فرنسيس بيكون.. الفنان الذي ألهم نولان "الجوكر"
علينا أن نعود للفن لكي يرشدنا ويعلمنا كيفية التعبير عن الأشياء التي تتجاوز الحوار
– كريستوفر نولان
يرى البعض أن الجوكر في الحقيقة بالرغم من أنه مختل نفسيا إلا أنه هو البطل الحقيقي لفيلم فارس الظلام، إذ أن الجوكر بالرغم من ادعائه العكس كان هو "الرجل صاحب الخطة" طوال أحداث الفيلم، فقبل ظهوره كانت جوثام عبارة عن مستنقع من الفوضى العارمة، وعندما أتى الجوكر في فترة قصيرة كان قد تم القضاء على الجريمة المنظمة بالكامل تقريبا، ومعظم الفاسدين إما مات أو سجن، كان هذا جزءا من خطة الجوكر التي لم يعترف بها.(2)
لقد كان أول ما فعله الجوكر هو السطو على بنك تتحكم فيه المافيا، وخلال عملية السطو تم التخلص من لصوص البنوك الخبراء الذين ساعدوه في تنفيذ السطو، لم يكن غرض الجوكر النقود، كان هدفه هو استدراج "لاو" المختبئ. ونجحت خطته، وذهب باتمان كي يوقع به ويسلمه للعدالة في جوثام. "كلُّ هذا بالطبع هو حبكة الفيلم فقط، لكن الچوكر يلعب لعبته بشكلٍ رائع، فيقتل بعض كبار المجرمين والمسؤولين الفاسدين الذين يقدرون على عزل من هُم على القمَّة. الحقيقة أن هارڤي دِنت نفسه طرح فكرة عزل الكبار في صالح تنظيف الشوارع من المجرمين صغيري الشأن، لكن الچوكر كان يعلم أن هذا لن يصلح على المدى الطويل".(3)
حتى أن مشهد السفينتين في ذروة الفيلم كان يبرهن به لأهل جوثام على أنهم لن ينقلبوا على بعضهم تماما، وأثبت أن هناك بعض الخير حتى في أعتى المجرمين. في النهاية تنتهي جوثام نظيفة، لكن ليس بسبب هارڤي دِنت الذي مات قبل أن يقوم بأي إنجازات حقيقية، وليس بفضل باتمان الذي نُبِذَ طوال ثمان سنوات وعومل كالمجرم الذي كانه حقًّا. لقد أصبحت جوثام آمنةً لأن الچوكر نظَّف الشوارع من الحثالة، وقضى على الجريمة المنظمة بتجفيف منابعها المالية، ودمر رجال الشرطة الفاسدين، ورفع روح أهل المدينة المعنويَّة، "بل وتخلَّص كذلك من هذا الحشرة المجنَّحة الذي ظلَّ يُفسد جوثام منذ نصَّب نفسه حاميًا لها".(4)
– أنا لا أؤمن بالحضارة
– ماذا تقصد بأنك لا تؤمن بالحضارة؟
– بيني وبين طفولتي حرب مستعرة، حرب بين ما طبوعي عليه وما عرفته!
