شعار قسم ميدان

فاز بالأوسكار وانتحر!.. لماذا يغزو اليأس الناجحين أيضا؟

midan - malik bendjelloul

في وقت متأخر من بعد ظهر يوم 13 مايو/أيار 2014، وقف شاب ذو ملامح دقيقة وشعر ناعم وقصير عليه لمسة لافتة من اللون البني على منصة محطة سولنا سنتروم في ستوكهولم، السويد، وبدأ بانتظار خط القطار الأزرق. كانت تلك ساعة الذروة، والمحطة، واحدة من أعمق محطات ستوكهولم، كانت تعج بالمسافرين الذين يغادرون المدينة. قرب الجزء السفلي من السلالم الكهربائية المتحركة الطويلة، كانت الحوائط تمتلئ برسومات تبدو كمدخل كهف، بالإضافة إلى كثير من الرسومات الريفية المتقنة من فترة السبعينيات. تلال خضراء مورقة ترصّعها أشجار السرو، ينورها قمر أصفر عملاق يرتفع وسط السماء الشاسعة ذات اللون الأحمر الداكن! زخارف من الحياة السويدية تغطي هذا المشهد الإسكندنافي. حاملو منشار قطع الأشجار الكهربائي يسيطرون على طائرة صغيرة بمحركات التربو على وشك الطيران. عازفو الكمان يقفون بانفرادية يتأملون الزحف العمراني للمدينة. على نهاية الرصيف توجد إشارة "قف!"، محذرة الركاب "منطقة سكة حديد غير مصرّح بعبورها للأفراد".

 

كان هذا من نوع الأماكن التي قد يجدها مالك بن جلول مثيرة للاهتمام، الصحفي والمخرج السويدي البالغ من العمر ستة وثلاثين عاما والذي حصل قبل عام واحد من هذا التاريخ على جائزة الأوسكار عن فيلمه الوثائقي "البحث عن رجل السكّر". يشتهر نظام مترو ستوكهولم بأنه أكبر معرض فني جماهيري في العالم، 68 ميلا من الرسومات، الفسيفساء والمنحوتات. كان للمحطة مسعى إنساني فني ومشهد حضري خيالي استثار فضوله وغذّى خياله. لكن، في ذلك اليوم، ومع اقتراب القطار، تم تحويل المشهد الخلاب للمحطة إلى لحظات مروعة رسمت الدقائق الأخيرة في حياة المخرج الشاب. مع وجوه مسافري ما بعد ظهر الثلاثاء وهي تشب من فوق مقاعدها لرؤية ما حدث، كان مالك بن جلول قد ألقى بنفسه تحت عجلات القطار.

 

بعد عام من بحثه عن رجل السكّر "سيكستو رودريغيز"، الفنان المنسي، لم يُصدق العالم ما حدث، وأُصيب الوسط السينمائي بحالة من الذهول. كيف يمكن لمبدع شاب أن يُنهي حياته وهو في أوج عظمته الفنية، خصوصا عندما بدا كل شيء قابلا للتحقيق أخيرا؟ كيف أمكن لرجل تشع منه الطاقة التي مكنته من صنع فيلم "البحث عن رجل السكّر" أن يسقط في شراك اليأس دون حتى أن يكون حوله من يرشده؟

 

   

أصدر المغني وكاتب الأغاني الأميركي من أصل مكسيكي رودريغيز ألبومه "كولد فاكت" في ديترويت أواخر الستينيات. فشل الألبوم فشلا ذريعا ثم اختفى المغني المغمور أصلا. التحم رودريغيز بأسلوبه مع المنهج الذي يتبعه بوب ديلان في أغانيه تلك الفترة، لذا شكّل اقتفاء أثر هذا الرجل عاملا حماسيا كبيرا بالنسبة لمعجبيه. قال بن جلول إنّ الفيلم يروي قصّة رجل لم يدر كم هو مشهور، حاول إصدار أكثر من ألبوم ولكنه لم يبع منهم أي نسخة في أميركا.

   

قرر رودريغيز العمل في مجال البناء وترك الفن نهائيا، وأثناء ذلك كانت ألبوماته تحقق نجاحا مدوّيا في جنوب أفريقيا حين أصبح هناك أشهر من فرقة رولينج ستونز، حقق أعلى المبيعات لمدة عشر سنوات وصار نجما حقيقيا ولكنه لم يكن على دراية بذلك كله. يهب بن جلول وقته وتفكيره من أجل إعادة اكتشاف رودريغيز وأغانيه ومنح حياة جديدة له في الوقت الذي يقرر هو أن يُغادر الحياة بقرار واعٍ منه ولا رجعة عنه. منح بن جلول الحياة لا لرودريغيز وحده، بل لكل فنان مغمور ولكل مُتفرج عشق فيلمه، ثم سلب نفسه هذا الحق.

