"باشا مصر".. مبالغات كلبش التي لم تصل إليها مارفيل
"ضابط شرطة"، كانت هذة العبارة هي الإجابة الأكثر ترديدًا على ألسنة الأطفال المصريين، إذا ما بادرهم أستاذ الفصل أو ضيف ثقيل الظل بالسؤال الشهير: "نفسك تطلع إيه لما تكبر يا حبيبي"؟ أن تكون ضابط شرطة هي الصورة المثالية في الوعي الجمعي لأطفال مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث ضابط الشرطة هو مرادف للبطل الذي يرد المظالم ويقهر الأشرار، خيال بكر في عقل طفل لم تجبره الأيام بعد على الاصطدام برجال الشرطة.
الأمر الذي تغير وبنسبة كبيرة مع تلك الثورة، آلاف الشباب الذين كانوا يحلمون قبل وقت قصير بارتداء البذة العسكرية، أصبحوا يقفون مباشرة في مرمى نيرانها، ليس ذلك فقط، بل اختاروا تاريخ اليوم بوعي وقصدية، راغبين في تحويل عيد الشرطة، يومًا مشهودًا لتلقينهم درسًا.
لكن الدرس الأهم وربما الوحيد الذي نجح فيه هؤلاء الثوار، بعد انتهاء كل السجالات، كان انتزاع صورة الشرطي كمرادف للبطل من خيال الأطفال والكبار، ومنحها لمئات وآلاف الشباب من ضحايا وشهداء.
في مؤتمر بث على الهواء مباشرة، خاطب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مجموعة من الفنانين، وحضّهم على "توعية" المواطنين، "انتو هتتحاسبوا على الكلام ده قدام ربنا يا أستاذ أحمد"، مخاطبًا الفنان أحمد السقا.
الأرشفة التي حدثت لوقائع عديدة من العنف المفرط والقتل خارج إطار القانون، والتي وقعت فيه الشرطة المصرية مرارًا، هو ما دفع السيسي للتنبيه على الفنانين بتوعية الناس بما يحدث، فالصورة لا تكذبها أو تخفي أثرها إلا الصورة ذاتها، التقطت الشئون المعنوية طرف الخيط الذي امتد سريعًا واتضحت معالمه في مجموعة كبيرة من الأعمال الدرامية في الآونة الأخيرة، ونجحت مثلًا في الحصول على خدمات الممثل محمد رمضان، ليس كمجند في الجيش المصري كما كان يفترض، بل ممثلا رئيسيًا في أعمال تم إنتاجها داخل الشئون المعنوية.
لكن من بين كل الأعمال التي تدور حول فكرة محاربة الارهاب كان العمل الأهم هو كلبش، ليس فقط من أجل النجاح الكبير الذي حققه المسلسل في موسمه الأول، بل لأنه يدور بالأساس عن ضابط شرطة، فهو يعيد تشكيل الوعي الشعبي بضابط الشرطة وما يقوم به، يستغل المسلسل في الجزء الثاني الشعبية التي حصل عليها "سليم الأنصاري" في الجزء الأول الذي لم يظهر فيه بوصفه ضابط شرطة، بل ضابط شرطة مطارد من قبل الشرطة لمحاكمته على جريمة لم يرتكبها.
هذة الشعبية التي اكتسبها سليم الأنصاري لكونه مظلومًا، يتم استثمارها في الجزء الثاني، لكن هذة المرة بوصفه ضابط شرطة، يعتمد في طريقة أدائه لعمله على كثير من أساليب الشرطة المصرية التي تستهجنها المنظمات الحقوقية.
في مشهد نال سخرية المتابعين على السوشيال ميديا، كان يحتمى سليم الأنصاري من رصاص مدفع رشاش "نصف بوصة" خلف باب عربة "أتاري"، ما دفع الكثيرين للسخرية من المشهد، لأن رصاص ذلك المدفع لا يمكنه اختراق العربة الأتاري فقط، بل يستطيع إصابة طائرات ومدرعات خفيفة بإصابات بالغة، لكن لأن سليم الأنصاري، باشا مصر، فهو لم يتعرض لأي أذى، بل ينجح في قتل أغلب أفراد المجموعة الارهابية.
