شعار قسم ميدان

أفلام عالمية قصيرة ستبهرك ببساطتها وعمق رسالتها

midan - film
يعتبر الفيلم القصير شكلا سينمائيا مهما يحظى بتقدير كبير على مستوى المهرجانات العالمية الكبرى، وهو المرحلة التي يمرّ من خلالها أيّ مخرج كبير، سواء كان طالبا يحاول إنجاز أول فيلم له، أو هاوٍ كل ما يريده استكشاف موهبة كامنة فيه. من بين العديد من الأشكال الفنيّة التي يتيحها استخدام الكاميرا كان الفيلم القصير مدخلا لكبار المخرجين العالميين.

  

بعدما غزت التكنولوجيا حياة البشر صار بمقدور أي فرد أن يُنجز فيلما قصيرا باستخدام أقل الأدوات تكلفة وأبسطها من ناحية الإمكانيات. لذا لن يكون الحديث عن الأفلام القصيرة لكل من مارتن سكورسيزي وكريستوفر نولان والأخوين كوين هنا سوى مدخلا لاستعراض بساطة الأفكار وأسلوب تنفيذها مع عدم إهمال الجانب الفلسفي أو السياسي الحاضر فيها بقوّة، وهو ما كان صعبا بالنسبة لجيل لم يخدمه التقدم التقني كما يفعل الآن.

   

(مارتن سكورسيزي: الحلاقة الكبيرة – 1967)

    

على وقع أغنية "I Can’t Get Started" لمغني وعازف الجاز الأميركي باني بيريغان يدخل أحد الشباب إلى غرفة حمّام كل شيء فيه أبيض اللون نقي كما توضح الكادرات الأولى لفيلم "الحلاقة الكبيرة" (The Big Shave)، أحد أوائل الأفلام التي أخرجها الأميركي مارتن سكورسيزي عندما كان طالبا.

 

يبدأ الشاب بالتحضير لحلاقة لحيته غير الموجودة أصلا، يجهّز معجون الحلاقة والشفرة الخاصة لذلك بعد أن يخلع قميصه ويبدأ بترطيب وجهه بالمعجون الأبيض. كل شيء يسير على ما يرام وبنظافة وتأنٍّ شديدين حتى يبدأ المُتابع بالتساؤل "وماذا بعد؟"، ليأتيه الجواب سريعا من سكورسيزي عندما ينتهي الشاب من الحلاقة فقط ليقوم بتكرار العمليّة مرة أخرى ولكن هذه المرة تنقلب الأمور إلى ما هو أغرب بمراحل.

 

يفتتح الشاب حمّام دمّ حقيقيا بدءا من خدّيه وصولا إلى ذقنه ثمّ رقبته، فأيّ مكان تطؤه الشفرة تقوم بقطعه بكل بساطة، دون ردّ فعل من الشاب ودون أن يشيح بوجهه عن المرآة. يتنافى لون الدم الغامق مع ألوان المكان وطبيعته، كما يتنافى انفعال تلك الدماء وتدفقها مع هدوء الشاب وعدم اكتراثه. بعد انتهائه من الحلاقة يضع الشفرة على المرحاض فيما تقف قدماه فوق بركة من الدماء.

 

بينما يتقّدم الفيلم بدقائقه الخمسة يعلو صوت بيريغان: "حلّقتُ حول العالم في طائرات/ وفي إسبانيا أسست الثورات/ رسمت القطب الشمالي على لوحات/ ومع ذلك لا أُجيد معك البدايات" راويا مأساته الشديدة وإحباطه المتضخم وإحساسه المتزايد بالخسارة، وهي الحالة التي يستطيع البعض أن يصف بها حال أميركا في ثلاثينيات القرن الماضي (وقت صدور الأُغنية) إبان الكساد الكبير، فيما سرت إشاعات لم تُؤكد بالمطلق بأنّ المقصد من وراء الفيلم هو الحرب الأميركية في فيتنام التي كانت أشبه بحمّام دم هي الأُخرى مع اللامبالاة نفسها التي طفت على وجه الشاب ذي اللحيّة غير الموجودة.