      

undefined

  

كان رودريغيز على وشك الصعود إلى المسرح في مسقط رأسه في ديترويت عندما سمع النبأ، كان الحفل مكتظا بالمعجبين والفضل يعود لمالك بن جلول الذي انتحر قبل دقائق في السويد. يظهر رودريغيز أمام الحشود ويبدأ بالغناء دون أن يذكر ما سمعه للتو ولا حتى التلميح له، وعندما ينتهي الحفل سيبكي رودريغيز على الموهبة التي اكتشفته والتي رحلت دون سابق إنذار، رجل في منتصف الثلاثينيات من عمره أنجز فيلما وحيدا في حياته فنال عنه الأوسكار ثمّ انتحر.

  

في الرابع من مارس/آذار عام 2013 وقف الممثل الأميركي بن آفلك على منصة التتويج وتلا أسماء الأفلام المتنافسة على فئة أفضل فيلم وثائقي، كان من بينها فيلم فلسطيني وآخر إسرائيلي وفيلم بن جلول، ثم يعلن آفلك النتيجة واختيار اللجنة "أفضل فيلم وثائقي.. البحث عن رجل السكّر". يقف مالك وعلى وجهه ابتسامة خجولة، لم يكن مُحبا للشهرة رغم تحوله إلى أيقونة في السويد وفي عالم الإخراج الوثائقي على حدّ سواء بعد نيله هذا التكريم. شاب نحيل بعيون بنيّة وحلّة متواضعة يستلم تمثاله الذهبي ويقف ليلقي خطبة بسيطة "شكرا للأكاديمية على هذا الكرم، وشكرا لأفضل مُغنٍّ في العالم"، يضحك ثم يغادر المشهد بهدوء.

    

بعد وفاته أدلى أحد إخوته بتصريح لوسائل الإعلام قال فيه: "كان مالك يُعاني من اكتئاب لفترة قصيرة، ولكن سيبقى السؤال الجاثم على صدري للأبد دون إجابة هو: لماذا فعلها؟". تمتع بن جلول بشخصية محبوبة، فقال أحدهم: "لا يمكنك الحديث معه دون أن تقع في حبه"، لا يوجد لديه أي سجل يدلل على كونه مريضا نفسيا أو أنه يمرّ بأزمة عصبية. يواعد مُخرجة وثائقيّة تعرف عليها أثناء تجواله حول العالم لاستلام تكريماته العديدة واتفق معها لإخراج فيلم مُشترك لم يرَ النور أبدا.

  

    

قبل استلامه للأوسكار قال لأحد الصحافيين: "لو لم أحصل على الجائزة سأعود للبحث عن قصّة أخرى لتصويرها، وإن حصلت عليها، فلن أقبل إلا بأفضل عرض يأتيني في هوليوود"، ولكن نجوميّة مالك بدأت منذ السابعة من عمره عندما ظهر في أحد البرامج التلفزيونية فترك أثرا رافقه طيلة عمره، ثمّ كان نجما في كليّته قبل أن يكون عضوا في فرقة موسيقيّة لا تسعى هي الأخرى سوى للنجومية، ثم عمل مُراسلا صحافيا لأحد القنوات السويدية فقام بإجراء مقابلات تلفزيونية مع عدد كبير من النجوم الحقيقيين.

 

مع ذلك لا يمكن فهم دوافع مالك بن جلول والتي أدت به إلى الانتحار سوى كونه ضحية للانكشاف، وضحية للشهرة التي لم يحتملها. كان بن جلول مُجتهدا حقيقيا ومُعلّما لكل صانعي الأفلام الوثائقيّة في العالم عندما سافر إلى قرابة 16 بلدا حول العالم فقط من أجل البحث عن قصّة جديرة بتتبعها، وعندما استمع لأغاني رودريغيز وعرف قصّته، قرر تتبعها، ليكتشف أن الجماهير التي ظنّت رودريغيز قد توفي تاركا لهم ألبومين غنائيين، لا يزال حيًّا ويعمل في مجال البناء. حينها قرر بن جلول استغلال طاقته كلها من أجل تسليط الضوء على واحد من الأشخاص الذين سببوا السعادة لملايين الناس، قبل أن يفقدها هو.