شعار قسم ميدان

"مشروع فلوريدا".. تخيل أن تشاهد العالم بعيون أطفال فقراء

midan - the florida project film
لا شيء حقيقي يستطيع أن يضع حدًا لحيل ومغامرات ألفالفا وسبانكي وباكويت ودارلا في شوارع وأزقة المدينة. فعندما قرؤوا قصة علاء الدين والمصباح السحري، سارعوا في جمع كل الأواني التي تمكنوا من الوصول إليها وأخذوا يفركونها آملين أن ينطلق من إحداها الجني. أما عندما تسللوا لباحة خلفية لا يسكنها سوى حمار وحيد، قاموا بتحويله لمحرك يُشغّل أرجوحتهم التي صنعوها من الأخشاب.

 

وقعت تلك المغامرات ضمن أحداث عرض "الأوغاد الصغار" (Little Rascals) الذي نال شهرة واسعة في ثلاثينات القرن الماضي بأميركا عندما عُرَض على هيئة أفلام قصيرة. ومع كل اللهو والمتعة التي خلقتها مجموعة الأصدقاء، كان يمكنك أن تنسى بسهولة أنهم ليسوا سوى أطفال فقراء يعايشون أحد أسوأ الظروف الاقتصادية التي مرّت بها الولايات المتحدة في تاريخها الطويل. لكن إن قمت بالنظر بعيدًا عن وجوههم البريئة وركزت على هيئتهم، ستتمكن بسهولة من تخمين حقيقة الوضع، فقد كانوا يسيرون معظم الوقت بملابس مهلهلة تعلوها طبقات من التراب والأوساخ.

      

   

نظرًا للتقنية آنذاك، صُوّرت الأفلام كلها بالأبيض والأسود. ولهذا، سنظل نتساءل كيف كان صانع العمل "هال روتش" ليختار تصوير "الأوغاد الصغار" بالألوان؛ هل كان سيتسلم لقتامة فترة الكساد العظيم ويصبغ الشاشة بألوان داكنة؟ أم هل كان سيؤثر أن تلتقط الكاميرا محيطها بأعين أبطاله الصغار فيلوّن كل ما تصوره بظلال الطفولة المبهجة؟ لسوء الحظ لن نعرف إجابة هذا السؤال أبدًا، فقد توقف بث العرض عام 1944.(1) لكن المخرج الأميركي "شون بيكر" قرر في العام الماضي أن يمسك الكاميرا من حيث توقف "الأوغاد الصغار" ويُصوّر مجموعة أخرى من الأطفال يلهون على خلفية الفقر في فيلمه الأخير "مشروع فلوريدا" (The Florida Project).

     

كيف تروي قصة عبر الفراغات؟

 

لم يكن الموضوع الذي اختار أن يُصوّره شون بيكر في فيلم "مشروع فلوريدا" بالجديد أو الغريب على مسيرته الفنية، فطالما اهتم في أفلامه السابقة بتصوير الفئات الأقل حظًا والتي قلما احتلت البؤرة في سينما هوليوود. فدار فيلمه الماضي "ستارليت" حول ممثلة أفلام جنسية في مقتبل العمر، وصوّر فيلمه "تايك أوت" حياة مهاجر غير شرعي يعمل بمحل طعام في مدينة نيويورك. بينما ظل فيلمه الأشهر حتى "مشروع فلوريدا" هو "تانجرين"، وذلك لتصويره بالكامل على كاميرات موبايل آي فون، ما أعطى للفيلم لمسة واقعية ومثّل نقلة تقنية ساهمت في كسر الحواجز بين هواة السينما ومحبيها وبين صناعة الأفلام الجادة. ولم يحد بيكر عن ميّله لتصوير المهمشين في فيلمه "مشروع فلوريدا" الذي لم يقل استثنائية عن فيلمه السابق "تانجرين"، لكن هذه المرة، لأسباب مختلفة كثيرًا.(2)

  

يتبع الفيلم حياة الطفلة موني ومغامراتها مع صديقيها سكوتي وجانسي في صيف أحد الأعوام. لا يسكن الثلاثة منازلًا عادية، بل يعيش كل منهم مع والدته -جدته في حالة جانسي- داخل غرفة نُزُل متواضع على أطراف مدينة فلوريدا على بعد كيلومترات قليلة فقط من "عالم ديزني". وفي الوقت الذي يلهو فيه آلاف الأطفال بأكثر الألعاب بريقًا غير بعيد عنهم، يُحوّل الثلاثة، الذين بالكاد تستطيع أمهاتهم دفع الإيجار، كل شيء يصادفونه للعبة، تمامًا كما فعل الأطفال في "الأوغاد الصغار" قبلهم بقرابة القرن.