 

صنع سكورسيزي فيلمه هذا بعد الفيلم الطويل الأوّل له الذي استغرق لإنجازه قرابة العامين حاملا عنوان "من هذا الذي يطرق بابي؟" (Who’s That Knocking at My Door) الذي افتتح به أعماله الطويلة عام 1967، ثم قرر التجريب بعمل قصير في أحد المهرجانات من أجل الحصول على منحة لفيلمه القادم، فقرر تصوير فيلم الحلاقة المرعب هذا الذي يُمكن الاعتماد عليه في فهم أُسلوب سكورسيزي الإخراجي اللاحق خصوصا في أعماله التي تطلبت عنفا ودماء. (1)

    

(إيثان وجويل كوين – حديقة التويلري – 2006)

   

ستيف بوشيمي سائح أميركي في واحد من أنفاق مترو باريس يبدو هائما على وجهه وبين يديه كتالوج كبير يشرح له كيف للسائح التعامل مع الأشياء داخل باريس. يجلس الرجل بانتظار القطار الذي تأخّر، يفتح الكتالوج بشكل عشوائي ليجد أمامه كلمات بدت وكأنها كلها موجهة له هو على وجه الخصوص: "مُقدّمة: باريس معروفة بمدينة الأنوار، الثقافة، العشاء الفاخر والمعمار الرائع، إنها مدينة المُحبّين، محبي الفن والتاريخ والأكل.. ومحبّي الحُب".

   

باريس التي تغلفها الصور الرومانسيّة وبطاقات المعايدة المطبوعة بصورة منيرة لبرج إيفل والألعاب الناريّة من حوله تُنير سماء مدينة الموضة والأزياء والحب والجمال (كما في افتتاحية الفيلم)، كانت بالنسبة للأخوين كوين نظرة منافية تماما عنها. عبر الكتالوج الساخر كان بوشيمي يجرع سخرية المخرجين الأميركيين من النظرة الحالمة لمدينة لا تبدو واقعا كما تظهر في الأفلام.

   

في الكتالوج صورة للموناليزا رمز ومعلم المدينة الأهم وهي تُحدّق عبر صفحات الكتاب إلى عيني بوشيمي، أمّا على الرصيف المقابل له يجد شابا وفتاة يُقبّلان بعضهما بشغف شديد. يبدو أنها بعد كلّ شيء مدينة المُحبّين بالفعل، ولكن هذه النظرة الحالمة سرعان ما تتبدد عندما يجد بوشيمي في كتابه تحذيرا من التحديق في عيون الآخرين في باريس وخصوصا داخل المترو.

    

كان التحذير متأخرا، فالشاب الذي يرافق حبيبته على الرصيف المقابل كان قد لاحظ تحديقه، حينها، يخرج من طوره ويبدأ بشتمه بالفرنسية فيما يجلس سائحنا الأميركي غير قادر على فهم ما يقول مما يزيد من تورّطه أكثر في هذا الموقف المُحرج. صدر هذا الفيلم كواحد من عشرين فيلما قصيرا عن مدينة باريس عام 2006 وكان عنوانه "باريس مع الحُب" والذي ضمّ مخرجين من جميع أنحاء العالم تحت ثيمة "مدينة الأضواء".(2)

   

(كريستوفر نولان – خنفساء – 1997)

    

رجل في غرفة يلاحق حشرة ولا يجدها. يبحث عنها في كلّ زاوية، يلقي بالأشياء عليها ويحمل حذاءه بيده تحسبا لظهور مفاجئ لها. بعد قليل سوف تظهر تلك الحشرة بوضوح عندما تهرب من بين قدميه، ولكن مهلا، هذه ليست حشرة بل إنها صورة مصغّرة منه، نسخة منه بحجم الخنفساء تفصله ثوان معدودة عن اللحظة التي سيهوي بحذائه عليها فقط لنكتشف نحن المُشاهدين أن حذاء أكبر، على مقاسه بالظبط، سيهوي عليه هو أيضا.

   

من المثير للإعجاب بأن هذا الفيلم الذي أعدّه نولان عندما كان طالبا يدرس الأدب استطاع فيه خلق عالم بقوانين تحكمه في غضون أقل من ثلاث دقائق فقط.(3) مع مرور السنوات أثبت نولان من خلال أفلامه ولعه بتصميم وتصوير أي عالم بديل للواقع، والتي فيها ما يُنافي منطق الواقع الحالي، بل إنه أحيانا يسعى لتشويهه. استخدم نولان الأبيض والأسود للفيلم وزوايا تصوير مثيرة للإعجاب نظرا لضيق مساحة المكان علاوة على تفاوت أحجام الشخصيات فيه.

   

ليس من السهل تحديد المغزى من وراء الفيلم أو معنى ما يحدث فيه رغم أنه بسيط للغاية. واحدة من النظريات تقول بأنّ الرجل أراد قتل ماضيه والمضي قدما ولكنه قُتل في نهاية المطاف على يد مستقبله،(4) وهي المعاناة التي يتركه العالم لخوضها حتى الرمق الأخير قبل أن يقرر القضاء عليه، ولكن تبقى نظريّة "الجنون" هي الأكثر منطقيّة ونقدا للمجتمع،(5) أيّ إن الرجل يعاني من خلل عقلي لا يؤثر فقط على المحيطين به ولكنه يؤثر على نفسه التي تتحول كلما تقدّم في الوقت لأكثر عرضة للخطر حين يُنهي حياته وسط مهزلة وجودية.