يقرر الأنصاري مطاردة الأخير والإمساك به حيًا حتى ينجح في استجوابه والحصول منه على معلومات، وهو ما ينجح فيه بمشهد آخر نال سخرية المتابعين أيضًا، لأنه بعد أن ينجح في إيقاف السيارة التي يقودها الإرهابي، دون أن يصيب السيارة بأي أذى، يقرر العودة وهو يحمل الإرهابي على كتفيه لمسافة طويلة تصل لعدة كيلومترات داخل الصحراء، تساءل المتابعين، لماذا لم يقد سليم السيارة ليوفر العناء على نفسه؟ والإجابة بالطبع لأنه باشا مصر.
تنتهي هذة المطاردة بوفاة كامل القوة المرافقة لسليم واصابة صهره بعدة رصاصات، بينما لم يُصب هو بأي خدش يذكر، بعد هذه الواقعة بقليل وفي نفس الحلقة الأولى من المسلسل، نرى هجوم رجال "أبو العز الجبالي"، الإرهابي الذي نجح سليم في القبض عليه، يطلقون وابلًا من الرصاص على منزله، تموت زوجته وأخته وتصاب والدته بجروح بالغة، لكن هذة المرة لم ينسَ سليم أن ينال رصاصة في ذراعه الأيسر؛ أراد كاتب العمل أن يضفي بها بعض الواقعية على الأحداث، يوازن من خلالها كم المبالغات في المشهد السابق، فتكون هذة الإصابة مصدر سخرية جديد، لأنه في مشهد لاحق، نراه يحمل نعش زوجته وأخته، ذلك لأن باشا مصر أقوى من الرصاص.
هل هذه هي الطريقة التي من المفترض أن يتعامل بها ضابط الشرطة مع المجرمين؟ كيف يصبح أحد ممثلي القانون إذًا وهو يقوم بممارسات تخالف القانون تحت سطوة بذته العسكرية، ليس ذلك فقط، لكن عندما يستدعيه مأمور السجن ليعنفه على ما فعله، لا يكون غاضبًا لأن سليم اعتدى على بعض النزلاء، بل لأنه كان من الممكن أن يتعرض للضرب على أيديهم، وستكون إهانة للداخلية كلها بحسب قوله.
إنقاذ المظلومين ورفع الظلم عنهم أمر نبيل ويستحق الاحتفاء بالطبع، لكن بالطرق المشروعة، خصوصًا أن ضابط شرطة لن يعجز عن ردع متهمين داخل السجن بالوسائل القانونية، ما يفعله المسلسل هو إضفاء الشرعية على تلك الممارسات، التي لن تمارس فقط بحق المجرمين بل قد تطال مواطنين أبرياء؛ يتم تقديم هذه الممارسات في ثوب الدفاع على المظلومين لتحصل على تأييد شعبي، فيطبع المشاهد مع الأمر نفسه في الواقع، ولا تستوقفه أخبار التعذيب في السجون، لأنه سيتصور بالضرورة أن ذلك التعذيب يقع على مجرمين يستحقون التأديب.
إعادة تقديم صورة الشرطي الذي يلجأ للعنف ويخرق القانون من أجل إنصاف المظلومين أخطر ما قدمه صناع كلبش حتى الآن، فهو يهدف لتطبيع المواطنين مع العنف، ويصنع له غطاءًا شعبيًا، وفي بلد غير مستقر سياسيًا، تتكدس معتقلاته بأكثر من أربعين ألف معتقل، يمكن اعتبار ما يقدمه كلبش عين ما قصده الرئيس المصري في خطاباته لصناع السينما والدراما التلفزيونية في الآونة الأخيرة.