  

يقول بيكر عن هذا: " ترك "الأوغاد الصغار" أثرًا على مسيرتي الفنية بالكامل، فطالما أردت أن أصنع نسختي الخاصة منه. معظم الشخصيات في "الأوغاد الصغار" كانوا يعيشون في فقر، لكن التركيز كان على مباهج الطفولة، على الفُكاهة التي يخلقها مشاهدة وسماع الأطفال. وهكذا فكرنا في استغلال الفرصة لنصنع "أوغاد صغار" تجري أحداثه في الحاضر".(3)

  

واجه بيكر عند تصويره الفيلم ذلك التساؤل الذي طرحناه منذ قليل حول الطبيعة اللونية للفيلم. وكإجابة عنه، اختار بيكر الانحياز لرؤية الأطفال، لتنبض كدراته بالألوان الساطعة لحشائش خضراء على خلفية غمام أبيض وسماء زرقاء تسطع في وسطها شمس تنير كل ما حولها؛ وفي المركز، تجري ثلاثة أجسام صغيرة ترتدي قمصان فضفاضة وسراويل قصيرة مصبوغة كلها بظلال الصيف الباعثة على البهجة. لكن في الحقيقة، لم يكن في واقع أولئك الثلاثة أي شيء مبهج على الإطلاق.
        

undefined

  

فلا تستطيع هالي الشابة الصغيرة والدة موني، أن تجد وظيفة لائقة بسبب سجنها في السابق ما يجعل من إيجاد المال لدفع الإيجار آخر كل أسبوع مغامرة غير محسوبة العواقب. ويقضي سكوتي نهاراته يجوب الأجواء وحيدًا مع صديقتيه لأن والدته تعمل طوال اليوم نادلة في مطعم. أما جانسي، فقد جاءت بها والدتها للوجود وهي نفسها بالكاد تخطت طور الطفولة في عمر الخامسة عشر، لتعتني بها جدتها في غياب تام للأم.

   

لا يجعل بيكر من تلك التفاصيل أبدًا موضع تركيزه، فقط ينثرها هنا وهناك على طول الحبكة وعرضها؛  فالفيلم الذي حاول قدر الإمكان محاكاة رؤية الأطفال للعالم، يضع مثلهم الأشياء الحزينة على جنب بينما يتفرغ لمتابعة لعب الأطفال ولهوهم. لكننا، نحن البالغون عندما نشاهد الفيلم، نشعر بزخم كل تلك التفاصيل المتروكة في الخلفية تنسج في وعينا دون إدراك صورة مغايرة تمامًا لتلك المعروضة على الشاشة. يخلق الفيلم بهذا قصتين ذوات إيحاء شعوري مختلف تمامًا على مستويات مختلفة؛ فتدور الأولى حول مغامرات مجموعة من الأطفال فوق حشائش فلوريدا، وتتمحور الثانية حول الفقر الشديد الذي تعانيه أمهاتهن في أحد موتيلاتها، لتعيش القصة الثانية فقط في ثنايا وهوامش الأولى، وتأتي في النهاية ككابوس مزعج لتسيطر تمامًا على الوضع.

  

في هذا، تتبع القصة تقنية سرد أسماها الأديب الأمريكي "إرنست هيمنجواي" بـ"جبل الجليد"؛ فقد صوّر همينجواي القصة بجبل جليد لا يفترض أن يظهر سوى أعلاه فقط بينما تغوص أعماقه فيما وراء الحبكة، تاركة خلال الفراغات معانٍ أعمق مما يمكن أن تخلقها الكلمات. (5)(4)

   

فعل بيكر شيء قريب الشبه في فيلمه، تاركًا أكثر المشاهد إيلامًا دون أن تلتقطها كاميراه قط؛ فندرك أن هالي قد انزلقت للعمل بالدعارة دون أن يأتي مشهد يصورها وهي تفعل هذا، ونعرف أن موني سيتم أخذها بعيدًا عن والدتها دون أن نراها وهي تختفي في الأفق. كثير من المخرجين الآخرين كانوا ليصوروا تلك المشاهد بأكثر الطرق درامية، آملين أن يستدر هذا دمعة أو اثنتين من عين المشاهد. لكن فوّر أن يمسح هذا المشاهد الدموع عن وجهه مع انتهاء الفيلم، سيمسح معها التجربة بأكملها والتي لن تكون حينها شيئًا مختلفًا كثيرًا عن عشرات الأفلام الاكليشيهية التي رآها سابقًا عن الفقراء. اختار بيكر أن يتخذ الطريق الأصعب، اختار أن ينأى عن سكة الابتزاز العاطفي المعهودة ويثقب في هذا قصته لتشع معانيها عبر الفراغات. (6)

      

undefined

  

الواقع كمسرح للخيال

كما تضافرت الأحداث مع المسافات لتخلق سويًا قصة "مشروع فلوريدا"، اتخذ الخيال من الواقع مسرحًا يدور على خلفيته، فعمد الفيلم في كثير من عناصره إلى الحياة نفسها مستوحيًا منها والتفاصيل والأنماط.

