي كانت يومًا ما أصغر، لكن بما أن عدد الأموات أخذ في التزايد، شغلت المقابر رقعة أكبر لتستوعب كل تلك الجثث. هكذا كان وجود سُكان عين الحلوة، حياة مخنوقة بالقيود معدومة الفرص تسير في طريق واحد مستقيم إلى الموت.

  


   

أما باولا كليمنتي، الإيطالية ذات ال49 عامًا، فلم تجد أي كاميرا تصور معاناتها وهي بعد على قيد الحياة. ماتت باولا في أحد أيام يوليو الحارة من عام 2015 نتيجة الإرهاق الشديد الذي أصابها لساعات عملها الطويلة في ظروفٍ غير آدمية. وقد لجأ المخرج الإيطالي "بيبو ميزابيسا" للخيال حتى يعيد خلق يوم باولا الأخير في فيلمه القصير "يوم العمل" (Day Labor).

 

نعرف منذ الدقائق الأولى أن باولا على وشك الموت؛ فمنذ بداية الفيلم وإلى نهايته نسمع سرد أقرب للقصصي على لسان الشخصيات يصفون فيه يومها الأخير. نكتشف بعد آخر لقطة أن ما استمعنا إليه لتونا على لسان الممثلين كانت شهادات حقيقية من زوج باولا وزملائها للعمل مسجلة في ملفات الشرطة عمّا حدث في ذلك اليوم. عن طريق ذلك السرد والبناء غير التقليدين، حقق ميزبيسا مزجًا فريدًا بين الواقع والخيال استطاع عبره إبراز معاناة حقيقية جدًا لملايين البشر الرازحين تحت وطأة عبودية ترتدي ثوب العمل.

   

أحلام الفنانين

في سياقٍ مختلف، جاءت وثائقيات أخرى تحمل حيوات مختلفة كثيرًا، لا يحركها صراع البقاء الأساسي كماريش وأبي إياد وباولا، بل تدور أيامها حول تحديات من نوع آخر، كإيجاد الكلمة المناسبة تمامًا مثلًا.

 

في فيلم "الأبدية ويوم" لثيو أنجلبولوس، يروي بطل الفيلم ألكساندر لصبي صغير قصة الشاعر الذي اشترى الكلمات بالمال. عاش الشاعر خارج وطنه لسنوات طويلة حتى نسي لغته الأم، وعندما وقع وطنه في محنة، وجد أن لا شيء يستطيع أن يخدمه به أفضل من العودة وتعلم لغته من جديد ليعطي كفاح أبناء الوطن صوتًا عبر أشعاره. ذهب الشاعر ليعيش في أحد القرى الصغيرة، وهناك، أعلن أنه يشتري الكلمات؛ أي شخص يعرف أي كلمة غريبة أو جديدة لم يكن عليه سوى الذهاب للشاعر ليلقيها ومعناها على مسامعه، ويعطي له الشاعر في المقابل نقودًا.

   

  

أما في وثائقي "الحلم بموراكامي" لم تضطر المترجمة الدنماركية "ميت هولم" لدفع المال مقابل الكلمات، فقد أعطتها عقود طويلة من ترجمة روايات الكاتب الياباني هاروكي موراكامي إلى الهولندية خزينة لغوية ضخمة. لكن هذا لم يمنعها من السفر لطوكيو ومعايشة البلد حيث تعيش شخصيات رواية موراكامي الأولى "استمع للرياح تغني" والتي تعمل على ترجمتها، باحثة داخل الحانات وبين الأزقة عن التعابير اللغوية الأنسب.

 

ومن لغة الكلمات للغة الصورة، نقل المخرج نيتيش أنجان تجربة هولم في التأرجح بين لُغتين، مستخدمًا في هذا معجم لغوي بلا حروف: "أرى في السينما لغة، لكن عوضًا عن الحروف والكلمات مكتوبة تمتلك صورًا وأصواتًا وموسيقى. وفي الصورة  يوجد الكثير من العناصر والدوافع، فالفيلم تمامًا كالنص الأدبي، له إيقاع، وفي كليهما لا تقول أبدًا لا الكثير ولا القليل". (4) وقد برع نيتيش في المحافظة على ذلك الإيقاع  وبث عبره صورة مليئة بالجماليات.

 

  

ولم يكن الوسيط الذي استخدمه الإماراتي "حسن الشريف" لخلق عالمه الفني الخاص لينًا كالكلمات؛ فقد اختار الشريف أن يعبر عن نفسه خلال الطريق الوعر للفن المفاهيمي. لاقى الشريف صعوبات من نوع خاص، فالدول العربية لا تمتلك حتى الآن وعي يذكر أو فهم بدائي بماهية الفن المفاهيمي والفنون الحداثية بشكل عام. في فيلمها المميز "آلات حادة"، ترصد المخرجة الإماراتية "نجوم الغانم" الرحلة الخاصة جدًا لحسن الشريف الذي رحل عن عالمنا العام الماضي عبر ذلك الفن ذو الخصوصية الشديدة. في ختام المهرجان، حاز "آلات حادة" على جائزة أفضل فيلم.

 

عند مقابلتنا مع المدير الفني للمهرجان الناقد أندرو محسن، أكد لنا تلك النزعة التي سيطرت على الاختيارات في تسليط الضوء على حياة أبطالها لتجعل الشخصية تقود الحدث قائلًا: "في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة أردت أن يكون هناك خط تتابع الأفلام عبره الشخصيات أكثر من متابعتها لموضوع بعينه. ففي فيلم A Woman Captured على سبيل المثال، نرى فكرة العبودية في العصر الحديث فقط عبر شخصية البطلة، عوضًا  عن إجراء مقابلات مع العديد من الخبراء يسردون عبرها آرائهم. أخذ الفيلم شخصية وبنى عليها، وكذا فعل فيلم "Lots of Kids" وفيلم  Thank You for The Rain. في كل تلك الأفلام نجد الشخص هو المحور الأساسي الذي يدور حوله الحدث. "

 

عبر وسائر أفلام مهرجان الإسماعيلية، نرى فن الأفلام الوثائقية وقد قطع طريقًا طويلًا من كاميرا لوميير المثبتة أمام مصنع؛ فما عادت الكاميرا الآن تكتفي بالمراقبة من بعيد، بل صارت تتدخل وتحاول أن تحدث فارقًا تغير عبره دفة الأحداث، أو أن تضيف لنا فهمًا أعمق لدواخل أبطالها من الحياة العادية بعد أن كانوا بالنسبة لنا مجرد ظلال تقع على الهامش.