جزء من حوار مع فرانسيس بيكون
لم تكن التشوهات والندبات في وجه الجوكر هي فقط ما أخذه نولان من بيكون، بل إن شخصية الجوكر بكاملها تجسد الكثير من رؤية وفلسفة فن بيكون. إن شخصيات بيكون تدور حول نفسها دورانا عاصفا، يطيرون في الهواء ويتحركون في غضب ويجلسون على لا شيء، إنهم فزعون وخائفون أو ربما غاضبون، أشخاص مشوهو التفاصيل، "يغلب عليهم الإحساس بأن هناك زمنا ماثلا مصطرعا بالدمار وبالتمرد وبفقدان الأمل". يقول أحمد فؤاد سليم:
"ظل بيكون حريصا على تفصيل التشريح الآدمي للأشخاص، ليس بقصد جذب المتلقي، أو منافقته على حساب قيم الجمال والفن، وإنما بقدر ما تستطيع هذه التفاصيل أن تضفيه من شحنات السخرية والمرارة في المحتوى.. ولعل لوحة (الرجل الذي يدور) هي إحدى الأعمال البالغة الروعة التي استطاع بيكون يجسد فيها ذروة الإحساس باللاشيئية والعبث والعذاب والحزن".(5)
ولم يكن بيكون يستعين بموديلات في رسم لوحاته، لأنه كان يشعر أنه من الصعب إضفاء التشويهات عليهم في حضورهم، ولم يكن يروق له أن يُقال إن وجوهه قاسية وكان يقول: "الحياة هي القاسية وليس أنا، إن العمل الإبداعي في حد ذاته هو عمل شرس". واستمر بيكون على مدى نصف قرن من الزمن يشوه الجسد البشري، وقد اقتبس من الشاعر اليوناني أسخيلس "رائحة الدم البشري لا تبرح عيني".
لقد ساقه بحثه الهاجسي عن لغة الجسد الخفية "إلى أصقاع تغدو فيها الملامح والألوان صراخا وصيحات وقد عززت حياته الفوضوية وانعزاله في زوايا المجتمع الهامشية، بسعادة وتعاسة متوازيين، رائحة الفضيحة واليأس في أعماله". لقد طور بيكون موضوعا واحدا فريدا (الشكل البشري، المسحوق، المتورم، المعذب سرا) محاطا بأقفاص ومقاعد مريبة، ومرايا مشوهة وأحواض غسيل، وكان هذا عنيفا وصادما لكنه كان يعقب قائلا: "ما تشاهدونه في التليفزيون هو أسوأ بكثير".(6)
أرغب في إحداث تأثيرات حادة في السحنة والشكل حتى يبدو مبهرا من تسديد الضربات، ومن طريقة الاغتصاب، لكي يبقى مثيرا للإشفاق، باعثا على العطف والبكاء
– فرنسيس بيكون
يقول بيكون: "أعيش فوق ما يشبه المزبلة"، فهو لم ينظف مكانه لمدة تزيد عن خمس وعشرين سنة، في أرضية مرسمه تراكم أكثر من عشرين سانتيمتر من الألوان اليابسة، لدرجة أن نبتت فيها بعض الأشياء الغريبة: "لويحات منسوخة، أحذية لا تجانس بينها، اسفنجات تالفة، صور ساحبة بفعل الزمن، كتب عتيقة، بطاقات بريدية، دفقات ألوان ملتوية على الجدران"، لقد كان مرسمه يشبه انفجار مخزن للدهانات. هذا هو مكان ابداع بيكون الفني، الذي عندما يدخله تنبثق الصور الجديدة والأفكار في مخيلته.(7)
أظل آملا ومتوقعا أن تأتيني الأخيلة طافية، فأنا أعتقد كثيرا في تلك الفوضى الرائعة، في الترتيب الفطري المفاجيء للأشياء
– فرنسيس بيكون
|
إن القراءة الأولى لأعمال بيكون فضلا عن البحث في فلسفته تشير بوضوح لذلك الرابط الذي بينه وبين شخصية الجوكر في فيلم فارس الظلام. الإيمان بالفوضى ومحاولة كشف الأقنعة التي يختبأ خلفها الجميع. لم يرسم بيكون الألم إلا من وحي تجربة ذاتية قاسية جدا في طفولته مع والده ومعاناته مع مرض الربو وربما شدة حساسيته تجاه قسوة وجنون العالم. كذلك ندوب الجوكر التي كان يروى أسبابا مختلفة لها. في 2009 فاز هيث ليدجر بأوسكار أفضل ممثل مساعد عن أداءه في دور الجوكر، لكنه مات فجأة قبل أن يتسلم الجائزة وقد قيل مرارا أن "الجوكر" قد قتله.