   

فابتعد الفيلم في سرده عن نسق "بداية – عقدة – حل"، محررًا حبكته من تلك القيود ليتبع أبطاله الأطفال بتلقائيتهم أينما اتجهوا. وقد قال شون بيكر عن هذا: " طالما اعتدنا على أسلوب هوليوود في صناعة الأفلام واصرارها على اتباع بناء الثلاثة فصول وتطوير الشخصيات. حاولنا أن نكسر هذا قليلًا لنجعل المُشاهد يشعر كما لو أنه يقضي الصيف مع موني، وأوقات الصيف لا تسير حقًا وفقًا لحبكة"(7)

   

كما استقى الفيلم قصته نفسها من الواقع، فعندما ذهب السيناريست "كريس ييجروتش" لمقابلة أمه القاطنة غير بعيد عن "ديزني لاند"، لفت نظره الأطفال الذين يلعبون في مرآب أحد الموتيلات دون أن يبدوا له كأبناء سياح. تتبعهم بيجروتش ليرى نفس المشهد يتكرر في نُزُل بعد الآخر، وعندما اكتشف القصة وراءهم، أتت له فكرة "مشروع فلوريدا" التي شاركها المخرج شون بيكر.

  

وقد صوّر بيكر القصة في موتيل حقيقي أوى ما أسماهم بـ"المشردين المَخفيين" حتى يضفي أكبر قدر ممكن  من الواقعية على الصورة والأحداث. ومن سُكان هذا الموتيل أنفسهم أتى الطفل "كريستوفر ريفيرا" الذي أدى شخصية سكوتي، والمجاميع التي ظهرت في أكثر من مشهد منها مشهد انقطاع الكهرباء.(8)

        

undefined

  

أما بالسبة لـ"بري فاناتي" التي أدت دور هالي والدة موني، فلم تكن ممثلة في الأساس ولا سبق لها الوقوف أمام الكاميرات قط. قبل البدء التصوير، عندما رأى بيكر حسابها على انستغرام، أعجبه كيف بدت على الحقيقة قريبة الشبه بشكل مذهل لشخصية هالي المرسومة في مخيلته. فكل الوشوم التي نراها منتشرة على جسد هالي في الفيلم هي وشوم حقيقية دقتها بري في سياق حياتها الفعلية. كما اعتمد بيكر بكثافة على ارتجال ممثليه داخل الأُطر الواسعة لقصة الفيلم حتى يخرج منهم بأكثر الجمل الحوارية تلقائية وطبيعية. (9)

   

وقد أتت كادرات الفيلم بشكل ملحوظ من زاوية منخفضة لتحاكي رؤية الأطفال نفسهم لمحيطهم. وعن هذا يقول مدير تصوير الفيلم "أليكسس زايب: "هذا الفيلم بأكمله يُروى عبر أعين الأطفال، ولهذا أبقينا الكاميرا منخفضة، والألوان بارزة. حاولنا أن نعيد خلق نظرة طفل لأرض فلوريدا-كانوا ليروها كمدينة ملاهي مليئة بكل تلك الأماكن المجنونة والألوان، يلهون ويستمتعون بصيفهم بينما لا تزيد المشاكل وما يحدث حولهم من أشياء عن كونها مجرد أمور ثانوية ".(10)

 

وفي بعض الأحيان، كانت أبلغ طريقة استخدمها الفيلم للحكي، هي الفكاهة التي تقف على حدود السخرية المؤلمة؛ فيحمل النُزُل الذي تعيش فيه موني اسم "قلعة السحر" (Magic Castle)، وكأنه استعارة خفية بها حنين لزمنٍ آخر كانت فيه الفتيات الصغيرات في القصص أميرات على قلاع حقيقية، في الوقت الذي لا يزيد وجود موني فيه ب"قلعتها" عن وجود هامشي مهدد في أي لحظة بالطرد إلى الخارج.(11) وفي حين نرى موني تجوب الأرجاء ببراءة لا تخلو من شغب الأطفال المعتاد، نرى في أمها التي انتهت بها الطرق للعمل كعاهرة صورة لموني في مستقبل لن يبعد عنها كثيرًا ما لم يحدث شيئًا لتغيير الدفة. في نهاية الفيلم، يحدث ذلك الشيء، لكنه يتركنا في حالة من الغموض دون أن نكن واثقين حقًا من أن موني متجهة بالضرورة لحياة أفضل.